*حدث لسردية تاريخية لا سابق لها وتحدث لأول مرة عندما يتم نقل مباشر المؤتمر الصحفي في البيت الأبيض ونشاهد مثل تلك المشادة الكلامية والانفعال والعصبية , والتي تحولت بمرور الدقائق الى معركة كلامية حامية الوطيس بين كل من “ترامب” و “زيلينسكي” التي لم يخرج من هذه الحلبة على أثرها أي منتصر , إلا قيصر روسيا وبالضربة القاضية ومن أهمها كان عدم التوقيع على معاهدة المعادن النادرة الأوكرانية.
*البدلة الرسمية لـ”زيلينسكي” لم تكن تغير أي شيء مما جرى في المؤتمر الصحفي , وكان مجرد سؤال ساذج هدفه فقط أحراج الرئيس الأوكراني أمام شعبه وعدسات الكاميرا والصحافة والإعلام.
*هذا ما شاهدناه ونقلته لنا كاميرات الصحفيين , ولكن ما الذي كان يحدث خلف الكاميرات والأبواب المغلقة بين الرؤساء الأمريكان وضيوفهم من الملوك والرؤساء العرب , وبالأخص الحكومة العراقية الذين كانوا يحجون للعتبات البيت الأبيض لتقديم فروض الطاعة والولاء واستلام الأوامر لتنفيذها ؟
سوف نبتعد في هذا السياق ونخالف جميع التوجهات للكتاب والإعلاميين والصحفيين عن ما قالوه أو ما سوف يتم كتابته خلال الساعات والأيام القادمة وما سوف يتم تحليله من خلال البرامج الحوارية السياسية التي سوف تتناول هذا الحدث بشيء , وبدورنا سوف نركز قدر الأماكن في هذا المقام على تعابير الوجه , وما أخفته لنا لغة الجسد , وتحليل الديناميكيات لكلا الرئيسين , ومن خلال شعور الرئيس “زيلينسكي” بالخذلان وخيبة الأمل و الصفعة التي تلقاها من قبل “ترامب” التي لم يكن يتوقعها أن تكون بهذه الصورة المفاجئة له , التي عكست معها مدى وعمق ما وصل له هذا التوتر، ومع سيطرة “ترامب” على المشهد و “زيلينسكي” بموقف أضعف للدفاع , وأمام هجوم لاذع مستمر ومتواصل تطور من خلال لغة الكلام القاسية بان يقلد “ترامب” وهذا ما نعتقده بطريقة حديث الرئيس الأوكراني بصورة ابتعدت كثيرا عن الأعراف الدبلوماسية واللياقة اللغوية؟.
يوم الجمعة 28 فبراير 2025 سوف يسجل فيه الإعلام هذا الحدث التاريخي غير مسبوق والذي كان بمجمله مفعم بتوتر شديد ومشادات كلامية حادة، مما أدى إلى طغيان لغة العصبية والانفعال على لغة الحوار البنّاء الذي كان متوقعًا من كلا الطرفين أو على الاقل من قبل الطرف الضيف بالبيت الأبيض ولمناقشة طريقة وسبل إنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية وبأقل الخسائر الممكنة للجانب الأوكراني، يمكن لنا في سياق هذا المقام وحسب ما شاهدناه مباشرة من على شاشات التلفزة , نستطيع بدورنا أن نلخص ما حدث لتحليل الأسباب ولغة الجسد وما أخفته لنا تعابير الوجوه التي ظهرت بوضوح على جميع الحاضرين , ونترك التعليق كذلك لإصحاب الاختصاص من الأطباء النفسانيين ومن محللين لغة الجسد للتصويب والتعقيب ما سوف نطرحه بدورنا في هذا السياق وبالصورة التالية:
1ـ ما الذي حدث بالضبط؟
خلال اللقاء بالمكتب البيضاوي وبحضور جمع من الصحفيين والإعلاميين ومن مختلف القنوات الإخبارية، بدأ الحديث بعد فترة يأخذ أبعاد كلامية ولغوية ليخرج عن نطاق السيطرة تدريجيا وبدا التوتر والانفعال يطغي على المشهد , وذلك عندما حث “زيلينسكي” الرئيس “ترامب” على توخي الحذر في التعامل مع روسيا، ومشددًا بالوقت نفسه على ضرورة تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا لان المستقبل سوف تشاهدون روسيا امام حدودكم , ولكن رد “ترامب” كان بلهجة حادة، ومنتقدًا بالوقت نفسه “زيلينسكي” بشدة ومتهمًا إياه بالوقت نفسه وذلك بعدم إظهار الامتنان الكافي للدعم الأمريكي. ووجه له “ترامب” مياشرة عبارات قاسية نعتقدها خرجت عن سياق اللياقة الدبلوماسية مثل: “أنت هنا لست في موقف يسمح لك بإملاء الشروط” وكذلك “تصريحاتك تفتقر للاحترام” و”أنت تخاطر بإشعال حرب عالمية ثالثة” ومحذرًا له من أن الولايات المتحدة قد تسحب دعمها إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق قريب . ولكن من جهته، حاول “زيلينسكي” الدفاع عن موقفه قدر الإمكان وتلافي اللغة الحادة والصريحة غير المتوقع له ، ولكنه بدا في موقف دفاعي أكثر مما هو في رد على ما قاله إليه “ترامب ” مما زاد بعدها من حدة المواجهة. وانتهى اللقاء دون توقيع اتفاقية كانت متوقعة في هذا اللقاء , حول الثروات المعدنية الأوكرانية، وبدا لنا صورة المشهد بأنه تاريخي وغير مسبوق بسبب الإهانة العلنية التي تعرض لها “زيلينسكي” والتي كانت بمثابة صدمة له بأن يسمع مثل هذا الكلام علنا وأمام جميع أنظار الرأي العام.
2ــ لماذا طغت لغة العصبية الحادة والانفعال على لغة الحوار والتفاهم؟
نعتقد بأن تباين الأهداف الاستراتيجية , التي يبدو من خلالها بأن الرئيس “ترامب” يسعى لفرض تسوية سريعة لإنهاء الحرب بالسرعة الممكنة والمتاحة له , لغرض التفرغ والتركيز على مصالح أمريكا الاقتصادية والسياسية وحربه الاقتصادية التي يريد أن يشنها على الصين والاتحاد الأوروبي وبقية الدول من خلال فرض الضرائب على جميع السلع والمواد الانتاجية ، وبما يتماشى مع رؤيته لإنهاء الصراع بأقل تكلفة ممكنة على دافعي الضرائب الأمريكيين لأن مبلغ 350 مليار دولار أنفقته أمريكا لغاية الآن لدعم أوكرانيا في حربها , مبلغ طائل لا يستهان به ,ولكن في المقابل، يصر “زيلينسكي” على حصوله على ضمانات أمنية امريكية تكون طويلة الأمد، رافضًا بالوقت نفسه تقديم أي تنازلات ومهما كان نوعها لروسيا , وكذلك الإصرار من قبله على أن يكون لهم دور ومشاركة فعالة وراي في المفاوضات. وأن لا تقرر مصيرهم دول أخرى على حساب مصالحهم القومية وهذا التباين أحد الأسباب الرئيسية والذي أدى بدوره إلى احتدام الخلاف وتطوره بهذه الصورة المفجعة.
3ــ الضغوط التي يواجهها الرئيس الأوكراني على جميع الجبهات القتالية:
أوكرانيا تواجه وضعًا عسكريًا صعبًا مع تقدم روسيا على كافة المحاور واحتلالها مدن وبلدات استراتيجية يصعب إعادتها حاليا من قبل الجيش الأوكراني ,مع ضعف الإمدادات بالمعدات العسكرية الوسائل القتالية القادمة سواء أكانت من قبل أمريكا أو من دول الاتحاد الأوربي، مما يضع “زيلينسكي” تحت ضغط داخلي وخارجي لتحقيق مكاسب عسكرية ودبلوماسية والذي كان يأمل بدوره، وعلى الأرجح لنا ومن خلال متابعتنا عن كثب لهذا الموضوع ، أن في هذه الزيارة سيحصل على إدامة وتعزيز الدعم الأمريكي لأوكرانيا في مواجهة روسيا، وخاصة في ظل الوضع العسكري الصعب الذي تمر به بلاده. ولكن بدلاً من ذلك، واجه توبيخًا علنيًا وصريحا من “ترامب “،بما في ذلك اتهامات بعدم الامتنان والشكر لأمريكا وتهديدات علنية بسحب الدعم وأن لولا الدعم الامريكي فإنك ستكون خاسر في هذه المعركة . وهذا التحول والذي كان يتمن أن يستمر ومن دعم متوقع إليه , ولكنه تفاجئ بصورة بانت على وجه “زلينسكي” الذهول والصدمة حتى وان حاول إخفاءها وانتقاد لاذع موجه له ومن المؤكد لنا بأنه أثار صدمة وخيبة أمل كبيرة له.
4 ــ لغة الجسد خلال اللقاء عكست مدى التوتر ومن له الغلبة والسيطرة فيما بينهما:
*الرئيس “ترامب” أصبح معروفا لنا وواضح لجميع الري العام , باتخاذه دائما أسلوب الصدمة والترويع والمواجه المباشرة مع الخصم سواء أكان يعتبره حليف أو عدوا، وأظهر هيمنة واضحة من خلال نبرة صوته العالية وحركات يديه القوية وبالأخص طريقة لمس كتف “زيلينسكي” أثناء التحذير، ونعتقد بأنه تصرف غير معتاد في البروتوكول الدبلوماسي، ويشير لنا هذا التصرف إلى محاولة فرض السيطرة أو التأكيد على التوبيخ من قبله.
*بينما الرئيس “زيلينسكي” ، رغم مرونته السابقة، بدا مصرًا على موقفه هذه المرة على غير العادة، مما أشعل فتيل الصدام أكثر في المؤتمر الصحفي. تصرفات “ترامب” غير المتوقعة، مثل التوبيخ علنًا، عكست رغبته في فرض الهيمنة، بينما ردود “زيلينسكي” بدت لنا كأنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه للحفاظ على كرامة بلاده ولو بالحد الأدنى والخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة , ولأنه بدا لنا انه كان في وضعية دفاعية طوال فترة اللقاء الصحفي، حيث لوحظت يداه متقاطعتان أحيانًا أو قريبتان من صدره، وهي إشارة إلى التوتر أو محاولة حماية النفس نفسيًا. وتعابير وجهه ربما عكست الإحباط أو الاستياء، لكنه حاول باستمرار وقدر الامكان الحفاظ على رباطة جأشه أمام الكاميرات.
صحيح قد يكون “زيلينسكي” قد توقع بعض التوترات بناءً على تعاملات سابقة بين رؤساء الدول أو من خلال تصريحات “ترامب” السابقة حول الحرب وصفه بالدكتاتور علنا ، لكن حدة الهجوم العلني والتهديدات المباشرة ربما فاقت توقعاته ووضعته في حيرة من الأمر , وهذا ما شاهدناه من خلال لغة الجسد وما ارتسم على وجهه. كما أن شخصيته كممثل مسرحي سابق إعتاد معها نوع من المرونة وعلى الضغوط وتعليقات الجمهور قد ساعدته على امتصاص الصدمة ولو جزئيًا، لكن هذا لا ينفي لنا شعوره بـ الخذلان والصدمة وبخيبة الأمل على المستوى الشخصي والسياسي.
أن ديناميكية مجريات التي كان عليها الرئيسيين خلال المؤتمر الصحفي والمسافة بينهما، وتوجيه ترامب للحديث مباشرة نحو زيلينسكي بينما نلاحظ بدوره بانه كان يجلس في وضعية أقل هجومية وبطرف الكرسي ولم نشاهده ابدأ من وضعية جلوسه انه كان مرتاح في قرارة نفسه لهذا اللقاء ونعتقد جليا بانه قد تورط بعد أن اتخذ المؤتمر الصحفي بعدا أخر وخرج عن نطاق السيطرة، مما عززت لنا بصورة أكثر واقعية انطباع الاختلال في موازين القوة فيما بينهما من منطلق صيغة العبارات والجمل التي استخدمت خلال اللقاء.
لقد كشف لنا هذا اللقاء بصورة واضحة وجلية وغير قابلة للشك أو التأويل , التي حاول رؤساء الاتحاد الأوربي مجتمعين ومعهم الرؤساء الأمريكيين السابقين لغرض إخفاءها عن انظار الراي العام طوال السنوات الثلاث السابقة، عن مدى ما وصل إليه الانقسام العميق والتخبط والعشوائية في الرؤى الاستراتيجية وتابعاتها السياسية وعدم اتخاذ القرارات الصحيحة التي تضمن معها مستقبل أوكرانيا، حيث شاهدنا كيف غلبت لغة الانفعال والعصبية على لغة الحوار والتفاهم بسبب الضغوط السياسية والعسكرية والاختلافات الشخصية. لغة الجسد عكست هذا التوتر، وبدلاً من تقديم حلول نحو حل نهائي للحرب وتجنب المزيد من الضحايا المدنيين والتدمير البنى التحتية، أبرز لنا هذا المؤتمر الصحفي التحديات الكبيرة والشرخ العميق التي تواجه أي تسوية مستقبلية. لان بالمقابل، يواجه ترامب ضغوطًا داخلية لتحقيق وعوده الانتخابية بإنهاء الحرب بسرعة، مما جعله يتبنى موقفًا صلبًا وحاد وقاسي وغير مرن.
سجّل التاريخ يوم الجمعة، الثامن والعشرين من شباط 2025، لحظة فارقة قد تعيد معها صياغة مسار الحرب الروسية الأوكرانية، ومن خلال قراءتنا لسردية المؤتمر الصحفي الذي استمر بدوره لمدة 53 دقيقة، كشفت لنا عن تحولات عميقة في المشهد السياسي والعسكري. لقد بدا أن الاتحاد الأوروبي، بوعوده المغرية للرئيس الأوكراني زيلينسكي بالانضمام إلى صفوفه، قد نصَبَ فخًا محكمًا، مستغلاً اندلاع الصراع مع روسيا كورقة ضغط. كانت الصفقة غير المعلنة واضحة وجلية لنا: “نحن ندعمكم بالمال والسلاح، وعيكم الرجال”، لكن ما لم يدركه زيلينسكي هو أن الأدوار الهزلية التي اعتاد تقديمها على خشبة المسرح لإمتاع الجماهير لا تشبه بأي حال من الأحوال تلك العروض التي يقدمها من على خشبة المسرح السياسي التي يؤديها اليوم.
ففي دهاليز السياسة المعتمة، تحولت فرح ضحكات الجمهور التي كان يسمعها “زيلينسكي” سابقآ إلى دموع وحسرة واحزن لشعبه ما تزال مستمرة لغاية الان ، وأضحت عروضه التراجيدية المأساوية المستمرة مسرحية دامية تُزهق فيها الأرواح وتُدمر الأوطان. وعلى الرغم من ذلك، يواصل “زيلينسكي” أداءه المسرحي دون أن يلوح في الأفق أي حل لإسدال الستار على هذا العرض المميت. ويبدو لنا بأن المخرج الأمريكي، الذي يمسك بزمام تفاصيل ما موجود بالسيناريو، لن يسمح بانتهاء الفصل الأخير من هذه المسرحية , إلا بعد أن يضمن حصته الكاملة من غنائم الثروات الأوكرانية، تلك المعادن النادرة التي تُعد الجائزة الحقيقية لثمن هذا العرض المرير. على خشبة مسرح السياسة، تتكشف الحقائق بتحليل دقيق، لتظهر أن الصراع الروسي/ الأوكراني ليس سوى لعبة مصالح دولية، تُدفع تذاكر هذا العرض ثمنها بدماء الأبرياء. لان على خشبة مسرح السياسة، وحيث تتشابك الأدوار وتتعدد الأقنعة، يتجلى الحدث بكل عمقه وتعقيده، ليكشف عن ديناميات السلطة والتأثير السياسي الخفي , التي تحرك معها المشهد بعناية موزونة وتحليل دقيق , وفي النهاية لم يخرج من هذا المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض رابح إلا قيصر روسيا و بالضربة القاضية.