قراءة في رواية ( أجنحة البركوار ) لعباس عبد جاسم
يبدو بديهيا أن الذاكرة الذواتية لا يمكنها القيام بإنجاز
وحدة مكون مساري سردي ما إلا في حالة إحاطتها
مسبقا بخلفية تجريبية جاهزة لإنجاز مقتضى خصوصي
معاش من دلائلية تمظهرات انطلاقة حياتية و واقعية
حقيقية .. هكذا يشكل محور الأقتضاء المنطقي قبل كل
اعتبار مخيالي ما صنيع الادوات الكتابية المشذبة .
تبعا لهذا سوف يوافق العمل السردي شرطا كفعل كينوني
داخل مجال حيوية العلاقة الأفقية بين مقترحات نواة
الذاكرة المعيشة و نواة الصبغة الخيالية المفتعلة في سياق
مقولة المؤلف وما في ذاكرة قلبه . و نحن نقرأ مقدمة رواية
( أجنحة البركوار ) للصديق الروائي عباس عبد جاسم
هذه المقدمة على حد قوله اللامسؤول و اللامدروس ( هذه
رواية متخيلة لا أساس لها من الواقع حدثت في زمن غير
معلوم و في مكان غير مألوف و إذا ما حدث أي تشابه
أو تطابق بين التخيل و الواقع أنما هو مجرد تشابه عفوي
غير مقصود / مقدمة المؤلف ) لعل ما قرأناه من كلام في
مقدمة و توطئة الروائي لنص روايته بات يوحي لنا بأن
الأستاذ المؤلف حتما كان يحاول دفع غل للشبهات عن
ذاته و عن حقيقة الاخرين من شخوص روايته التي باتت
تؤكد لنا ولذاتها بأنها من صميم قلب جغرافيا الواقع الذي
كان يحيا فيه الروائي في زمن ليس بالبعيد عن زمننا
الحاضر .. على أية حال فأنا شخصيا لا أجد ثمة ضرورة
روائية و جمالية ما تدفع عباس عبد جاسم الى مثل هذا
التبرير الذي أوحى به في مقدمة روايته ، لاسيما و أني
شخصيا أعرف شخص الروائي جيدا فهو من الناس الذين
يخافون الأشياء من حولهم بشكل لا يوصف ؟ في الحقيقة أن
رواية ( أجنحة البركوار ) ما هي إلا صياغة روائية متكاملة
فنيا و بنائيا حيث أنها جاءتنا عبر أدوات أسلوبية رصينة
وراسخة في متواليات أبنيتها العلامية ( الميتاسردية ) و
بأمتياز عال حيث تصل أحداثها ( الميتاتشويقية ) الى مرحلة
محاكاة النصوص الروائية الكبيرة الذائعة الصيت . ولو ذهبنا
نستقصي وضعية دلالات موضوعة النص لوجدناها عبارة
عن نسيج أيقوني محكم و دقيق من الوقائع المونتاجية
المتصلة بهوية حدود المصائر الفردية و في مستواها اليومي
و بين نظائرها في وشائجية عملية ترميزية راحت تتراوح
بين شفرة المباشر الآني و دلالته و بين ذروة الأستيعادية
المجسدة في حلقات المشهد الدرامي في فضاء السرد . أن
حكاية ( أجنحة البركوار ) حكاية مرتبطة بالأثر الذاكراتي
الشخصي البحت و الذي هو باقي في ذهن شخصية المؤلف
المجسدة في شخصية أيوب كفعل محوري / ذاتي ناجم عن
تقابلية السيرة مع محور المنظور المتسق عبر جاهزية
النسيج الروائي الصوتي بأكمله .. مما جعل المؤلف يحقق
في سرد نصه ذلك الاتساق الحياتي و التمثيلي و التماثلي
عبر خطوط المنحنى الشكلي و المضموني المعمق الذي
لا غبار عليه : ( بعد أن مضى السيد أدهم الشهواني الى
حتفه و أنهارت أجنحة البركوار مرت سنوات طويلة أرخ
فيها كتبة و رواة و شهود عيان لتفاصيل ما حدث و لكن
لا تزال أسرار البركوار مقفلة و رغم مرارة تأريخ الأسى
لا أحد يعلم بالمسكوت عنه سواي و أنا مقعد على كرسي
متحرك لم يزرني أحد من الأصدقاء سوى صديق أسمه
أحمد الطيب ) من هنا حان لنا أن نتفرس في أحجية و
حقيقة و طلسمية سيرة المؤلف مع حكاية المروي له
(أحمد الطيب) و في شكل بات يسجل جل تفاصيل أحداث
و وقائع أجنحة البركوار في نهوضها و أنتكاسها الجبروتي
في صواعق وجودها الصراعي الفريد مع بانوراما
شخوصها غير المنفصلة عن وظائفية انقيادها القسري
المفترض في أفق كاميرا عين الشاهد الروائي . و في الآن
نفسه تواجه الشخصية الساردة في الرواية ــ أيوب ــ ثمة
حذوفات موزعة بين شخصية المرسل إليه و بين صورة
المحور المركزي في تفاصيل الرواية ( أعترف
بأنني جزء من سيرة البركوار عشت أمجاده و انكساراته
التي لا تعد و لا تحصى حتى أيقنت لماذا أختارني السيد أدهم
الشهواني كاتبا له .. من المؤكد أنه وضع ثقته بي ربما لأنني
لم أدون ما ينبغي أن يبقى طي الكتمان ) و يطول بنا التحديق
القرائي و التتابعي في أحوال هذا المروي السردي في جل
ملاحقاته الجسدية و الذهنية و السلوكية ــ أدهم الشهواني ــ
وصولا الى جملة تراكيب وصفية واخبارية باتت تشكل لنا
مسرودا تعاقبيا بين التفصيل الأستعادي و بين حضورية
السرد الصوري في قلب الأحداث .
( طابعية الصراع و سرانية المخبوء السردي )
في رواية ( أجنحة البركوار ) ثمة محاور صراعية خاصة
راحت تختص بها جملة وقائع استجابية من شانها تعديل حجم
المتصور الأنتقالي بالأحداث الى صعيد المجارات النفسانية
الصراعية المحايثة لزمن معنى أفق الأنتظار المؤجل من
حيز الدلالة التواصلية المقاربة في محتوى السرد الاستفهامي
( فقد سألني ذات مرة بعد أن أدرك خطورة ما تفوه به :
ــ هل دونت كلامي ليلة البارحة ؟ ــ لا يا سيدي لا يمكن أن
أدون هذا الكلام الخطير .. أنشرحت أسارير وجهه ثم ربت
على كتفي : ــ حقا أنت كاتب ذكي و أمين ) في فقرات بعض
من محاورات الرواية نعاين بأن القابلية الحوارية بين
الشخوص قد جاءت وفقا لمعطيات مسبوقة من حالات دال
( المسكوت عنه = المصير = فعل مشترك ) على حين
غرى تظل ماهية المحاورة و كأنها جملة مبررات جاهزية
الأنتقاء المسير نحو أداة ترويج مستوى صراعي متمايز
بزمن الشد الشكلي و الموضوعي .. و على الرغم من
أن حالة الأنطباع كانت في ذروة مستوى ( مقترح الأحداث)
التي لا تقود في حقيقتها الى شيء مكشوف إلا أننا كقراء كنا
نلتمس جملة مواجهات الأنكشاف التراكزية في بؤرة سلطة
وحدة مستويات الأضمار الموقفي من حيز وجود صورة
استقراء وجه التغييرات في نمو مسار الرواية : ( وذات ليلة
ارسل الشهواني بطلبي فأستبدت بي دوامة من الشك .. كنت
أصغي إليه بوجل و خوف و راحت مخيلتي تتوهم أشياء
تنسحق في صمت مريب ثم طمأنني بلهجة لا تخلو من
المداهنة : ــ أخترتك يا أيوب لأنك لست من طائفتنا لأنني
لا أثق بأبناء جلدتي ) و في هذا المسعى من كلام الشهواني
ثمة كشف لزاوية من زوايا تعارضه الشخصي مع أبناء
جلدته . حيث يمكننا بعد ذلك متابعة ما حصل بينه و بين
من حوله من شخوص جلدته كمثال ( أزهر الشيخ )
و شخصيات أخرى .
( الرواية في ممرات تراجيديا الخوف )
في مشاهد و أحداث رواية ( أجنحة البركوار ) لا ينفصل
( الموت / القلق / الكابوس ) عن الوجود السردي إلا ليعانق
اطلاقيته و رغبانيته و رمزيته في قمم تكاثرات تلك الأبنية
الكابوسية .. أنها تشكل حياة في محيط ضاج في ذروة أتون
التعقيد و خطابات التأزم الذهنية و النفسية و الجغرافية ،
ربما من جهة ما لا تعوزها سوى حلقات سقوطها في بلاغة
آثار تشغيل رمزية الجحيم الأسطوري و شحنه بمعاني حياة
تلك الرقعة البوهيمية من أجنحة قرار البركوار: ( كان الكل
يعلم أن من يدخل البركوار لا يخرج منه إلا و قد أستوطنت
فيه طفيليات غريبة لها قابلية مدهشة على إشاعة الاحساس
بالعجز و اليأس و اللامبالات لهذا لم يخرج أحد ممن كان
معي معافى حتى أنا لم أنج منه و إلا فما جدوى حالي
الآن ؟ ) أن انصياع حياة أيوب الكاملة لمدلول سلطة
الشهواني و خوفه من أزهر الشيخ ، بات يشكل في عمق
المغزى الروائي كعلامة قسرية مقرونة في السير نحو
استجابة خلافية مع تحولات الشخصية و نموها في ذلك
الزمن الروائي البوليسي المحفوف بروائح عطب العاطفة
و السلوك و المصير . و لكن رغم هذا الكم النوعي من
الوحشة نرى أيوب يواصل خطواته القلقة في مملكة الخوف
( البركوار ) و بحضور شخصيات أخرى كشخصية
(عائشة / روز سعيد ) و القارىء لتفاصيل حياة تلك
الشخصيات سوف يجد ثمة معاني من العنف الرمزي و
القمع الخيالي سارية في تشعبات أفئدة تلك الأفراد من
حكاية سؤال و محور شخوص أجنحة البركوار :
( أعتدت أن أذهب الى البركوار صباح كل يوم و كأنني
أجوس طبقات متدرجة من الأعماق تتلقف طرقه قدمي
ثم تدهمني رائحة غامضة شبيهة بالكافور و قد طفت
عليها رائحة أزهار القرنفل و القداح المزروعة عند حافات
الأرصفة و الممرات المتقاطعة بين جزر الحدائق الوارفة
وسط فضاء مستدير بقباب عالية .. حيث يتوسطها تمثال
ملثم الوجه يشمخ بقامة سامقة على قاعدة من مرمر صقيل
عبر بوابة البركوار ) أن عباس عبد جاسم يبدو أنه يستخدم
في محمولات أوصافه للأمكنة و حالات الرموز ثمة أمكانية
ربطية خاصة تذكرنا بما شاهدناه في حكومة العهد السابق
حيث ظلال التوتر و الصياغات القهرية على سلوك الفرد
الأعزل. حيث لنا القول من الممكن و المتاح أن تتحول
انعطافات الذوات و صورها نحو أفق و مجاورات صميمية
أي كمرجعية حكومة النظام الصدامي السابق و بدليل علائقية
( الشهواني = صدام =عدي = القصر الجمهوري ) أو
العكس ربما ( أحمد الطيب = المؤلف = الرجل المقعد =
أحد رجالات اللجنة الأولمبية ) و من خلال من يتحدد من
الشفرات الأسمائية و المكانية المتنكرة نعاين بأن الروائي
يسعى نحو تمويه المقاربات و الدلائل نحو غاية نفي الشبهات
بالفكرة و التصريح تحاشيا لأحتدام الذات الكاتبة مع لحظة
كشف المسكوت عنه بالواقع اليقيني و الموثق و بقدرة التماثل
بكافة تفاصيل الأفكار المخبوءة سرا .
( تعليق القراءة )
أن وعي الخيال أو الواقع في فصول رواية ( أجنحة
البركوار ) لا ينفي سمو أشكالها الأدواتية و تمظهراتها
المرموزة و المكشوفة من خلال الذائقة الأختبارية لدى
القارىء و علاقته الطويلة بصور وحالات و إيحاءات
مثل هكذا مشخصات قولبية و توليفية جاهزة . أن إجرائية
وقائع رواية المؤلف أخذت تترتب عليها ثمة علاقات كانت
الأساس في تفهم ملامحها الشعورية و الأسلوبية و الدلالية
.إذ تبقى أخيرا الصيغة التي تعرفنا بحقيقة مخاوف الطبيعة
البشرية في مثل تلك الأمكنة ما هي إلا حلقة من مجاورات
الفكرة المكررة من ماضوية المحمولات و المقاصد التي لا
تتسع من خلالها إلا حياة محاولات رسم شكل بناءات
مفترضة القواعد و التصورات و القبول و التوافق : ( هكذا
مضى السيد الشهواني الى حتفه ولا يزال الكثير من أسرار
البركوار مجهولة ولا أحد يعلم بها سواي حتى الآن ) و عليه
فقد بدا واضحا ان الاشارة الأولية من زمن الرواية لربما
كانت تلوح نحو استمرارية المسكوت عنه في المشروع
الروائي بكافة مصوغاته و حالاته الاتجاهية و تصوراته
القلقة في بواطن مملكة الخوف .