منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن المنصرم، على أنقاض حضارات رغم إنها كانت عريقة الا أنها كانت أيضا متباينة ومختلفة الى حد التناحر الذي بقيت آثاره حتى يومنا هذا، منذ ذلك الحين والكثير من مكونات هذه الدولة تعاني الأمرين لأسباب عرقية، خصوصا سكان المناطق والنواحي التي تحمل طابعا دينيا أو مذهبيا أو تتسم بخصوصيات قومية، حيث تشهد مرابع صباهم تغييرات ديموغرافية تتسارع خطواتها حسب الأمزجة السياسية لرعاة النظام السياسي بمختلف مراحله، حتى بات أبناء هذا البلد يعيشون على شفا فتن مختبئة كقنابل موقوتة في حقول ألغام تكاد تفصل بين ناحية وأخرى ثم أمتدت لتحيط بالأزقة فتفصل بين الجار وجاره بل وبين المواطن وداره، بالنتيجة فإن هناك دائما من يريد اشعال الفتنة واكمال تدمير العراق من أجل مصالح المصيبة أنها ليست بمصالحه، عبر العبث بتوقيت هذه القنابل.
وما أكثر هذه القنابل الموقوتة التي بانفجارها تتطاير الشظايا من الحقول الملغمة لتؤجج فتنة لا يحمد عقباها، وقد شهدنا الكثير من هذه الفتن، فمرة تجدها طائفية بامتياز وأخرى تجدها توقد الهشيم لتوغل الصدور بحقد أهوج بين أبناء القوميات المختلفة، هل قلنا مختلفة، نعم هي كذلك، فالاختلاف رحمة، لكنه في العراق يكاد يكون نقمة.
لن نعبث بصفحات تاريخ هذا البلد الفتي بحدوده والعريق بأهله، من أجل اثبات حقيقة يكاد يراها من بعينيه ضرر، فلن نمر على حملات قلع جذور الكورد الفيليين من ديارهم وأرضهم التي شاءت الاتفاقات الدولية أن تضعها ضمن حدود الدولة الفتية، لن نعرج على حملات التطهير العرقي التي طالت الآثوريين، كما لن نتحدث عن فاجعة المدينة المنكوبة حلبجة الشهيدة، ولن نفتح صفحات الأنفال التي استهدفت مئات الآلاف من المدنيين الكورد، ولا عن تصفية غشرات الآلاف من البارزانيين، ولا عن اغتصاب كركوك وتدمير دوزخورماتوو ونحر جلواء وخانقين وقتل مندلي وبدره وجصان، المصائب كثيرة والرزايا أكبر والأزمات الدفينة كثيرة والتي تشكل خطرا كبيرا على النسيج الاجتماعي لأبناء هذا البلد من خلال محاولات لفرض إرادات باطلة على حساب أصحاب الحق، والأخطر هو سوء إدارة الأزمات على هامش العملية السياسية الهشة في بلد منقسم الإردات والولاءات، فأية محاولة لفرض إرداة بالقوة ستنتج قوة مضادة تذهب بنا الى فتنة جديدة وحرب أهلية جديدة ودمار جديد، وهي التجارة الأكثر ربحا لأطراف سياسية تتعكز على الفتن والأزمات من أجل ضمان بقائها..
فلنتحدث عن تاريخ ليس ببعيد حيث يشهد العراق تجارة ليست بجديدة، ابتدعها النظام البعثي المهزوم حين قام بالاستيلاء على ممتلكات مواطنين بحجج وتبريرات لم يصدقها الا اراذل القوم من الذين يعيشون على السلب والنهب، المسميات التي صودرت بها أملاك شرائح كبيرة من المواطنين منها التبعية الإيرانية والانتماء لأحزاب معارضة والوقوف بوجه أهداف الحزب والثورة والانتماء للمخربين وغيرها من الادعاءات الباطلة من أجل تحقيق غايات وأهداف أقل ما يقال عنها أنها سحت حرام، ولكن هناك من لا يأبه لا بالسحت ولا بالحرام فكيف يأبه لحق إنسان أغتصب منه ماله وملكه الذي أفنى سنينا من عمره من أجله، ليأتي حفاة، عراة الضمير ليستولوا عليها دون وازع أو رادع، والأمر لم ينته عند هذا الحد..
سقط النظام ولكن بدعه وابداعاته لم تسقط، بل تم تطويرها لتتناسب ومصالح الحفاة الجدد، ربما خير مثال على ما ذهبنا اليه هو ما شهدته العاصمة العراقية خلال الفترة الماضية من عمليات استيلاء واسعة على الكثير من منازل السنة في مناطق الشيعة ومنازل الشيعة في مناطق السنة بعد أن دقت طبول الحرب بين الطائفتين لتستعر فتنة ما زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا، ومن ثم التفنن والإبداع في الاستيلاء على منازل الصابئة والمسيحيين في المناطق الراقية من بغداد خلال فترة الحرب على داعش، من قبل عصابات تتحدث بعضها عن علاقتها بجهات سياسية او مافيات تستقوي بأحزاب ومسلحين، فالأمر ليس بحالة حيث تحول الى ظاهرة متميزة..
وفي امتداد لتلك الظاهرة، ما حدث ويحدث في المناطق الكوردستانية خارج إدارة الإقليم من تكرار واضح لسياسة التعريب والتغيير الديموغرافي الممنهج والمدروس الذي مورس في عهد الأنظمة السابقة وخصوصا في عدد من نواحي محافظة كركوك، لصالح العرب على حساب الكورد والتركمان، فقد عمد النظام السابق إلى طرد المواطنين الكورد والتركمان من منازلهم وأراضيهم الزراعية ومنحها إلى عرب استقدمهم من محافظات أخرى، فاستمرار سياسة التعريب والاعتداء على أراضي المواطنين الكورد وأملاكهم هو امتداد لعمليات فرض الارادة من قبل مكون معين عبر الاستناد على قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل التي تعتبر بحد ذاتها قنابل موقوتة في حقل ألغام كبير جدا، إذا انفجرت لن تزيد من الفرقة بين المكونات الا شتاتا، وسيكون لها تأثير سلبي على السلم المجتمعي في المناطق التي من المفترض أن تكون مكاناً للتعايش السلمي، على الرغم من الغاء تلك القرارات الجائرة في العهد الجديد، فبعد إسقاط النظام المباد عام 2003 عاد كثير من المواطنين الكورد إلى بيوتهم وأراضيهم الزراعية بموجب المادة 140 من الدستور العراقي التي تنص على إزالة سياسات التغيير الديموغرافي، ليقوم المتربصين بالفتن على إصدار أوامر وكتب رسمية تتيح لهم الاستيلاء عن أراض شاسعة تعود ملكيتها لفلاحين كورد في قرى بلكانة وخرابة وعدد من قرى ناحية سركران ونواحي أخرى، قد نستغرب كيفية صدور الأوامر القضائية بالاستيلاء، وتزيد الغرابة حين نرى قطعات من الجيش وفلولا من الشرطة ترافق أشخاصا يحملون عقودا زراعية اصدرها لهم النظام السابق، لكن الغرابة ستزول حتما إذا علمنا أن المحافظ بالوكالة هو راكان الجبوري عراب الفتنة الجديد والحامي الأمين لقرارات مجلس قياد الثورة غير المنحل بالنسبة له، فهو يمثل لوحده قنبلة موقوتة مربوطة على ذيل فتنة تسرح وتمرح دون حسيب ولا رقيب لا من السلطة التشريعية ولا التنفيذية، ولن نقول من المستفيد من هكذا فتن فهم أكثر من نخيل العراق، ولكن من حقنا أن نتساءل، لماذا لا يتم اقتلاع رؤوس الفتن بدلا حرق رؤوس النخيل في أرض كانت تسمى يوما بأرض السواد، وحقا فقد أبدع الشاعر الكبير محمود درويش حين قال:
سلامٌ لأرضٍ خُلقت للسلام و ما رأت يوماً سلاما