19 ديسمبر، 2024 3:00 ص

قوميو العراق وشبهة الميول الفاشية

قوميو العراق وشبهة الميول الفاشية

جلبت أحداث المانيا النازية وتطوراتها، أنظار الرأي العام العراقي منذ البداية، مما تجسد قبل كل شيء في الصحافة العراقية بوصفها الأداة الأولى يومذاك للتعبير عن مشاعر الرأي العام وتحديد اهتماماته، فأن عدداً كبيراً من الصحف العراقية تابعت أهم الوقائع بل وحتى العديد من ظواهر الأشياء الثانوية التي شهدتها الساحة السياسية والأجتماعية والاقتصادية لألمانيا النازية مع التركيز على إفرازاتها على الصعيدين الداخلي  والعالمي، ولقد طال الأمر جميع الصحف العراقية ودون أي استثناء، بغض النظر عن إتجاهاتها وحجم تأثيراها على اوساط الرأي العام.
وللاستدلال، نشير الى ان تلك الصحف كرست العشرات من مقالاتها الافتتاحية وغيرها للموضوعات المتعلقة بألمانيا النازية وايطاليا الفاشية، وفي حالات غير قليلة كان العدد الواحد من معظم تلك الصحف تنشر اكثر من مكان واكثر من خبر عن تلك البلاد وباسلوب يجلب انظار قرائها.
وعلى الغرار نفسه، تحول كل مايتعلق بالمانيا النازية وايطاليا الفاشية، وتحركات واقوال زعيمهما، الى حديث المجالس العامة والخاصة، وفي الدوائر الرسمية والمقاهي، وبين الطلاب والتجار، وفي صفوف المثقفين والساسة بصورة خاصة، مما كان يؤلف في مجموعه رأياً تميز بحيوية واضحة نابعة عن تقليد موروث كونته ظروف موضوعية تاريخياً.
لم يكن تقويم اوساط الرأي العام العراقي لالمانيا النازية في البداية بالمستوى المطلوب عموماً، مما نجم عن اسباب متباينة منها عدم وضوح الابعاد الحقيقية للنازية في ذهن العراقيين، ومستوى الوعي العام الذي لم يكن بوسعه حينئذ فرز مثل هذه الظواهر بدقة، مما كان يتطلب دراسة فكرية متمعنة بعيدة عن التأثيرات الاعلامية والسياسية المباشرة، وهي لم تكن في متناول اليد اصلاً، كما ان ظهور المانيا النازية على الساحة تزامن مع مرحلة تأسيس الدولة العراقية الحديثة الطافحة بالمهمات الصعبة والمشكلات المعقدة في ظل الانتداب البريطاني، مما جعل من اكثر الموالين للتعاون مع بريطانيا يميلون الى اقامة حكم دكتاتوري على غرار الحكم النازي الالماني والفاشي الايطالي، بهدف تجاوز حالة عدم الاستقرار السياسي والصراع المتفاقم.
وللتوضيح اكثر نقول: ان مثل تلك الاوساط بما في ذلك شخص الملك فيصل الأول، والسياسي المحنك نوري السعيد، كانوا ينظرون الى تجربة الحكومة النازية الالمانية نظرة خاصة تؤشر الاستقرار السياسي في ضوء الواقع العراقي الذي شهد تأليف اربع عشرة وزارة في غضون اثنتي عشرة سنة من عهد الانتداب، فضلاًعن ذلك، كان عداء المانيا النازية الصارخ للدول الكبرى الاخرى، وخصوصاً لبريطانيا وفرنسا، يغري اوساطاً واسعة من الرأي العام العراقي التي كانت تضمر عداء قوياً مشروعاً تجاه الدولتين المذكورتين اللتين كانت ترى فيهما العقبة الكأداء الأولى امام تحقيق طموحات العرب.
وفي سياق تقويم اسباب مثل هذا القصور في فهم الرأي العام العراقي وامثاله لحقيقة المانيا النازية،علينا ان نأخذ الاساليب الديماغوغية للاعلام النازي بنظر الاعتبار، بصورة جدية ايضا، لانها كانت تعرض بضاعتها بشكل مغرٍ للغاية، كان من شأنها ان تهز عواطف الناس بقوة، خصوصاً البسطاء منهم.
بالمقابل بدأ الشرخ يعتري الصورة تلك، بشكل متواصل، وبتأثير عوامل محددة يأتي في المقدمة منها كشف القناع عن الوجه الحقيقي للنازية، وظهور قوى جديدة على الساحة العراقية، تميزت بعمق اكبر في ادراك بواطن الظواهر وخفاياها.
وقد دشنت الخيبة التي اصيبت اوساط عراقية واسعة بسبب موقف دول المحور من حركة مايس 1941، بداية انعاطفه كبرى في موقف الرأي العام العراقي الذي توقع مؤازرة اوسع منها لحكومة الدفاع الوطني، في خضم الصدام المباشر مع القوات البريطانية، الامر الذي صنفته تلك الاوساط على رأس قائمة اسباب اخفاق الحركة.
ومنذ ذلك الحين،  بدأت النازية تظهر امام العراقيين على حقيقتها بصورة اكثر واقعية من السابق،فلم يغض الطرف عن اساليبها الدكتاتورية في الحكم، وفي التعامل مع الجماهير، وعن اطماعها الاستعمارية، وطيش زعيمها، سوى القلة القليلة منهم، لاسباب لم تحتل تراكمات الحقد تجاه بريطانيا المقام الاخير فيها بالنسبة للبعض من القلة تلك… حيث دفع اوساط العراق المدركة الى التركيز بصورة خاصة على العمل المنظم، وعلى التحالف بين القوى الوطنية من اجل اقامة نظام ديمقراطي، رأت فيه الضمانة الاكيدة لتحقيق طموحات الشعب على الصعد كافة، ويعد كل ذلك شواهد مقنعة على تطور وعي الرأي العام العراقي بالاتجاه الصحيح في خضم التعامل مع ظواهر جديدة والاحتكاك المباشر بها،كانت المانيا النازية تؤلف واحدة منها دون ريب.
الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، يركز على تقارب مميز بين القوميين العرب العراقيين والمانيا النازية، خلال فترة الثلاثينيات والاربعينيات من القرن العشرين، سيما في شهر نيسان وايار/1941، حين تولت البلاد حكومة دفاع وطني، حيث خضع رشيد عالي الكيلاني الى تأثير مجموعة سيئة الصيت- حسب نعت المؤلف- مكونة من اربعة ضباط يطلق عليهم تسمية المربع الذهبي. وقد اصطفوا مع الحاج امين الحسيني مفتي القدس الذي كان يقيم انذاك في منفاه في بغداد، وتبنوا فكرته الراسخة بان تحالفاً مع المانيا النازية سيساعد العرب والعراقيين على وجه الخصوص في دفاعهم بوجه الامبريالية البريطانية. وقد قررت بريطانيا التي فرقتها الحرب، وضع حد للتمرد العراقي. فحين كان على الجيش العراقي مواجهة قوة عسكرية بريطانية اعظم في ايار /1941، لم ترسل المانيا وحليفتها ايطاليا سوى عدد محدود للغاية من الطائرات لمساعدة العراقيين، وخلال شهر واحد استعادت القوات البريطانية السيطرة على العراق وقامت باحتلال بغداد وكان الدعم المحدود جدا لطائرات المحور امراً غير ذي جدوى.
وباتت الحرب البريطانية- العراقية، فصلاً مهماً في قصة النضال القومي العربي ضد الاستعمار، وان حرب 1941، عدت حدثاً شاخصاً في قصة القومية العربية، وكذلك معلماً بارزاً للتدليل على التعاون العربي النازي.
وطبقاً لهذه الرواية، فأن التحالف الطفيف بين المانيا والعراق في 1941، استند الى تطابقات ايدولوجية، وهو اعتراض لقي دعماً اثر احداث الفرهود، وهي احداث جرت في احياء بغداد التي يقطنها اليهود اثر انتهاء الحرب البريطانية- العراقية، وتمخضت عن مقتل عدد كبير من اليهود فضلا عن الحاق الخسائر بهم.
لقد وجد باحثون،ان ثمة صلة بين القومية العربية والنظام القومي الاشتراكي(النازي) في المانيا، وهم لايميزون بين الاتجاهات المتعددة للمشاعر المؤيدة لالمانيا، كما لو ان جلها لم تكن الا مقدمة لتحالف الماني-عراقي قصير الامد خلال شهر من الحرب بين بريطانيا العراق في ايار/1941. والدراسة موضوع مراجعتنا تقدم دليل على ان المانيا لم تشكل سوى مرجع واحد من بين مراجع اخرى استند اليها القوميون. وهي_اي الدراسة- تتحدى الفرضية التي ترعى وجود صلة مترابطة ترابطاً منطقياً للنزعة المؤيدة للنازية والمؤيدة للفاشية والنازية للمثقفين والساسة العرب سيما العراقيين.
وفي حقيقة الامر، فأن معظم البحوث الاكاديمية بشأن الموضوع، لاتتعدى الرواية التي تفيد بوجود تأييد للنازية التي استخدمها تقرير رسمي للجنة عراقية على خلفية احداث الفرهود في 1941، والتقرير كتب بعد فترة قصير من وقوع الاحداث.
والدراسة/ الكتاب التي كتبها بيترفين، تتمركز حول مضامين النزعات المؤيدة للسلطوية، والشمولية، والفاشية، بين المثقفين العراقيين لمرحلة الاستقلال الاولى 1932/1941، ولابد من اعطاء الافكار المختلفة للنقاش اسماً محدداً على شاكلة التعاطف العربي- النازي، فأن هذه الحقول المرجعية الثلاثة تعد اكثر فائدة في وصم البنى الخاصة للخطاب القومي العربي ووضعها في سياقها الملائم.
الدراسة/الكتاب ضمت فصلين، استند الاول على المذكرات التي كتبها مثقفون وساسة عراقيون، وثمة تحليل دقيق للمضامين والبنى السردية، استنتج كيفية وسبب تعامل الشعب مع النماذج السلطوية والفاشية على نحو ايجابي وسلبي. فالرديكالية السياسية المتصاعدة لمجموعة من الافندية، كانت تعزى الى صراع الاجيال. ومهما يكن من امر، فأن محبة المانيا المضمورة في نفوس الاباء المؤسسين للدولة نجمت عن خلفيتهم بوصفهم ضباطاً عثمانيين سابقين.
وفي الفصل الثاني، ركز التحليل على النقاشات التي خاضها المثقفون والساسة وكانت صحافة ذاك الزمان مسرحاً لها. فثمة طيف واسع من المقالات الصحفية يجري تقديمها بوصفها امثلةً على الاشارة المباشرة لالمانيا والقومية الاشتراكية، مفضية الى تفسير للموضوعات المستعادة من النقاشات الواردة في الصحف. وهذا التحليل وضع بوضوح عبارات مؤيدة للفاشية واردة في الصحافة في سياق اكثر تمايزاً.
اما مايتعلق باختيار المصادر وتفسيرها، فانها تتبع اليوم مفهوم السرد الجديد في القومية العربية. فمنذ مطلع سبعينيات القرن العشرين اشتمل السرد الجديد على تعابير غير رسمية في تحليله، حيث تضمن على سبيل المثال المقالات الصحفية او مذكرات زعماء الحركة ممن لم ينتموا الى مجموعة المنظرين البارزين، وبالامكان وصفهم بالمنظرين الثانويين.
ولذا تختلف هذه الدراسة عن السرد القديم للقومية العربية الذي نص على نحو غير نقدي على وجود تأثير مشترك للفكر الاوربي. وطبقاً للسرد القديم فأن قبول الفلسفة الالمانية صاغ على نحو بارز المشاعر القومية العربية، الأمر الذي جعل الطريق مهيئاً للتعاطف مع القومية الأشتراكية. وبعد الايحاءات التي قدمها السرد الجديد يجري تقديم الادراك العراقي لالمانيا النازية في الاطار الاجتماعي السياسي المعقد لمجموعات من اصول اجتماعية متنوعة. والنتائج هي الاقرب الى تحليل مضامين النزعات المؤيدة للسلطوية والشمولية والفاشية، منها كبحث يخص مضامين اعمال رفيعة من حيث المستوى التنظيري.
ويتضمن المنهج منظورين: الاول هو منظور داخلي لتجربة الفرد وتمحيصها. وقد قدمت السيّر الذاتية والمذكرات معرفة عميقة بالجوانب السردية للافراد ومناهج تفسيرها. والثاني، هو منظور خارجي يتبع مناهج النقاش المتبعة على المستوى العام سيما في الصحافة. وتكمن احدى عيوب البحث الخاص بالعراق خلال فترة الحرب العالمية الثانية في معظم الدراسات استنادها الى الارشيفات الغربية سيما البريطانية والامريكية مع الاعتماد على بعض الارشيفات الالمانية والايطالية.
كانت الصلة بين العرب والالمان هامشية على وجه العموم طوال الفترة النازية في المانيا. وقد حاول بعض العرب الحصول على دعم مناهض للاستعمار من عدو عدوهم. وقد بدا واضحاً لبعض القوميين العرب التماس الدعم من المانيا القوية التي نجحت في تحدي بريطانيا وفرنسا. وبات شائعاً بين هؤلاء القوميين العرب الزعم بأن للعرب والالمان مصيراً مشتركاً, لان كليهما تعرض للغدرعلى يد بريطانيا وفرنسا في معاهدات السلام اثر الحرب العالمية الاولى . وقد انبثقت احزاب ومنظمات مؤيدة ظاهرياً للنازيين في الوطن العربي كالحزب القومي الاجتماعي السوري والكتائب في لبنان. والاكثر وضوحاً ان الاتجاهات المؤيدة للفاشية والمتعاطفة مع النازية تبلورت في حركات شبابية لاحزاب قائمة كمصر الفتاة في مصر. وقد اظهرت هذه الحركات حساً بالروح الجماعية وشعورا بوطنية متقدة، فضلاً عن خضوع افرادها لتدريب شبه عسكري، واعضاء هذه الحركات استمدو من النازيين الاوروبيين زي قمصانهم ذات اللون المميز.
وعلى العموم، كان النهج الايدولوجي لحركات الشباب هذه سطحياً للغاية، فالاعجاب بالقوة القومية الالمانية والايطالية والتعافي من آثار الهزيمة بعد الحرب العالمية الاولى، فضلاً عن الانضباط والكفاءات، شكلت الخلفية الايدولوجية لهذه الحركات، وكانت هذه الحركات ذات اطار يقترب من النازية بدلاً من كونه نازياً، ولذا ينبغي عدم المغالاة في التركيز على الرابطة الالمانية– العربية.
احتوى الخطاب القومي العربي في العراق لتلك الفترة- عقد الثلاثينات والاربعينات- على اوجه متعددة للسلطوية والشمولية والنازية/ الفاشية السائدة في اوروبا واماكن اخرى. وقد تراوحت بين الرفض المطلق والقبول الكلي للقيام بتنظيم شمولي للمجتمع. ولذا فأن تحليلاً لخطاب ثلاثينات القرن العشرين ومطلع اربعينياته لايدعم السرد الاحادي الطابع للميول العراقية المؤيدة للنازية.
وثمة تحليل ثانٍ زعم ان محبة المانيا في نفوس الضباط العرب العثمانيين السابقين وتأثير الشخصية القومية ساطع الحصري في مناهج التاريخ المقررة في المدارس وتأثير الدعاية الالمانية، كلها عوامل افضت الى بلورة موقف شعبي عام مؤيد للنازية، ومن ثم فأن بعض الباحثين عدو حركة رشيد عالي الكيلاني في 1941، بوصفها تعبيراً عن موقف ايديولوجي عام مؤيد للفاشية تبنته القيادة والشعب في العراق. والاكثر من ذلك ان اشارات ورموز في الخطاب القومي اطلقت تلميحات الى النماذج السلطوية والشمولية وعلى نحو علني، الفاشية. ومع ذلك فقد ظلت هذه التلميحات سطحية تماما.
ان الصورة الايجابية لالمانيا على وجه الخصوص لم تكن محط قبول واسع عند جميع العراقيين، وان محبة المانيا المتوارثة للضباط الشريفيين تتماشى مع النزعة العسكرية، لان المانيا كانت انموذجاً بتوحدها المنجز بالعنف في ظل الزعامة البروسية. ولم تكن لهذه الصورة علاقة بالفاشية بل لم تكن لها صلة مباشرة بالمانيا، فهي متوارثة عن التقاليد العثمانية، وكان للقوة المطلوبة لجيش عراقي مدلولاً مستمداً من النهضة القومية التي كانت موضوعاً مهيمناً على الخطاب القومي. ولابد للقوة العسكرية والزعامة العظمى ان تحدث قوة قومية.
لقد تمثلت نقطة انطلاق دراسة الدكتور بيترفين، في اجراء بحث عن الفهم العراقي لالمانيا النازية. وبذا يستعيد التحليل مفاهيم عدة من بحوث تتعلق بالمانيا وبمعنى اوسع الاتجاهات الاوربية الخاصة بالمفاهيم السلطوية الشمولية على شاكلة صراع الاجيال. وبهذه الطريقة كان بالامكان التعامل مع الظاهرة العراقية بأطار بحثي اوسع كثيراً يتناول الاتجاهات السلطوية والشمولية.
وفي حقيقة الامر، ثمة تطابقات ملفته للانتباه بين التطورات الاوربية ومضامين الخطاب العراقي. ومع ذلك فأن المقارنة بين الاثنين محدودة. وفي العراق حيث قدمت الدراسة وصفاً للنقاش الدائر، فأن النازية والسلطوية كان لهما في اوروبا تأثير ملموس. ولذا فأن تطبيق المفاهيم لايوحي بوجود اوجه لهما في اوروبا بين التطورات الاوروبية والعراقية.
والسلطوية بوصفها مفهوماً ظهر بعد الحرب العالمية الاولى، تهدف الى اعطاء اسم لظاهرة مروعة لديكتاتورية القرن العشرين بدلاً من تقديم صنف تحليلي. ومنذ ذلك الوقت فأن جوانب عدة لتعريف السلطوية قد امست محط قبول على نحو واسع. ومثال على ذلك، هدف اعادة صياغة قيم المجتمع على نطاق واسع والغاء استقلال السياسة والمجتمع والفرد.
وتختلف السلطوية عن الشمولية من حيث انها في الاول تمثل حزباً حاكماً مفرداً يدعم ايديولوجية حصرية مجسدة في الزعيم، ويستخدم التعبئة الجماهيرية بغية تحقيق سيطرة كاملة على المجتمع. وفي الثانية يكون للمجتمع مستوى ادنى من التسييس مع السماح بتعددية محدودة، ويلعب العرف دوراً مميزا في النظام السلطوي، وبدلاً من الايدولوجية يقوم الاطار الذهني بصياغة النظام.
ان مصطلحي السلطوية والشمولية لم يعرضا على بساط البحث بما هو عليه الامر في النقاش الذي كان دائراً في العراق. ومع ذلك،فقد مثلت الشكل المفاهيمي لوصف الظاهرة الجديدة المتمثلة بالفاشية في اوروبا، وبذا فأن ايطاليا والمانيا والى حد معين الاتحاد السوفياتي (السابق) كانت تعد بوصفها نمطاً جديداً تماماً للدكتاتورية السلطوية الحديثة.
ومهما يكن من امر فأن هذه الدراسة ليست دفاعاً عن العراق العربي ازاء مزاعم تأييده للنزعات الشمولية بالضد من نخبة البلاد المثقفة والسياسية.
وفي حقيقة الامر، فأن التلميحات بالمبادىء السلطوية والشمولية في المصادر المتوافرة تكتسب ثقلاً اكبر في الاصوات الليبرالية. وفضلاً عن ذلك، فأن مناقشة المبادىء السلطوية بوصفها منهجاً لنهوض العراق العربي كانت ذات طابع سطحي للغاية. وقد تم استعادة شعارات وافكار معينة من مصادر غريبة من دون دراسة مضامينها دراسة شاملة.
ان ابرز مايمكن ان نستنتجه من هذه الدراسة، ان الرأي العام العراقي تأثر بشكل واضح بالتجربة الالمانية التي حدثت في ظل الحكم النازي، الا ان هذا التأثير لم يكن مبنياً على قناعة حقيقية بالفكر النازي، فهناك من هاجمه وعده فكراً لايختلف عن بقية الافكار الغربية القائمة على السيطرة والاستعمار، الامر الذي من شأنه ان يوضح ان اعجاب الرأي العام العراقي بالنازية كان مقتصراً على الجانب العملي، فمن المعروف ان التجربة النازية اثبتت نجاحها في تخليص المانيا من بنود معاهدة فرساي، تلك المعاهدة التي كانت ضحيتها كلتا الامتين العربية والالمانية، اذ واجهتها مصيراً متشابهاً بعد الحرب العالمية الاولى، فضلاً عن العداء الواضح بين النازية وبريطانيا العدو التقليدي للعرب بسبب سياسة الاخيرة المعروفة في الوطن العربي، وموقفها المعادي لطموح العرب في الحرية والاستقلال، وتحت وطأة هذه الظروف كلها كان من الطبيعي ان يتجه العرب في مشاعرهم لمساندة أي دولة تكن العداء لبريطانيا عملاً بالمثل القائل عدو عدوي صديقي.
لقد توصلت خلال بحثي في صحافة تلك الفترة الى نتائج قريبة من التي توصل اليها المؤلف في بيتر فين حول مدى التأثير الذي تركته التجربة النازية على الرأي العام العراقي اذ اطلعنا على الصحافة العراقية التي كانت حريصة على متابعة آخر التطورات في المانيا، بداًء من وصول هتلر الى السلطة عام 1933، من خلال مجموعة من المقالات التي تثني في اغلب مضمونها على الاعمال التي قام بها هتلر لانقاذ المانيا من معاهدة فرساي المذلة واحياناً كثيرة كانت هذه المقالات ممزوجة بالمقارنة بين اوضاع المانيا بعد تسلم هتلر الحكم والغائه معاهدة فرساي، وبين اوضاع العراق الذي يعاني من آثار المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1930.
 ولقد بلغ الاعجاب ببعض الصحف، مثل (الاستقلال) الى مقارنة سياسة كل من هتلر وموسليني بسياسة عمر بن الخطاب، مما يوضح ان قدرا واضحا من الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي كان يسود العراق. فمعظم الصحف كانت تدافع عن النازية وعن هتلر حتى ان الامر بلغ بصحيفة معروفة على نطاق واسع مثل (العالم العربي)، كتبت تقول: “ان الدكتاتورية ابعد ماتكون عن هتلر”.
وتبين من هذه الدراسة ان اغلب الصحف مثل (العالم العربي) و(البلاد) و(الاستقلال) لم يكن لها سياسة واحدة ازاء التطورات في المانيا فتراها احيانا خاضعة لبعض الانتهازية بين الصحفيين او للضغوط وسياسة الحكومة احياناً اخرى باستثناء صحيفة (العراق) الموالية للحكومة التي كانت تصف هتلر بالدكتاتور، وتصف سياسته بالهمجية الهتلرية، الامر الذي يوضح بان صحيفة (العراق) قد كان لها سياسة ثابتة ازاء التطورات في المانيا.
والقى نجاح التجربة النازية في المانيا ظلاله على بعض الاحزاب السياسية في العراق مثل حزب العهد العراقي الذي رأى اعضاؤه في الدكتاتورية وسيلة لتسهيل مهمة عقد المعاهدة العراقية البريطانية عام 1930. كما ظهرت بعض التشكيلات السياسية والثقافية التي تمثل في حقيقتها احد مظاهر الاعجاب بالتجربة النازية، مثل منظمة الفتوة التي لاقت استجابة كبيرة من الشباب العراقي والمشرفين على الفتوة ممن تأثروا بحركة الشباب الهتلري، وكان هذا الاعجاب واضحاً لدى اعضاء وفد الفتوة العراقي الى المانيا اذ عاد اعضاء هذا الوفد وهم يحملون مشاعر الاعجاب والتقدير لالمانيا، فضلاً عن انهم استمروا بوضع علامة الصليب المعقوف تحت ياقة قمصانهم، حتى بعد عودتهم من المانيا، فكان من الطبيعي ان تتهم الحكومة البريطانية نظام الفتوة بأنه (حركة نازية تستمد تعاليمها من المانيا الهتلرية..). وفي الحقيقة لم تكن جمعية الجوال العربي ونادي المثنى بعيدان عن هذا الاتهام، وخاصةبعد فشل انتفاضة مايس /1941. اذ قامت الحكومة البريطانية بحل نادي المثنى، واتهمت اعضاؤه بالنازية، ولم يكن الحال هكذا مع جماعة الاهالي والحزب الشيوعي العراقي، اذ كان لهما موقفاً معارضاً من الافكارالفاشية والنازية في ايطاليا والمانيا، وهذا طبيعي اذا اخذنا بنظر الاعتبارالاختلاف الفكري بين الماركسية والاشتراكية الوطنية مما لايدع أي مجال لاتفاق هذه المبادىء وبخاصة ان الاشتراكية الوطنية قد حاربت الشيوعية.
وتأثرت بالنازية ايضاً اوساطا واسعة وشرائح مختلفة من وزراء وساسة وشيوخ وطلاب ومثقفين انتهاءاً بعامة الناس والبسطاء منهم، فقد تأثر بالنازية حتى من لايعرف ماهي النازية وخاصة بعد اهتمام هتلر وعطفه الظاهري على القضية الفلسطينية، ولم يخطر ببال الكثير من العرب، ان هذه السياسة ليست الا جزء من برنامج الدعاية الالمانية الموجهة الى الشرق بهدف استمالة العرب واستثمار مواقفهم المعادية لبريطانيا لصالح المانيا.
وهناك فئات اخرى من الرأي العام العراقي اوضحت موقفاً معارضاً من سياسة هتلر والافكار النازية، ومنذ ظهورها فقد كان اغلب العراقيين ضد سياسة العنف، وعلماء الدين خاصة الذي كان موقفهم المعارض لهتلر والنازية منسجماً مع مبادىء الدين الاسلامي الرافض للاستبداد والظلم.
الحقيقة ان هذه الدراسةحاولت ان توضح مدى اعجاب بعض فئات الرأي العام العراقي بالنازية، وهو اعجاب كانت له حدود محصورة في الجانب العملي للتجربة الالمانية في ظل النازية ونجاحها في تخليص المانيا من معاهدة فرساي في وقت كان فيه ابناء الشعب العراقي يعانون الأمرين على يد السياسة البريطانية اذ لم نجد في موقف الرأي العام العراقي مايؤكد اعجابه بالاطار النظري للعقيدة النازية.
وباستطاعتنا القول، ان هتلر اصبح يمثل في مفهوم البسطاء والعامة رمزاً للقوة والتحدي لدرجة ان بعض الاباء اطلقوا اسمه على ابناءهم، كما لم تأخذ التجربة النازية في مفهوم بعض السياسين من الوطنيين والقوميين الرافضين لمعاهدة 1930 اكثر من كونها تجربة يجب ان يقتد بها كل من يريد ان ينتشل امة من واقعها المرير، بدليل اننا لم نجد مايشير الى ان الرأي العام العراقي قد تأثر بنظرية هتلر في التمييزالعنصري او اعجب بنظرية المجال الحيوي او من شجع سياسة العنف التي اتبعها هتلر ضد الاقليات غير الالمانية وبخاصة اليهود، ومع ذلك فأن اغلب المصادر قد فسرت اعجاب الرأي العام العراقي بالنازية، بأنه نتيجة التأثر بالدعاية الالمانية التي كان وزير المانيا المفوض في بغداد الدكتور فريتز غروبا حريصا على نشرها في العراق.
وبناء عليه اتهمت العديد من الشخصيات الوطنية والقومية بتهمة النازية التي لم يسلم منها حتى الطلاب، وهو اتهام مشوه للحقيقة اذا اخذنا بنظر الاعتبار الظروف والضغوط التي كان يعاني منها الرأي العام العراقي.

* الكتاب- قوميو العراق وشبهة الميول الفاشية، ثلاثينيات القرن العشرين ومطلع اربعينياته، تأليف بيتر فين (باحث الماني)، ترجمة مصطفى نعمان احمد،ط1، مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي، بغداد، 2010، 293 صفحة
العنوان الاصلي- القومية العربية العراقية، النزعات التسلطية والشمولية والفاشية 1932-1941

أحدث المقالات

أحدث المقالات