23 ديسمبر، 2024 4:34 م

قولٌ في إداء المقام العراق – 1

قولٌ في إداء المقام العراق – 1

منذ بداية اندلاع الحرب العالمية الاولى، سارع الإنكليز لاحتلال العراق، لما يتمتع به من خيرات وموقع استراتيجي،،، وقد دُهش العراقيون لما جلبه المحتلون الإنكليزمن عُدد وآلات منها ما يمخر عباب الماء، وما يدب على الأرض وما يحلِّق في الهواء، وكذلك ما أشاعوه من أدوات وآلات ستلعب أدوارا هامة في الحياة الإجتماعية والثقافية العراقية بعد ركود عثماني طويل! ومن بين هذه الآلات جهاز ترفيهي كان قد اقتناه بعضُ أعيان بغداد وموسريها في أواخر الحكم العثماني وكانتِ العامة تسمع -من دون أن ترى- عن جهاز عجيب تنبعث منه أغانٍ وموسيقى بعد أن توضَع فيه اسطواناتٌ مطلية بالشمع، مسجل عليها هذه الأغاني..(راجع أوراق كامل الجادرجي)، لعب “الحاكي” وهي ترجمة غير موفقة لجهاز الأسطوانات هذا ل”غراموفون gramophone  أوphonograph  الذي شاع وانتشر مع الاحتلال، فقد لعب دورا هاما في الحياة الإجتماعية والثقافية لاسيما في المدن الكبرى كبغداد والبصرة والموصل، حيث يصدح منه الغناء المنبعث من المقاهي والبيوت الموسرة، ما عرّف العراقيين بألوان من الغناء العربي وخاصة المصري والشامي بما لا عهدَ لهم بها من قبلُ من موواويلَ وأدوار وطقاطيقَ وقصائدَ ملحنةٍ ومدائحَ وتراتيلَ للصفطي والشيخ أبي العلا  وعبدة الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش،،، وكذلك لمقرئين عراقيين كالملا عثمان الموصلي وأحمد زيدان ونجم الشيخلي والقندرجي ولاحقا القبانجي ولمطربات عراقيات ووافدات للعراق من دول الجوار!
لقد حرّك الغراموفون الحياة الثقافية والإجتماعية ووسّع الذائقة الغنائية العراقية للرجال وللنساء بعد أن اقتُنِيَ من قبل العوائل –حتى المحافظة منها-، فقد اطلع العراقيون على غناء وموسيقى الشعوب الإخرى وعلى مدارس تجويد القرآن المختلفة، كما أنه دفع بالموسيقى البغدادية لا سيما البستات والمقام العراقي  ليُسمَعَ لا في العراق وحسب بل وفي الدول المجاورة، كما أتاح للبغداديين أن يستمعوا لغناء الريف ولغناء البادية، وأن يتعرفوا على أساليبِ غناء المقام العراقي في البصرة والموصل وكركوك..وكذلك التعرف على الأساليب المختلفة في غناء المقام لمختلف القراء الكبار كالأسلوب الزيداني (نسبة الى أحمد زيدان ت1912) والقندرجي (نسبة لرشيد القندرجي ت1945) والقبانجي (نسبة لمحمد القبانجي ت1988) ما سمح بتبادل الخبرات وتعميقها ونقلها من جيل الى جيل آخر وتوسيع دائرة التراث العراقي الغنائي والموسيقي بمختلف أطيافة وتفاعله مع بعضه والمحافظة علية لدى العرب والكُرد والتركمان واليهود والمسيحيين والصابئة…الخ. على أن الإستماع للأسطوانات لايخلو من نواقص أو منغصات أيضا، فهي لا تسمح بتغطية المقامات الطويلة أو التامة لكونها محدودة المساحة، فمن الصعب تغطية الرست أو الحجاز ديوان، أو البيات بشكل كامل مما قد يضطر على الإقتصار على المقامات القصيرة كالاوشار والجمال و الأورفة والراشدي والمحمودي والدشت واللامي والحكيمي…والتي تتوزع على وجهي القرص مما يُضطر للتوقف لقلب الأسطوانة “القرص” لمواصلة الإستماع الى الوجه الثاني من القرص، كما أن مواصلة شحن لولب الجهاز يدويا أمر ممل تلافيا لفتور سرعة دوران القرص! ومع هذا ساهم هذا الجهاز في تخريج مطربين ومطربات لشتى ألوان الغناء العراقي الثر، وحافظ على توثيق الكثير من المقامات العراقية التي لولاه لأصبحت في طي النسيان…
ونحن نعيش أجواء بغداد عاصمة للثقافة لعام 2013 ينبغي استغلال هذه المناسبة لتدوين تراثنا الغنائي والموسيقي وتوثيقه موسيقيا لأجل المحافظة علية وعلى تاريخه وجغرافيته وتطوره ومن أشهر من أداه والا فإن عوامل الإندثار والإختلاط تهدد تراثنا هذا وخاصة أن بعض المقامات قد أصبحت نسيا منسيا مثل: الخلوتي والتفليس والحجاز شيطاني والبختيار والمثنوي والباجلان والحديدي والبشيري والأرواح والمسجين… لقد غُنِّيت كثير من البستات والأغاني العراقية من مطربين عرب ومن دول جوار دون الإشار الى أصولها بل أن كثيرا من أغانيننا قد شوهت لحنا وكلمات مما يخشى عليها من الضياع، كما أن غياب قانون تسجيل عائدية الإبداع جعل بعض المطربين الجدد يسطو ويشوِّه أغاني من سبقهم من المطربين الكبار! وللتدليل على أهمية ما أقول، أذكر شيئا من التراث الضائع والمنحول للفنان والمقريء  العراقي العظيم ملا عثمان الموصلي (ت1923)، الذي تنقل من بلدته الموصل فبغداد، مابين حاضرة الدولة العثمانية اسطنبول حيث تألق نجمه و بين الشام ومصر خلل أعوام 1895 وعام 1909 حيث تتلمذ على يديه أعلام مصر الكبار من عبدة الحامولي الى سيد درويش وأخذوا منه ألحانا اعتُبِرت مصرية بعد أن غُيِّرت كلماتها أحيانا مثل: دزني واعرف مرامي، وفوق النخل، وزوروني كل سنة مرة، ويا أم العيون السود، ويا أم العباية، وعمي يبياع الورد، وقدك المياس، و، و، و…( موسوعة الدكتور عمر الطالب:أعلام الموصل/ملا عثمان الموصلي، الموسوعة الميسرة 1965: ملا عثمان الموصلي، موسوعة الأعلام  لخير الدين الزركلي 1980: ملا عثمان الموصلي).
إن التدوين والتوثيق للموسيقى والغناء العراقي وخاصة، المقام العراقي  وأشهر من غناه لا يُعد عملا ثانويا مرتجلا بل يتطلب تكوين لجان من خبراء ومن هم على دراية بالأساليب الحديثة العلمية في التوثيق والتصنيف والدراسة النظرية وكذلك الميدانية، كما يتطلب الأمر من وزارة الثقافة وبالتعاون مع جامعات العراق لتكون لجان فنية وأكاديمية كما يمكن الإستفادة من خبرة البلدان الشقيقة والصديقة في هذا المجال، فالمعروف عن مصر أنها دونت ووثقت كل تراثها الفولكلوري منذ ستينات القرن الماضي، وساهم فيه كبار فناني وأساتذة مصر مثل زكريا حجاوي وسعد الدين وهبة ،،، فهل نحن فاعلون؟
 لقد قدم الموسيقار روحي الخماش والخبير الأستاذ شعوبي إبراهيم وغيرهما إسهامات جادة في تدوين المقام العراقي موسيقيا (المقام العراقي/ثامر العامري، دليل الأنغام لطلاب المقام لشعوبي ابراهيم)، وقد صدر كتاب عن المقام للمطرب الكبير الأستاذ حامد السعدي وكذلك سلسلة المؤلفات  التي أصدرها المطرب الدكتورحسين الأعظمي منذ عام 2000  المقام الى أين؟ ثم ثلاثة كتب عن أساليب الغناء المتميزة  للطريقة القبانجية ، والقندرجية والزيدانية وكتاب المقام العراقي بأصوات النساء 2005 والتي يأمل ونأمل معه في أن يجعلها موسوعة في مجلد أو أكثر، وصدر كتاب في العام الفائت هو: موسوعة المقام العراقي  للدكتور عبد الله المشهداني) …
 ورغم أهمية هذه المؤلفات التي تشكل إضافة في دراسة المقام العراقي، إلا أنها من ناحية أخرى امتداد للدراسات الجادة التي قام بها اساتذة رواد في هذا المجال كالأستاذ المرجع والخبير هاشم محمد الرجب وعبد الكريم العلاف والشيخ جلال الحنفي والأستاذ شعوبي ابراهيم والأستاذ الخبيرحسقيل قوجمان…ومن يتمعن هذه المؤلفات سيجد اختلافا في المناهج وفي النتائج التي توصل إليها المؤلفون خاصة الجدد منهم وطالما تتعلق بنشأة المقام العراقي من ناحية التأريخ ونسبة المقامات وأصولها ومساهمة الشعوب غير العربية المجاورة فيها، إضافة الى التسميات والمصطلحات من ناحية الأصول  والدلالات! وكذلك في ما يتعلق بمدارس المقام وبالأسلوب والخصائص الإدائية لكل مدرسة، ناهيك عن دراسات تطبيقية للمسارات الصوتية والإدائية لممثلي  كل مدرسة الخ ..
وإذ نحن ما نزال نتنسم أجواء بغداد عاصمة للثقافة 2013، نقول: إن وجود هذا الكم من المؤلفات التي تتناول الموسيقى العراقية  والمقام العراقي  لا تُعفي وزارة الثقافة  العراقية من إيجاد موسوعة معتمدة للمقام العراقي يمكن أن تكون مرجعا موثوقا به يقوم بتأليفه لجنة من الخبراء والمختصين، يجمع بين الناحيتين النظرية والتطبيقية مع مراجعة المصطلحات وتعريبها وفق أسس علمية والتخلص من الجمل والمتكآت اللحنية الغريبة التي تتخلل المقاطع والجمل الموسيقية باللغتين التركية والفارسية، كما إن إدخال درس المقام العراقي في المناهج الدراسية ضمن الموسيقى والإنشاد سيعزز هذا الفن ويجعله محترما باعتباره مفخرة من مفاخر التراث الغنائي لبلاد الرافدين وسيعزز اللحمة الوطنية فهو قاسم مشترك لجميع ألوان الطيف العراقي، ناهيك عن كونه ظاهرة حضارية يعتد بها، كما سيفتح آفاقا رحبة للتفاعل مع موسيقى الشعوب الأخرى والإنفتاح عليها مثل الموسيقى الكلاسيكية  والعالمية…
ولا يقل أهمية عن كل ما ذكرنا تأسيس فرقة وطنية للمقام العراقي (على غرار فرقة الإنشاد العراقية)، تتولى وزارة الثقافة العراقية تشكيلها ويتم اختيار العازفين والمنشدين وفق معايير الكفاءة الإدائية، وتتولى عزف المقام بالطرق الحديثة بعيدا عن العزف المرتجل وغياب النوطات!! مع فرقة كورال لقراءة المقام جماعيا بأصوات رجالية ونسائية بعيدا عن النشازات الصوتية  فلطالما نسمع العازفين هم الذين يتولون الإنشاد بأصوات يختلط فيها الغليظ بالناعم الرقيق، وتسمع ألحانا ثقيلة تبعث على الملل والتثاؤب، وكلمات لبستات عفى عليها الزمن!!! فهل نحن فاعلون؟ 
– للموضوع صلة-