يحتفل العالم يوم الرابع والعشرون من فبراير بيوم المعلم العالمي ، وهي فرصة لتوجيه تحيّة ل”صانع الأجيال” كما يوصف و”ووريث الرسل والأنبياء” ومنزلته تتأتى من منزلة العلم التي هي عالية في الميزان الحضاري يقول تعالى : ” يرفع الله الذين أمنوا والذين أوتوا العلم درجات” ، حين زرت جامعة كمبردج لفتت نظري المنزلة الكبيرة التي يحتلها المعلم في الجامعة ، ومن مظاهر تلك المنزلة أنه الوحيد الذي يحق له السير على العشب الذي يحيط ممرات كليات الجامعة ,والسير على العشب ، المتاح للجميع في بلداننا يعد من الأمور المحظورة في أماكن كثيرة في الغرب وحتى في الشرق حيث وجدت أنه فعل مشين في الصين يصل لدرجة أن القانون يحاسب عليه من يقوم بارتكابه !
لكن المحظور يباح في “كيمبردج” والشين يصبح زينا للذي يعلّم الأجيال ويربيها ، و ينشئ النفوس والعقول كما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة :
قمْ للمعلمِ وفِّهِ التبجيلا كاد المعلمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي يبني وينشيءُ أنفساً وعقولا
وقبل دخول المدير والمعلمين مطعم الكلية في “كمبردج ” يدق أحد العاملين طبلا كبيرا فيقف جميع الطلاب تقديرا واكبارا حتى يجلس القادمون في أماكنهم المخصصة فيجلس الجميع , هذه المنزلة ليست سمة بريطانية وغربية ففي تراثنا الكثير من الأخبار التي تؤكد علو منزلة المعلم ومن بينها خبر ورد في كتاب “وفيات الأعيان ” لابن خلكان يقول كان العالم المسلم (الكسائي) يربي ويؤدب ابني خليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد،وهما الأمين والمأمون وبعد انتهاء الدرس في أحد الأيام ، قام الإمام الكسائي فذهب الأمين والمأمون ليقدما نعلي المعلم له ، فاختلفا فيمن يفعل ذلك ، وأخيراً اتفقا على أن يقدم كلاً منهما واحدة ..ورفع الخبر إلى الرشيد ، فاستدعى الكسائي وقال له :من أعز الناس ؟ قال: لا أعلم أعز من أمير المؤمنين قال : بلى ،إن أعز الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين ، حتى يرضى كل منهما أن يقدم له واحدة فظن الكسائي أن ذلك أغضب الخليفة فاعتذر الكسائي ،فقال الرشيد : لو منعتهما لعاتبتك ، فإن ذلك رفع من قدرهما.
وهناك خبر ذكره الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد “وهو قدم هارون الرشيد إلى الرقة في غرب بغداد ، فاستقبله أفراد من الحرس والشرطة، وعندما قدم عبد الله بن المبارك من نفس المكان خرج الناس عن بكرة أبيهم لاستقباله فنظرت جارية في قصر الخليفة إلى المنظر فقالت ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان” ،هذه المنزلة الرفيعة التي كان يحتلها المعلم لم تتوقف عند كتب الأقدمين بل امتدت الى السبعينيات من القرن الماضي حيث ظلت شخصية المعلم تمتلك “كاريزما ” ، وله هيبته وتقديره من قبل الكبير قبل الصغير ، وكان حلمنا الأكبر أن نصبح معلمين حين نكبر ، لكن بساط الهيبة بدأ ينسحب من تحت أقدام المعلم شيئا فشيئا ابتداء منذ الثمانينيات بسبب تراجع العملية التعليمية في المجتمع وصعود نجم المال والكسب السريع فاهتزت صورة المعلم شيئا فشيئا ، كحالة رمزية لاهتزاز مكانة العلم في حياتنا وهو مؤشر نكوص حضاري خطير ، بالوقت الذي لايزال المعلم في الغرب يحتفظ بمكانته التي تعلو على مكانة الطبيب بالمجتمع كونه هو الذي علم الطبيب والمهندس والقاضي ، لذا مشى على العشب في كيمبردج !