تأخذ الدول مكانتها إعتمادا على عوامل عدة, منها قدراتها الإقتصادية والمالية أو قدراتها العسكرية والتسليحية, أو تقدمها التكنولوجي والصناعي, أو ثرواتها البشرية, أو قدراتها الزراعية والإنتاجية للثراوت الحيوانية وما شابه.. ولكن يستحيل أن تجد دولة تملك كل تلك العوامل مجتمعة معا, فيتم الإعتماد على بعض من تلك العوامل في تثبيت مكانة لها بين دول العالم, وبحسب الممكن والمتاح.
مكانة الدولة مهمة لها, لأنها تتيح لها أن تأخذ وضعا يحمي مصالحها, وأمنها من مختلف الجوانب, بل وربما يمكنها لأن تكون مؤثرة في شؤون الأخرين وأحداثهم وقضاياهم, محليا أو إقليميا.. ومنها يكون لها تأثير في قضايا وأحداث عالمية, وهؤلاء قلة من اللاعبون الكبار, من الذين يتحكمون بمصير العالم كله بطريقة أو بأخرى..
إمارة قطر دولة صغيرة المساحة, تقع في منطقة ساخنة وحافلة بالأحداث, لكنها وحتى قبل بضعة سنوات, كانت جزءا من منظومة دول الخليج, التي بطريقة أو بأخرى كانت تقودهم اختم الكبرى ” السعودية” ولا يخرج عن توجهاتها أحد, بإستثناء مواقف مميزة للكويت وعمان, وفي بعض القضايا المحدودة فقط..
تلك الإمارة حباها الخالق بثروات كبيرة من النفط والغاز, أحسنت قيادتها إستثمارها داخليا وخارجيا.. فكانت الرفاهية والدخل الفردي المرتفع للمواطن القطري, والإستثمار والمساعدات والقروض, والدعم والتمويل لدول أخرى وفي مختلف مناطق العالم.. فصارت لقطر كلمة مسموعة, في القضية السورية وكذلك في التوسط لإطلاق سراح مختطفين في مناطق مختلفة من العالم, وأخرها دورها المحوري والمهم جدا, في أفغانستان, وما رافق الإنسحاب الأمريكي منها وحاجتهم للتوسط القطري, لدى حركة طالبان للوصول لإتفاق, يضمن خروجا أمنا لقوات التحالف من هناك..
تعرضت قطر لحصار خانق, خلال أزمتها مع السعودية ومجلس التعاون الخليجي ومصر, خلال السنوات القريبة الماضية, وكذلك شنت عليها حملة إعلامية شديدة, حتى وصفت في واحدة منها, بأنها ” دولة مجهرية” لا ترى بالعين المجردة على الخارطة.. لكن ذكاء قادتها في التعامل مع الموقف, من خلال جمع دعم النقيضين, فكان الجسر الإيراني لتوفير بدائل لما كانت تستورده عن طريق دول الخليج من مواد وبضائع, والدعم الأمريكي السياسي والعسكري, الذي كان رادعا ومانعا, عما قيل أنه محاولة لتنفيذ إنقلاب في الإمارة, وربما غزو لم يتجاوز مرحلة التخطيط, وأكملت تامين موقفها, بقاعدة عسكرية تركية.. رغم أن لكل تلك المواقف أثمان دفعت وستدفع لاحقا..
بعد أن كانت قطر دولة ربما, تحتسب هامشية في مجلس التعاون الخليجي, ولا تخرج عن طوع كبار الخليج, صارت اليوم دولة تحتاجها أمريكا, قطب العالم الأقوى.. بل ولها علاقات متينة مع إيران, وهذا يعني بشكل ما تحييد أي خصومة, روسيا والصين وكل حلفاء إيران في المنطقة..
قد يقول قائل أن كثيرا من مواقفها, كانت داعمة للإخوان المسلمين ولكثير من المجموعات السلفية والجهادية المسلحة وأحتضنتهم, وقدمت لهم الدعم والتمويل وربما الحماية, وهؤلاء أرتكبوا الأخطاء والجرائم في مصر وسوريا والعراق, ورغم أن هذا الكلام صحيح في كثير منه.. لكن الإمارة كدولة تبحث عن مصالحها, من وجهة نظرها هي ورؤيتها للأمور, وتعطشها لأخذ مقعد على طاولة الكبار, وهذا لن يكون طريقا معبدا بالورود, ويتفق معه أو يقبله الكل..
بعيدا عن قبولنا لدورها وما قامت به, وكيفية تحليلنا لمواقفها وما نتج عنه, فإن الثابت ومما لا يمكن الإختلاف عليه, أن قطر دولة ذكية.. نجحت في تحويل الثروات التي تتملكها لإستثمار حقيقي, لا كنشاطات إقتصادية أو مالية فحسب, وهذا سيضمن لها أموالا لن تنتهي بإنتهاء ثرواتها الطبيعية.. لكنه أيضا منحها مكانة سياسية تفوق ما يمكنها تحقيقه, لو قيست بحجمها وعدد سكانها وإمكاناتها غير المالية.