18 ديسمبر، 2024 5:19 م

قلب لا تدخله الشمس

قلب لا تدخله الشمس

كانت مسترسلة في حديثها السريع المتلعثم مع صديقتها، وكأنها تحفظ درسا منذ ليلة البارحة وقررت أن تسمعه عليها طوال النهار. كانت خلال كلامها الغاضب تفتح شاشة هاتفها وتسحب بإصبعها المتشنج، صفحات صور متلاحقة يبدو أنها لحفلة زفاف، معاودة دق كتف صاحبتها في كل مرة تشعر أنها قد غفلت عن صورة ما، بينما صوتها لم تتغير نبراته لحظة واحدة، لتوائم مشاعرها المضطربة؛ خافتا خائفا أسير أسنانها المطبقة وشفاهها الجافة.
لم تتكلم ولا كلمة واحدة عن حفل الزفاف الذي حضرته ليلة أمس، كما كان متوقعا أثناء عرض الصور أمام صديقتها، فكل حديثها كان ينصب على وظيفتها القاتلة التي يجب أن تتركها فورا، قبل أن تقضي على الباقي من شبابها في هذا المكان الذي لا تدخله الشمس.
في فترة الاستراحة القصيرة التي تعودتا أن تقضياها سويا منذ أن انضمت الموظفة الغاضبة إلى العمل، قبل شهور قليلة عدة، تتقاسم الصديقتان طعام الإفطار المتجدد يوميا درءا للملل الذي يملأ المكان والزوايا والطاولات والأحاديث. وخلال تلك الدقائق القصيرة تستعرض كل منهما وبشكل سريع ومختصر أحداث بقية يومها السابق، خصوصا وأنهما تعملان لساعات متأخرة من النهار. إنما ومن باب الكلام وحسب، تعيد كل منهما على الأخرى تلك التفاصيل المعادة المكررة المحفوظة عن ظهر قلب، اللهم من بعض القصص الطارئة. إنما اليوم كان للحديث شكل آخر ظهر واضحا من الثورة الكامنة في شرايين عنق الصبية المنتفخة وفكها المتصلب وقلبها متسارع النبضات. “لن أكمل المشوار هنا، ما زلت صغيرة على هذا الهم يا صاحبتي، أقضي غالبية نهاري بين الجدران الباردة، لا أنفذ كلمة واحدة مما تعلمته في الجامعة”، تبلع ريقها وتنظر حولها توجسا من فضوليي الزمالة “قلت لك مرة إنني حاربت أهلي كلهم لأجل التخصص الذي اخترته عن كامل رغبتي وشغفي بالرسم”، تعتصر صديقتها ذاكرتها قليلا حتى تستعيد موضوع الحرب ذاك، فتعيدها الأخرى إلى شاشة هاتفها لتريها صورة جديدة للعروس وهي ترمي باقة الورد إلى الوراء حيث لم تستطع أن تلتقطها كالعادة، بسبب ضعفها الأزلي في الحساب والهندسة، وتفوقها التاريخي في مادة الخيال، كما كانت تقول. “تخيلي أن الأولى في تخصص الجرافيك ديزاين في الجامعة الأردنية، تقبع هنا لترسم أشكالا ثنائية الأبعاد، حسب طلبات الزبائن المعادة والمقلدة”. كانت تعتقد أنها يمكن أن تغير في مخرجات الإعلانات الصادرة عن الشركة، فور جلوسها خلف شاشة الرسم، وانسياب أفكارها المبدعة أمام أصحاب العمل. أول أحلامها الصغيرة تحطمت في بداية الطريق، الذي ابتدأ بشعار الزبون دائما على حق. ليتوالى بعدها مشهد تكسر البلاطات فوق بعضها، بضربة اعتياد الأماكن المغلقة وبيروقراطية الأدوار والقرارات، وانتظار راتب آخر الشهر مع جموع المنتظرين من قبل أن ينتهي منتصفه، والفرح المبالغ فيه بعيدية شهر رمضان!
“أنا أدفن نفسي بالحياة هنا كما ترين، لن أرى أحدا ولن يراني طالما بقيت في الوظيفة. ثم من يقبل بزوجة راتبها بالكاد يكفي أقساط سيارتها ومصروفها الخاص؟ اليوم يبحثون عمن تساعدهم ومعهم حق بصراحة، أنت جربت وعرفت. لطالما أملت نفسي بمشروعي الخاص بعد مرور عام أو عامين، إنما بالله عليك من سيكفل شابة لا تملك إلا أفكارا، صارت أسفارا تحملها فوق ظهرها كالهم البائت؟، تنكز صاحبتها حتى تنتبه ليد العريس الحنونة على وجه عروسه الحالمة.
تنتهي فترة الاستراحة، فتفرح رفيقتها بالإفراج المؤقت، لحين الاستراحة المقبلة بعد ساعات عدة. تقوم من فورها قبل أن تشدها الأخرى من كم ثوبها كالعادة، لتكمل بيان ثورتها في المصعد. تعرف هي تماما أن الباقي من عمر تلك الثورة شهران على أبعد تقدير. بعدها ستروض وجهها وعينيها وجلدها وقلبها، على مكان لا تدخله الشمس، وتعتاد على السكوت رويدا رويدا، قبل أن تترفع في وظيفتها وتصل إلى مرتبة الصمت.
نقلا عن الغد الاردنية