انقلاب الموازيين واختلال القيم، سمة رافقت المسيرة البشرية، وهي مرض خطير وفتاك يؤدي إلى خراب الأوطان وتسافل المجتمعات، وفقدان رؤيتها، وانحراف تفكيرها، وفساد تقييمها، وسقم اختيارها، فيصبح عندها الحق باطلا والباطل حقا، والمنكر معروفا، والمعروف منكرا، والكذب سياسة، والنفاق لياقة، والناصح عدوا، والعدو ناصحا، والمجرم وبطلا، والمظلوم مجرما، وبصورة موجزة تصبح الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة…
لقد وجدت ظاهرة انقلاب الموازين رواجا كبيرا في أروقة السلاطين ووعاظهم وإعلامهم، حيث أنهم يتفننون في صناعة الأمجاد والألقاب والمناقب، عن علم وعمد، وبصورة منافية للشرع والأخلاق، تثير الغرابة والعجب وخصوصا في العالم العربي والإسلامي، لتتحقق بذلك نبوءة نبي الإسلام حينما قال: ستاتى على أمتى سنوات خداعات يكذب فيها الصادق و يصدق فيها الكاذب ويؤتمن الخائن و يخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضه) قيل (وما الرويبضه؟) قال: الرجل التافه السفيه يتكلم فى أمر العامة،
والتاريخ حافل بتلك المظاهر المشينة، ومنها ما كشف عنه احد المحققين المعاصرين نقلا عن ابن الأثير الذي جعل أعمال الشرّ والقبائح، التي فعلها الخليفة جلال الدين وحسب ما ينقله ابن الأثير نفسه في كتابه الكامل، جعلها مِن الفضائل والكرامات لجلال الدين المجرم القاتل!!!، حيث قال المحقق المعاصر : قال (ابن الأثير): {فَخَرَّبَ الْجَمِيعَ، وَقَتَلَ أَهْلَهَا، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَاسْتَرَقَّ الْأَوْلَادَ، وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَعَمِلَ بِهِمُ الْأَعْمَالَ الْعَظِيمَةَ}، فعلق المحقق المهندس: ((لا استنكار ولا اعتراض له أبدًا على هذه الأفعال الشنيعة والإبادة الجماعيّة للإنسان والإنسانيّة، بل أكثر مِن ذلك، فهو يبارك لجلال الدين الفاسق الإرهابي القاتل ما فعله حيث قال {وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ، فَكَفَّ عَادِيَتَهُمْ وَقَمَعَهُمْ، وَلَقَّاهُمُ اللَّهُ مَا عَمِلُوا بِالْمُسْلِمِينَ}!!! ويقال: مِن أين للدواعش التشريع والتأصيل في قتل الناس وإبادتهم جميعًا؟!!))،
وأما في الوقت الحاضر فحدث ولا حرج، حيث بلغت ظاهرة انقلاب الموازين ذروتها وبلا حياء ولا خجل وبصورة صارخة وفاضحة وسافرة، فالاحتلال صار تحريرا، والمحتل صار محررا وفاتحا ووليا، والقتل والدمار والخراب ديمقراطية، وتسليط الفاسدين والسراق انتصار للدين والمذهب، زمن يكذب فيه الصادق، ويصدق فيه الكاذب، ويؤتمن الخائن، و يخون فيها الأمين، ويحكم الجاهل، ويغيب ويقمع العالم وأصحاب الكفاءات، والتبعية منقبة، والوطنية مثلبة وجريمة، وتستباح فيه الحرمات، وتنتهك المقدسات، وتسحق الحريات، وتسلب الخيرات…، وكل ذلك يُعد مناقب وفضائل ومكارم لمرتكبيها…