18 ديسمبر، 2024 9:44 م

قطعة من رواية محتملة

قطعة من رواية محتملة

1
اظن ان لوح الطين لم يعد مثلوما كما انولد اول مرة . قد يبدو هذا تعبيرا آثاريا أو محاولة بائسة لقنص لحظة ادهاش ممكنة . كنت فعلتها من قبل وارى من العدل ان لا اثردها ثانية فوق موائدكم التعبانة وصوانيكم الشحيحة . اللغة المركبة تفسد النص وتسحله مجبرا الى ارض الصنعة وقد تطمره هناك ملطخا بشهوانية التجريب . سأكتب بعد الآن بلغة شارعية شوارعية صرف ، مستعيرا حياتي الراسخة التي انجبت ولدا حلوا ما زال يضحك كلما انقلب خزان الذاكرة وتفتق عن سكراب عتيق . بعد ازيد من خمس وعشرين سنة على تلك الواقعة الشائنة ، اراني استعيدها بمرارة وعار ، لكن اياكم ان تنطروا مني اعترافا مؤجلا بذنب عظيم . حدث الامر بغتة كما لكمة زرقاء تحزم عينك او تدمغك بعنّة أزلية .
ليلتها ، كان عمري يلعب عند اعتاب منتصف العشرينيات . ازيد من خمس وعشرين واقل من ست وعشرين . الأفضل ان اكون صادقا وجادا في تلك المعلومة لأن بناء الحكاية سيدور طويلا حول تلك الليلة . لتكن خمساَ وعشرين سنة أذن .
كانت الحرب قد غادرت عامها الرابع وصارت راشدة وقوية . اقصد الحرب مع ايران . ربما كنت من النوادر الذين فلتوا من الموت وهم بين اضلعه . انا وحيد امي المدلل وكان هذا هو السبب الجوهري الذي منعني من اقتراف غواية الميت وجعل السيد المهذب عزرائيل يبكي ويلطم كلما شاف وجهي الخوّاف . هي ماتت بعد قليل من زمان موت نطيح المدافع . مرة طلبت منها ان ترش طاسة ماء خلف سفري الى شقوق القتل . ضحكت بقوة كما لو انها لم تكن هي التي اتت من شعب مكة اذ طوفت مع المطوفين ورمت مع الرامين ونحرت مع الذباحين وأنشدت مع حشود المنشدين المطمئنين . من طعوم السرد الممل ، اتلذذ اللحظة بحلاوة قرصتها الخالدة فوق خدي الأملس . سألتني ان كنت ادري سر مقتل سعد ابن جارتنا ام سعد في اول امسية عسكر فيها شرق رمل البصرة . قلت اصطاده قناص ايراني بارع . ضحكت امي حتى كادت تنقلب على قفاها . لم تكن بي رغبة للضحك لكنني صنعت نصف ابتسامة باهتة . بستها من جبينها العالي وباستني من حنجرتي الناتئة في نبوءة نادرة تتصل بموتي مذبوحا أو مسموماَ أو مقهوراَ فوق رصيف غريب .
ثانية ، عادت امي الى ضحكتها المسموعة حتى سابع جار ، وأسرتني بمساء مقتل سعد ابن ام سعد . لقد طشت المجروحة أمه ، طاسة ماء عملاقة خلف الولد فأوهمته بأن الموت سيبول على سرواله ان شاف سعدا يتمشى فوق الساتر . سعد يشبهني تماما وكانت امه قد انزلته من بطنها قبل ان تفرغني امي من جوفها الطاهر بساعة . عندما سمته سعدا ، قالت امي : لو كنت بنتا لسميتك سعدة . منذ بعض سويعة ، اكلت امي ياء سعدية وقبل ان يجف مخاط فرجها الرطب ، صاحت أئتوني بالولد سعدون . في أخير البلبلة و ” دفعة علي ” صرت سعدون ابن ام سعدون .
اظنني قلت ان سعدا يشبهني تماما . المسألة شكلية محض . لم نكن كذلك ابدا . كنت ذكيا وكان غبيا أحمق . امه كانت شبيهة امي ، تحبه . تنوح عليه كل الليل وتتناوح كل النهار حتى صارت ملحوناتها اناشيد وطنية لأغضاض الحارة .
سعد مثلي . لم يكن شجاعا قط . كان ارعن حسب . خشمه يسيل وهو يبرك فوق العشرين ، وكان ممتنا لأن صبايا وحسان الزقاق كن يطلقن علية اسم سعد ابو مخطانة . مرة ، رمى سعد وردة جورية حمراء لواحدة فائرة من تلك البنات ، مرصوص لحمها ناهد صدرها المحمول لصق جيدها من دون حمالات أثداء . أنحنت سليمة على الوردة والتقطتها وبصقت في قلبها وأطلقتها صوب سعد وصاحت : امش ولّي أبو ظرطة ، صاير لي دون جوان ، من عمت عينك وعين خلقتك الجايفة .
شوفوا كم هي مدهشة منحوتات اللغة . البنات الحلوات ، دفن وعجن وخبزن مخاط الولد الغبي سعد ، فصيرنه مخطانة . مرة عاد سعد منتحبا وزرع رأسه الصغير في حضن امه كما لو انه يريد الولوج ثانية الى قبوه اللزج . كان حسن ابو الفلافل قد ضربه على وجهه بطاسة اللبن وقال له ، اياك ان تأتي ثانية يا وجه النحس يا بومة يا ابو ظرطة يا ابن الزانية وقد نفر نصف زبائني من منظر خشمك السيّال شبيه فرج سميرة القوادة مع مضاجعة خاطفة من سبعة شداد في خان جائف من خانات باب الميدان . اظنكم لم تسمعوا بخبر حسن ابو الفلافل وبسيرته ومسيرته من قبل . هو وحش بقناع آدمي . غليظ قلبه ، ولسانه مثل لسان قندرته ام القيطان . تحكي عنه رواة الحارة بأنه كلب ابن سطعش كلب ، حط حقيبته على غريفة مبنية من صفيح وطين وحجر وخشب وقش وقار ، لكن مهلا عليّ فالقصة لم تكن متخيلة او منزاحة . كنت شاهدا ومنصتا ليلة باغت حسن ، سعد ابن ام سعد بقاذورات الكلام . كان حسن على صواب حين دمغ سعدا بأبي ظرطة . مرة كنت صحبة سعد نشاهد فلم ” نحن لا نزرع الشوك ” . الفلم كان من بطولة شادية ومحمود ياسين وعرض بالأبيض والأسود من على شاشة سينما بابل بشارع السعدون ببغداد عند منتصفات سبعينيات القرن البائد . كان سعد يظرط كلما اقتربت شادية من انجاز لفظ شين الشمس . كانت فرصة مذهلة للبكاء والتوجع والأنين ، خاصة في مرقاة الوجع الذي تعرش فوقه شادية البديعة فتجرح اكباد الناظرين وتدمي قلوب السامعات النائحات المحصنات بطقطوقة ” والله يا زمن ”  والثانية الدامية التي منها تندب كأنها في ثغيب حسيني موحش :
” لا لينة اهالي يابه يسألوا علينه
ولا قلب احنيّن واحد في اللي حوالينه
وبنبكي في قلوبنه يابه ولا دمعة في عنينه يابه ….. “
ظل هذا الشريط الخالد معروضا من مشوفة سينما بابل اربعة شهور ، وكان الحشد كله يبكي ويتفجع حتى وصل الحال بعجوز محترمة شيباء الى ان تفترش باب السينما وتطيّن رأسها العاري بطين هش كانت شالته احذية القادمين من مستودعات وجيوب  الفقر التي تسور العاصمة العباسية وتنام في أحشائها .
سعد هو الآخر كان يبكي ويتلوّع . انا الرائي النادر الذي لم يبك ولم يتحسر حتى . جاهدت غير مرة كي افرش ذاكرتي الفعّالة فوق وجه شادية لكنني لم افلح . لقد استولى رنين ظراط سعد ابن ام سعد على كل قحفي وكبل عاطفتي وختمها بالشمع .
لم يفتر او يتجن حسن ابو الفلافل او يكذب اذ قال لسعد ، اغرب عن عربتي يا بومة يا خلقة منحوسة . لكن حسنا كان نذلا وساقطا وابن مشرد مرّ مصادفة بغريفة أمه ، حين ذهب الى توصيف ام سعد بالزانية . قلت له : عيب عليك يا حسن ، لقد ظلمت المرأة وهي ما زالت تحسو جرار ماء زمزم العتيق . رمى حسن الشرير قالب تصنيع الفلافل والملعقة من يده . هصر جسمي المتضعضع على حائط من طين مقوى بقش ، وطوّح بسكين لمّاعة بوجهي وقال :
ان اعدتها ثانية ، ساعمل من مؤخرتك مرآبا لسكّيني العزيزة .
تلك كانت من اقسى ليالي الخزي التي لم انسها حتى لحظة خشوعي جاثيا متمتما موشحا ادعية وملونا ما تيسر من قصار السور على باب قبر سعد .
الخارطة الآن صارت واضحة ومشعة :
انا وامي
سعد وامه
حرب هارسة بين العراق وايران
سعد جندي ميت – هذا ما مرسوم فوق بياض الذاكرة –
انا جندي عائش
قبر سعد مزروع في مقبرة باب المعظم برصافة بغداد العباسية .
انا في عمّان ، اكلكل على عائلة منشطرة فرّخت ستة ، اجرجرها ورائي ببطء سلحفاة . ظهري صار نصف تقويسة . لم التفت الى الخلف . ثمة احساس بمشي طويل .
من اثاث الدكة ايضا :
حسن ابو الفلافل . سأخبركم تاليا ، لماذا كتبت عنه انه كلب ابن سطعش كلب .
العجوز التي طينت شيلتها بباب سينما بابل .
ابي الذي لم اجىء عليه حتى الآن .
ابو سعد مثله .
سميرة القوّادة ذات الفرج السيّال .
فوق القادم من تسويد البياض بحروف القص ، سينحصر المشهد في واحدة من اعتق حانات عمّان . انزرع فيها منتبذا زاوية عزلاء موحشة . بغتة ، يفض بكارة عزلتي المشتهاة ، كائن بدا كما ابدو . باسني من كلّي راسما فوق لحيتي ساقية سيّالة من مخاط . كان كمن ولدته امه قبل ان تلدني امي بساعة . سألني ان كنت تذكرته . انكرت . قال سأنعش ذاكرتك بهذه القصة حتى تستعيدني . قبلت وزرعت كوعي فوق طاولة منزوية ، انصت بلذة وكفايّ تتحسسان بقيا لزوجة لحيتي .
تنبيه ملحّ :
غبي وقارىء سيىء واعوج وشرير ، من اعتقد ان ذلك الكائن الذي يقعي الليلة بمواجهتي في حان عمّوني بارد وموحش ، هو سعد ابن أم سعد .