آلية التفكر العربي بأسرها يمكن إختصارها بهاتين الكلمتين , والأدلة على ذلك متواصلة متراكمة ولا تحصى , وهي في ذروة تدفقها وتماديها بالتعبير عن أساليب “قفا نبكي”!!
وهذه العلة التفكيرية المترجمة بالسلوك , أذهبت العقل وأسهمت في صناعة الواقع العربي المرير والخطير , الذي تواجهه المجتمعات العربية في أي مكان تحل فيه.
كما أنها تمثل العلامة الفارقة ما بين العقل العربي وعقول الدنيا الأخرى.
فعلى سبيل المثال , عندما إنكمش الإقتصاد الأمريكي بسبب السياسات المنتهجة في الحكومات السابقة , لم يقف الرئيس الأمريكي المنتخب متباكيا نائحا وملقيا باللائمة على سابقه , وإنما شمّر ساعديه وعقد العزم على المعالجة والإنطلاق إلى آفاق جديدة , ونجح في ذلك وما تذرّع يوما بما جرى في العهد الذي سبقه.
وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم تنوح وتبكي على نفسها وتلقي باللائمة على الحزب النازي وقادته , وإنما إنطلقت في مشاريعها الحضارية وتجاوزت تلك المرحلة بعد بضعة سنوات , وها هي اليوم في قمة قوتها الإقتصادية والأخلاقية والسياسية.
وكذلك الصين لم تقف باكية نائحة على فشل ثورتها الثقافية وإلقاء اللوم على هذا أو ذاك من قادة الحزب الشيوعي , وإنما قررت أن تستثمر في طاقاتها وتتعلم من تجاربها وتحقق أفضل التعبير عن إرادتها.
وروسيا فعلت ذات الشيئ , فما بقيت تتباكى على إنهيار الإتحاد السوفياتي الذي كانت سيدته , وإنما إستجمعت قدراتها وإستثمرتها في ترتيب أوضاعها وإستعادة دورها ومجدها المعاصر.
والأمثلة كثيرة ومتنوعة , إلا عند العرب , فلا تجد مثالا واحدا يخرج من صندوق النواح واللطم وذرف الدموع على ما مضى وما إنقضى أبدا!!
ففي العراق مثلا , لا تزال الكراسي تبرر عجزها بسبب النظام السابق , وما تساءلت عما أنجزته خلال أكثر من عقد تمارس فيه السلطة , بل أن الكثيرين لايزالون يتباكون ويتناوحون على أن سبب ما يتحقق اليوم هو ما جرى قبل عدة قرون , وكأن الحياة جامدة والبشر أحجار لا تؤثر بها عوامل التعرية.
وما أن تجالس جمعا من الأخوة العرب حتى تندلق آليات هذا التفكير البكائي النواحي المستطير , الذي يفسر كل ما يجري في الحاضر بما جرى قبل مئات السنين , وتبقى منذهلا , متعجبا ومندهشا بلا قدرة على تغيير آلية التفكير وإخراج الجمع من خنادق الماضوية وحُفر الغابرات.
فماذا يُرتجي من مجتمعات منحبسة بآلية تفكير فتاكة تستهدف سحقها وتدمير وجودها وخلعها من واقعها وحشرها في ظلمات الباليات.
ومن المؤلم أن العقول المتعلمة والمتخصصة تعجز عن التحرر من قبضة التفكير البكائي النواحي اللطّام الملامح والمميزات.
ولن تحقق الأمة إنجازا مهما ومؤثرا ونافعا إن لم تعي هذه العلة المدمرة وتتحرر من تداعياتها الخطيرة , وتتفاعل مع مفردات مستقبلها وتنطلق حرة وبعافية عقلية ونفسية واضحة.
فهل سنحطم قيود “قفا نبكي” , ونتكاتف وننادي سوية ومعا وجميعا ” هيا نعمل” , هيا نبني” , هيا نحيا” , وهل سنمحوَ كلمة ” قف” من أرشيف مفرداتنا العربية؟!!