في ظل مشهد عربي يزداد استقطاباً وغموضاً، جاءت قمة بغداد لتفتح نافذة رمزية جديدة في جدار العمل العربي المشترك. ليست مجرد قمة في جدول القمم، بل محاولة عراقية واعية لاستعادة موقع وطني وإقليمي كان قد تآكل بفعل الحروب والانقسامات والارتهانات.
لم تكن قمة بغداد حدثاً عادياً، بل مرافعة رمزية عن دول عربية تكافح للصمود وتبحث عن أفق سيادي وتنموي في ظل تحوّلات المنطقة. ولم تتأثر القمة بمناخ الاستقطاب كثيراً بل أفادت منه في تعزيز استقلاليتها، فحضور الرئيس المصري شخصياً أعطاها بعداً إقليمياً نوعياً. فمصر، بتاريخها ومكانتها، ليست دولة عابرة في ميزان السياسة العربية، وهي في هذه اللحظة التاريخية بالذات تأخذ بزمام التحدي في مواجهة المساعي الإسرائيلية لتهجير سكان قطاع غزة إلى دول أخرى مثل مصر والأردن. ومن بغداد، ألقى الرئيس عبد الفتاح السيسي خطاباً لافتاً في لهجته تجاه السياسات الإسرائيلية، وهو موقف مدروس في توقيته ومكان إعلانه.
ثمّة قراءة ممكنة هنا: مصر المنهكة اقتصادياً، والعراق المثخن بالجراح يسعيان لاستلهام إرثيهما في المواجهة مع الغطرسة الإسرائيلية من خلال بلورة موقف عربي مناهض للظلم ومدافعاً عن الحق الفلسطيني. يسعى البلدان إلى استعادة زمام المبادرة تعبيراً عن سردية “جيو-أخلاقية”، ذات أبعاد وطنية وقومية ودينية، متجذرة في ذاكرتيهما السياسية في التعامل مع القضية الفلسطينية.
غياب بعض الزعماء العرب عن القمة هو موقف سيادي له اعتباراته السياسية والسياقية الخاصة بكل دولة، وليس من الموضوعية تأويله سلبياً، كما أنه لم يُضعف القمة، بل منحها خصوصيتها السياسية: قمة عربية لها موقفها المستقل، تستضيف كلاً من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي أدان في كلمته “العقاب الجماعي” ضد سكان غزة، ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز المعروف بدعمه لحقوق الفلسطينيين، وتسعى إلى إحداث توازن جيو-رمزي وجيو-معنوي مع جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الخليج وما تضمنته من عقد صفقات ضخمة بأبعاد سياسية واستراتيجية.
يتعلق الأمر هنا باختلاف الفلسفة السياسية بين الدول العربية، فلكل من العراق ومصر فلسفته السياسية في الأمن الوطني والتي قامت تاريخياً على “المواجهة” مع إسرائيل، عسكرياً أو دبلوماسياً، بينما لدول الخليج فلسفتها التي تقوم على بناء وتعميق تحالفاتها الدولية لتعزيز تموضعها إقليمياً وحماية أمنها الاستراتيجي.
لعل الأهم من القمة نفسها هو ما أفسحت له من مجال: إعادة ترسيم التموقع الرمزي للعراق، من سردية “الدولة التابعة لإيران” إلى سردية “الدولة التي تلعب دوراً ريادياً في مناهضة التطبيع”. هذا التموقع ليس جديداً على العراق، بل هو امتداد لتراث وطني، وموقف تاريخي لطالما رفض الخضوع للمشروع الإسرائيلي، قبل أن تتبنى إيران رفض التطبيع شعاراً لها.
نجحت القمة، لأن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بدا شديد التركيز في عمله، مسؤولاً، ومُخلِصاً، ومهتماً بالتفاصيل. ولو أن هذا التركيز امتد إلى ملفات الفساد، والتعليم، والمخدرات، وتمكين الشباب، وأنسنة الحوْكمة، والإصلاح المؤسسي، لكان بإمكان العراق أن يعيد تموقعه، لا إقليمياً فحسب، بل كونياً وحضارياً.
ما جرى في بغداد يسمح بإعادة التفكير في صورة العراق. لا بوصفه تابعاً لهذا الطرف أو ذاك، بل باعتباره فاعلاً إقليمياً يحاول أن يبني تموضعاً جديداً، يعيد ربط نفسه بقضايا المنطقة من زوايا مختلفة. ومن ضمنها ملف السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الذي جرى التعامل معه بوصفه مجالاً لموقف عراقي يستلهم الهوية الجيوسياسية للدولة وذاكرتها الوطنية، ولا يتحرك كصدى لمواقف خارجية.
قمة واحدة لن تصنع معجزة، لكنها قد تفتح أفقاً جديداً في الوعي السياسي العراقي والعربي. حين تختار العواصم أن تتكلم بلغتها، لا بلغة مستعارة، فإنها تفتح احتمالاً جديداً للفعل، ولو كان ذلك في مساحة رمزية. إن نجحنا في ترسيخ هذا المسار، شريطة ربط الأداء الدبلوماسي بالإصلاح الداخلي، يمكن لبغداد أن تعود ليس فقط كفاعل إقليمي، بل كمنصة حضارية تطرح سردية بديلة: سردية السيادة، والكرامة، والعدالة، ذلك أن التحرر من أعباء وأوزار الداخل المثقل بأزماته البنيوية وتناقضاته الأخلاقية يمنح البلاد هامشاً أكبر للمبادرة والفاعلية إقليمياً ودولياً.
ملاحظة: هذا المقال هو ثمرة نقاش وتبادل أفكار معمّق مع ChatGPT، حيث ساعدني الذكاء الاصطناعي في تنظيم الهيكل وتحرير اللغة واقتراح بعض الصياغات، دون أن يمس بروح النص أو وجهته.