لم يكن اجتماع الجامعة العربية – قمة بغداد 2025 ـ حدثاً عابراً على أجندة الدبلوماسية العربية، بل محطة اختبار حقيقية لطبيعة العلاقة بين العراق ومحيطه العربي، وخصوصاً في ظل تصاعد التجاذب الإقليمي والدولي على أرضه. لكن الصورة التي خرجت بها القمة بغياب الزعماء العرب واحداً تلو الآخر، أثارت تساؤلات جوهرية: هل كانت قمة العرب… أم قمة إيران في العباءة العربية؟
قاآني والرسالة الإيرانية ما قبل القمة
قبل أن يُفتح باب القاعة الكبرى للقمة، سبقه قدوم قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد، الفيلق المعروف بتدميره أربع عواصم عربية، وعدائه الشديد للعرب. زيارته لم تكن بروتوكولية، بل كانت بمثابة رسالة سياسية استباقية للعرب مفادها أن “العراق ما يزال ضمن القبضة الإيرانية، ولن يُنتزع بسهولة من محورها.”
إيران تعي رمزية الحدث، وقد أرادت أن تسبق الزعماء العرب بخطوة حسب تصورها تؤكد فيها نفوذها الراسخ، لا سيما أن الحديث عن إعادة دمج العراق في حاضنته العربية يُعد تهديداً مباشراً لنفوذها ومصالحها معاً.
كما أن الزيارة سبقها حملة شعواء شُنت ضد الرئيس السوري أحمد الشرع، وصلت حد التهديد العلني بالقتل في حال حضر القمة، ما شكّل صدمة للمراقبين الإقليميين.
التحريض لم يكن فردياً أو هامشياً، بل خرج من أوساط سياسية وإعلامية قريبة من الإطار التنسيقي المعروف بولائه لإيران. هذه الحملات، بالإضافة إلى الخطاب العدائي الصريح ضد العرب عبر البرلمان والإعلام ومواقع التواصل، عززت القناعة لدى كثير من العواصم العربية أن العراق لا يُدار بسيادة القانون، بل يُستَخدم كمنصة لمعاداة محيطه العربي.
الرسالة العربية الهادئة: الغياب المدروس
الدول العربية تراقب العراق عن قرب، وهي لا تعارض الدولة العراقية كشعب وهوية وتاريخ، بل تعارض واقعاً سياسياً معقّداً يتحكم به وكلاء طهران.
من هنا، جاء التمثيل العربي المتواضع ليس عن تجاهل، بل عن وعي وتخطيط، لذلك لم يرغب القادة العرب في أن يظهروا كداعمين لمنظومة سياسية مرتبطة بمحور إيران، ولا أن يُفسَّر حضورهم على أنه اعتراف بشرعية هذا الوضع أو مباركة له.
العراق اليوم لا يُنظر إليه كدولة فاعلة مستقلّة القرار، بل كـ “ساحة صراع“تتنازعها المصالح الخارجية والمحاور الإقليمية، وهو ما أفقد القمة معناها العميق، وحوّلها إلى حدث بروتوكولي بلا مضمون استراتيجي.
فبدل أن تكون القمة منصة لإعادة دمج العراق في حضنه العربي، تحوّلت إلى مرآة تعكس مدى التراجع في سيادة القرار الوطني، وتُظهر حجم الهيمنة الإيرانية التي بدت وكأنها هي من رتّب القاعة وهي من استقبل الضيوف.
وما يثير الاستغراب أكثر، هو الإصرار الواضح لمعظم أعضاء الإطار التنسيقي ومن ينضوي تحت عباءته على الاستمرار في التبعية للمحور الإيراني، رغم الانهيارات المتتالية التي لحقت بإيران وتراجع نفوذها الإقليمي. وكأن هؤلاء الساسة قرروا أن يكونوا حائط الصد الأخير لطهران، وساحة صراعها الدائمة، حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحة العراق ومستقبل شعبه. هذا الإصرار لا يعكس استقلالاً في القرار، وإنما يؤكد عمق الارتباط بالعقيدة السياسية الإيرانية، حتى بعد أن فقدت زخمها إقليمياً.
خلاصة المشهد: قمة كشفت لا جمّلت
لقد أوصلت قمة بغداد رسالتها بوضوح:
إن العراق يحتاج إلى استعادة دولته أولاً قبل أن يستعيد علاقاته.
وإن بناء الثقة مع المحيط العربي لن يتحقق إلا من خلال تحجيم النفوذ الإيراني، وإعادة الاعتبار لمفهوم السيادة.
حينها فقط، سيكون الحضور العربي تلقائيًا، لا بحاجة لدعوات ولا للتمسّك بأوراق مجاملة.
قمة بغداد لم تكن قمة فاشلة، بل كانت ناجحة في كشف الحقيقة:
العراق لا يزال ساحة، ولم يعد بعدُ إلى مستوى الدولة.