هي قصص ثمانٍ(ساعة جداريّة ــ أغنية تحت المطر ــ وَجْدَةُ وأحزانها الصغيرة ــ السفح ــ آلة الجوزة البغداديّة ــ الضفدعة الحجريّة ــ شظايا أنثويّة ــ الرجل الآليّ).للقاصّ رحمن خضيرعبّاس.جُمعت في مؤلّفه الموسوم بـ” شظايا أنثويّة”،والصادر عن دار “تمّوز”في دمشق،في مائة وتسع عشرة صفحة،في السنة السادسة عشرة بعد الألفين للميلاد..
دارت أحداث القصص الثماني في العراق،وفي المغرب،وفي كندا؛تمحوراً حول أشخاص مغتربين.وبُني فيها السرد القصصيّ اعتماداً على ضمير المتكلم إلا في قصتين اثنتين(آلة الجوزة البغداديةص69،وشظايا انثوية ص90) ؛إذ بُني السرد فيهما اعتماداً على استعمال ضمير المفرد الغائب..
يتوحّد كلّ الأشخاص الرئيسين في السرد،في ظاهرة الغربة الذاتيّة والمكانيّة،ماعدا قصة”السفح” ص58، التي انحصرت فيها الغربة على الذات وحدها؛لأنّ شخصها الرئيس( الجنديّ)مواطن،مافتئ يعيش في وطنه،لاخارجه.وما الغربة المكانيّة في القصص إلا مظهر نفسيّ سطحيّ،لتبرير احتجاج الذات داخليّاً،على واقعها الخارجيّ المخالف لها،لإستعادة كونها المفقود.يقول في ص53:”كنا نتحدّث عن وطن اختطفته أيادٍ شرّيرة،فاستغنى عنّا”،وفي ص72″إنّ أبا بشّار البغداديّ مغترب يبحث عمّا يذكّره بالوطن”..إذاً الغربة المكانيّة ،من خلال الرؤية السرديّة،هي عامل ثانويّ ظاهريّ،لتحوّ ل الذات المغتربة التي هي الاساس،من مكان الى مكان آخر؛بحثاً عن وطن،يبدو لها وهماً لاحقيقة،لأنّها تبحث عن وجودها هي لا عن وجوده هو.يقول في ص13:”حيث البحث عن الذات التي صُدمت بعوامل الإحباط المتكرّرة التي تهوي كمطرقة “،وفي ص31″كأني في حالة من الهلع والفزع الروحيّ حتى وجدت ذاتي قد تصدّعت،وأضحت شظايا تتمسّك ببعضها بخيوط واهية”وفي ص44″نذوب في البحث عن الذات التي بدأت تتشظّى في المنافي”وفي ص17″نحن في أواخر قوائم المهاجرين(…)أردنا ملاذاً يتّسع لبعض احلامنا.هل وجدنا الملاذ حقّاً؟”.الإستفهام إنكاريّ هنا..وكثيراً ماتتداخل الغربتان(الذاتية والمكانية)،وتندمجان سرديّاً في غربة واحدة في المُغترَب؛فيلتبس تداخلهما واندماجهماعلى المُغترِب نفسه،حنيناً الى مكانه الأوّل (الوطن).يقول في ص92:”لم نندمج أو نتمتّع بالتنوّع الحضاريّ لمجتمع يؤمن بالبناء.وبقينا نجترّ حكايات مؤلمة لاتنتهي عن أوطاننا التي لفظتنا.”.غير أنّ هذا الإلتباس النفسيّ الطارئ على أشخاص القصص لايغيّر من وعيهم بحقيقة غربة ذواتهم لأنّ نفي الغربة المكانيّة داخل الوطن ــ مثلا ــ في قصّة”السفح”ص58،لاينقض إثبات غربة الذات ،ليحقّق لها حريّة ،فتختارصورتها السلوكيّة بإرادتها هي،لا بإرادة السلطات القمعية الخارجة عنها.يقول في ص59:”نحن جنود لاحول لنا ولاقوّة سوى الإنصياع لصوت من يصرخون بنا”وفي ص60:”تلك المهانة التي تصفع وجوهنا يوميّاً ونحن نؤدّي (خدمة العلم)(…)ومنذ أن دخلنا رحم التجربة فقد تمّ تحويلنا الى قطيع”.في هذين المثالين الأخيرين،تشعر ذات الجنديّ الذي هو خرّيج جامعة،بتناقض صورتها الداخليّة مع الصورة الخارجيّة للواقع؛وبالتنافر بين عالَمينِ متباينينِ:عالم الجنود المحكومين،وعالم
الضبّاط الحاكمين.وتكاد تبلغ ذروة إغترابها الفكريّ والنفسيّ،يوم تستعبد حقيبة البريد العسكري الجنديّ استعبادا تامّاً،وتحوّله الى آلة بريديّة،وقد ماتت فيه إرادته،وحريّتها في الإختيار.يقول في ص60:”ها أنا أتسلّق الجبل،في كتفي الحقيبة البريديّة التي يجب ان أُوصلها إلى آمر الفوج”وفي ص61:”كنّا نشعربمعنى سنين الرقّ والعبوديّة”..هذه الغربة الذاتيّة التي لم يعد بها الشخص المغترِب هو نفسه،تأثّراً بقوى السلطات القمعيّة الخارجة عن ذاته،هي القاسم المشترك بين جميع الأشخاص في القصص التي تركّبت منها مجموعة”شظايا أنثويّة”.ومهما تتفاوت الغربات ــ إن جاز جمعها ــ في السرد القصصيّ،من شخص مغترب الى آخر،فانّ تفاوتها هو كميّ لا نوعيّ.وهي حالة فكريّة نفسيّة أسّس القاصّ عليها مضمونه السرديّ،لتشكيل رؤيا عميقة للحياة والفنّ،يتجاوز بها مفاهيم القصّة التقليديّة بوقوفها السطحيّ عند الصفات الفسيولوجيّة التفصيليّة للأشخاص ،ووصفها وصفا فوتغرافيّا تسجيليّاً. .وهذه هي الخاصّة الفنيّة الأولى التي تميّز بها القاصّ رحمن خضير متوجّهاً في عمله القصصيّ الى العالم السفليّ لمعاناة الإنسان.ولو تتبعنا اشخاص قصصه الرئيسين والثانويّين جميعهم،لما وجدنا علامة بدنيّة فارقة لأحدهم،تميّزه عن الأخرين بدءاً من صاحبه الذي “انتقل من اتاوة” ص8؛ومروراً بصديقه العراقيّ الذي رافقه في الهجرة ص18،فزوجته ص19،فالمشرف التربويّ ص27،فصديقه ابراهيم الصفّار ص32،فالفتاة آسية ص42،فياسين وهشام في وجدة ص45،فأبي حكيم نائب الضابط ص61،فصديقه نجم في الجيش ص62،فابي بشّار البغداديّ ص69،فالحاجّ عبّاس في بغداد ص73؛وانتهاءً بالرجل الذي وصفه بالآليّ ص112. في هذا المنحى الإبداعيّ دلالة،على أهميّة قصص”شظايا انثوية”،من حيث تعاملها مع جوهرالإنسان أي فكره الباقي الذي تكمن فيه قيمته الوجوديّة،لامع شكله العارض المحكوم بالفناء.وأزيد القول قولاً:إنّ الصفة الفسيولوجيّة هي خاصّة محدودة،مقصورة على الموصوف بها وحده دون غيره؛أما الحالة الفكريّة النفسيّة ،فهي عامّة مفتوحة على عذابات الملايين من البشر والأجيال،لارتباطها باللاوعي الجماعيّ لا الفرديّ؛وقابلة للتأويل وتعدّد القراءات..
هذه الحالة الفكريّة النفسيّة المشتركة بين جميع اشخاص القصص،التي دارت أحداثها في العراق،وفي المغرب ،وفي كندا’تأطّرت بمكان وزمان قصصيين،حدَّدا دلالة القصص،والمادّة القصصيّة المؤطّرة بهما.واذا كان المكان الطبيعيّ الموضوعيّ والزمان الواقعيّ المنطقيّ مُهمّينِ في تلازمهما،لتأطير الأشخاص والأحداث في القصّ التقليديّ؛فانّهما لايُهمّانّي في قصص “شظايا أنثوية. إنّ مايُهمّني فيها هو المكان والزمان المتخيّلان،اللّذان خلقهما القاصّ تعبيراً عن رؤياه ازاء الحياة والإنسان؛بحيث اصبح المكان الثابت يتحرّك تخييلاً في السرد القصصيّ،حتّى انّ العراق بتاريخه وجغرافيّته انتقل الى اوتاوا الكنديّة في قصّة “ساعة جداريّة”ص7 ،وانّ الشقّة الجامدة في مدينة مراكش كادت تمسي هي البطل في قصة”اغنية تحت المطر”ص23؛وبحيث أصبح الزمان الواقعيّ لايسير على نظامه الخطيّ المألوف.وربّ حدث صغير يقلب اتجاهه الأفقيّ عموديّاً،ويجعله في حالة من التداخل والتشابك،مع ازمنة أخرى.ومثال ذلك زهور التوليب التي استعيد بها زمن التاريخ الفارسيّ،وزمن التاريخ الهولنديّ في قصّة “الضفدعة الحجريّة ص82.وآلة الجوزة التي استعيد بها زمن التاريخ الحضاريّ لوادي الرافدين،وزمن التاريخ البغداديّ في قصّة”آلة الجوزة البغداديّة”ص69.وهناك أمثلة أخرى على الزمكان المُتخيَّل،الذي فضحت به مقدرة القاصّ الفنيّة فقر الواقع بإنشائها عالما ثريّاً بلغة الشعر والرمز والأسطورة؛وأخرجت النصّ القصصيَّ من خندق وقائع السيرة
الذاتيّة الى العالم الفنيّ الأرحب؛بل أضافت الى حياة القارئ الواقعيّة حياة الحلم والرؤى.وهذه هي الخاصّة الفنيّة الثانية للقاصّ.إن في تجاوز الزمان الواقعيّ المتسلسل خيطياً وفي تجاوز المكان الموضوعيّ الثابت لَخَلْقاً جديداً،لأفق رؤيويّ،يدلّ على تميّز تجربة القاصّ رحمن خضير حياتيّاً وفنيّاً..
ولئن أغرتني في الزمان والمكان المتخيّلينِ اهميّة دلالتهما الفنيّة ،فانّ البعد الجمالي في توظيف الرمز والأسطورة في سرده القصصي لم يكن باقلّ إغراء في اشاراته وايحاءاته التي كشفت أبعاداَ حضارية وثقافية واجتماعية وسياسية رغبة في تغيير واقع الحياة العراقيّة والعربيّة،ورفعه الى مستوى الحلم لتسكين مقاساة الإغتراب فيه… وليت وقتي يتسع فاحلّل ذلك البعد الجمالي الذي تصبّاني في تقنيتة السرديّة.
ومهما يكن،فانّ الكاتب العراقيّ المغترب رحمن خضير عباس استطاع أن يُعرّي مظاهر اغترابه،واغتراب نظرائه من العراقيّين والعرب؛وأن يحتجّ على الواقع الرسميّ عراقيّا وعربيّا أملاً في تغييره،من خلال رؤيته االحياتيّة والفنيّة،في مجموعته القصصيّة الثانية”شظايا أنثوية” ،متخطّياً مفاهيم القصّة التقليديّة، مُنبئاً بتحوّل فنّيّ نوعيّ،في ميدان القصة العراقيّة والعربيّة الحديثة..