23 ديسمبر، 2024 5:59 ص

قطعة قماش سوداء في ذاكرتي

قطعة قماش سوداء في ذاكرتي

حكايتي عن قطعة قماش سوداء تنسج نسجاً من غزل الصوف الأسود في القرى وتخاط من الحرير الأسود في المدن والأخيرة هي بطلة قصتي . تلك قطعة القماش التي كانت تمثل لي ملاذاً آمناً في طفولتي فحينما نرتكب بعض الشغب الذي قد نظن انه سيفضي الى توبيخ او عقاب نركض نحوها لنلتحف بها ونغطي بها اجسامنا ظناً منا اننا اصبحنا تحتها في مأمن أو نكون قد استخدمناها كوسيلة للتخفي .. كم هي تذهب خوفي حينما كنت صغيراً وتصطحبني والدتي الى السوق فتضعني تحتها لتحميني من الشمس أو من التيهان في زحمة السوق ولا تعلم مقدار فرحتيي وانا اسير منتشياً ممسكاً بطرفها آمناً تحتها .
كانت تلك القطعة المليئة بعطر والدتي مكافأتي حينما يكون يومي هادئاً او أنجز عملاً فتكون جائزتي لأنعم بقيلولة هانئة وانا التحف بها .. هي ما تغطي به والدتي اخوتي الأصغر حينما ينامون نهاراً كي تحميهم من لسعات البرد الربيعي او من البعوض .. قطعة القماش تلك كانت اجمل لُعَبنا حينما نصنع منها خيمةً ونجلس تحتها هي سترنا كما هي سترٌ لوالدتي حينما تطرق الباب او تخرج خارج المنزل .. وكم كانت فرحة اخواتي حينما يلعبن بها صغيرات ويرتدنها في مقتبل العمر حين التسوق …انها قوة الردع الخفية التي تلوح بها والدتي اذا ما ارادت تنفيذ امر ما فبمجرد قولها ” هسه البس عباتي واروح لأهلي ” يتوقف الزمن ونركض لنوصد قفل الباب كي نمنعها من الخروج ! هي عطر والدتي المميز الذي يظل شذاه عبيراً مهما كبرت وهي قطعة القماش التي أبت إلا ان تكون آخر المودعين فكانت غطاء لنعشها حتى الدار الآخرة فاحتضنت جسدها حيةً كما احتضنته بعد الوفاة .
كم انا محتاج لأن التحف تلك القطعة اليوم لأغفو تحتها واشم عبيرها انها عباءة أمي رحمها الله .