كلما تقلع بي الطائرة عن ارض العراق يصيبني شعور هو مزيج من مشاعر أصدقائي كذلك هو إنني لن أعود ثانية إلى العراق الحبيب لاسيما إنني من النوع “الذي يخرب حياته ويجتهد بتخريبها أكثر من مرة”وغالبا ما ينتاب الشك كل من عرفني فيما إذا كنت سافي بوعودي التي لا حصر لها ولا عدد ومنها العودة إلى رصيف حياتي في بغداد على ضيق مساحة الحياة فيه وكثافة الخوف والقلق والزحام والغبار والسيطرات والمرابطات العسكرية والتصريحات المتقلبة والمؤامرات المتلاحقة وشحة الهواء وكثرة الأتربة وانعدام الليل وتعالي صفارات سيارات الإسعاف بانفجار أو باستهتار وغيرها من مسلسل العيش في العراق الحبيب الذي عدت إليه لأجد مكاني فيه في قلوب لم تتنكر لي ولم تقصني بل فتحت لي أكثر من ذراع ومكان وقلب ورحت اكتب وأكمل حلم دراستي الجامعية وأتعرف على نفسي واستعيد ذاكرتي وأؤثث لي حياة هي عبارة عن نصف شيء في كل شيء وهكذا لا يعد العراق لي أية فرصة لان أواريه النسيان وأوغل بالبعد عنه مرة أخرى بينما يعرف كل من جرب البعد عن العراق خاصة الأصدقاء الذين ذهبت بهم خطواتهم إلى البعيد حيث المنافي الأجنبية التي أخذت منهم كل شيء ولم تهبهم سوى الأمان الزائف والعزلة والكآبة للعراق طعم “الجنون والعسل” مزيج من نوستالوجيا الماضي ورغبة الفرد منا في استعادة بلد كل منا يراه بأنه يستحق أكثر من ذلك ولعل المبدع هو الكائن الوحيد الذي من الصعب انتزاع وطنه من رأسه أو العبث في مجموع ذكرياته الثمينة نعم عشنا في العراق ظروفا قاهرة لا مثيل لها في أية بقعة من الأرض حيث أصبح الواحد منا عبارة عن خردة من المرايا وخارطة من الأشلاء بينما ما ان تعود الى بغداد من جديد حتى يتأسس المكان في الذاكرة مرة أخرى ويبدأ القدر يخيط جروحه وتتهاوى الصور المأسوية العنيفة لتحل بدلا منها ضحك الأصدقاء وثقة الشارع العراقي بنفسه ورائحة الكباب البغدادي وهرج ومرج الأسواق الشعبية العائمة على الطرقات بغداد وهي مدينة مقاتلة لن تترك صبرها جانبا وتخرج من ليل دامس ومن ضجيج المولدات الكهربائية على فجر حذر يتنفس الهواء القليل المتبقي من وقود المحروقات ورائحة البارود والعبوات الناسفة الموقوتة هنا وهناك بينما لا يتردد المرء من اخذ تفاصيل يومه بالكامل وكأن شيئا لم يكن ولن يحدث ماهو اسوأ مما حدث نعم لايمكن لي الجزم بأنني ساترك بغداد طويلا بعد اليوم هناك اسطورة في حب البلاد كان قد أدركها ذات يوم رسول حمزاتوف في كتابه الرائع “داغستان بلدي” ووضع جيمس جويس أعظم رواية في العالم تدور احداثها في دبلن عاصمة بلده ولن تكون الحياة أجمل إلا في بلادي من سواها كما قال السياب ذات مرة متنبئا بظلام العراق وانقطاع التيار الكهربائي يوم قال “حتى الظلام أحبه فهو يحتضن العراق؟ .