18 ديسمبر، 2024 8:47 م

قطرات من عصارة الذات

قطرات من عصارة الذات

كيف ضاعت الوطنية في متاهة تقاطع المعتقدات السياسية ؟
الوطنية هي الشعور بالإنتماء والتعلق والألتزام والولاء والإخلاص لكيان معين يسمى “الوطن” يمكن أن يكون أمة أو بلد أو مجتمع ذو صفات محددة . والوطنية تتجسد وتتأصل حين يعطي الوطن للمواطن الذي يعيش فيه فوائد وخدمات وإمتيازات تجعل من أسس الصلة بينهما قوية ومتينة يصعب فك عراها وتذويبها . والوطنية تأخذ أبعادها بالعمل المخلص الدؤوب من أجل عزة ورفعة الوطن بما يجعله مستقلا من كافة النواحي كهدف أول , ومن ثم السعي لكي يبلغ درجة متقدمة من التطور والإزدهار بما يحقق السعادة والرفاه لمن يعيشون فيه . وتثبت الوطنية نفسها في مدى إستعداد الشخص ورغبته بالتضحية من أجل الوطن والقلق من أي سوء يمكن أن يصيبه والتصدي لأي خطر يتعرض له . لم تأخذ الوطنية في العراق في عصر ما قبل تأسيس الدولة الحديثة أبعادها المتكاملة بشكل واضح , وحتى لم تفلح بالتعبير عن نفسها كما يجب لتشكل عملا مؤثرا يستطيع أن يفرض وجوده , أو على الأقل أن يترك بصمته على ما يجري بالبلاد . أول ظهور حقيقي للوطنية في العراق حيث أخذت مكانتها فعلا وبدأت تتضح ملامحها كان بعد وقوع الإحتلال البريطاني على البلد عام 1917 , وقد ظهر ذلك واضحا عند وقوع ثورة العشرين ضد المحتل البريطاني . وبعد تأسيس الدولة العراقية في أب عام 1921 بدأ المخاض الوطني يظهر فاعلية بينة وبدأت الأصوات تتعالى بشكل مسموع لتنادي بمطالب تعبر بشكل أو بأخر عن مفردات وطنية لم تكن مطروقة بالسابق . قد يكون السبب وراء هذا التطور هو إنبثاق كيان سياسي إلى الوجود عرف من يومها بدولة إسمها “العراق” والذي لم يكن معروفا بالماضي ككيان مستقل بل كان مجرد بقعة من الأرض ملكتها أمبراطوريات متعاقبة مختلفة . وفي غضون عقدين من الزمن أو أزيد تطور الأمر أكثر حين صار بالساحة العراقية أحزاب وحركات سياسية ذات أفكار وعقائد مختلفة بعضها مستورد من الخارج وبعضها ولد في نفس البيئة , وصار لكل حزب أو حركة أتباع ومؤيدين يعملون بصفوفها ويكافحون من أجل تحقيق أهدافها . ونتيجة لهذا التطور تشكل بالبلد عالم متلاطم الأمواج تتصارع فيه الايديولوجيات التي تحاول كل منها أن تحشي بأدمغة الناس عقائدها وتقنعهم بأنها على حق وأن فكرها هو الصحيح والمثالي وإنه السبيل الوحيد لأن يصبح الوطن من خلاله جنة الغد الموعودة ويأخذ مكانه اللائق بين أمم ودول العالم . كان يمكن للأمر أن يبقى سليما وصحيا لو بقي بهذا الشكل غير أن الخطير الذي وقع هو أن عقائد تلك الأحزاب والحركات السياسية وأفكارها وأساليب عملها صارت تتقاطع تقاطعا شديدا , وراح كل منها يدعي بأن فكره وإسلوبه هو السبيل الوحيد والوطني المخلص لتحقيق الأهداف المنشودة للبلد وإن كل ما هو خلافه باطل , بل وحتى خائن بالرغم من أنها جميعا إتخذت من الوطنية لباسا لها . لم يقف الأمر عند حد التقاطع الأيديولوجي بل تطور ليصل إلى حد الإحتراب والتصارع والذي ظهر جليا وواضحا حين بدأت تلك الأحزاب والحركات بالوصول إلى السلطة وتتسلم مقاليد الحكم بالعراق بالتتابع . لقد كان ذلك الصراع والإحتراب يأخذ في بعض الأحيان حد كسر العظم والتصفية الشاملة التي لو نظر إليها بمنظار اليوم لوصفت بعمليات الإبادة الجماعية . وبين صراع فكر هذا الحزب مع عقيدة تلك الحركة ضد مباديء ذلك التنظيم ضاع الوطن وتبدد إستقلاله الذي ناله بصعوبة وتفرق شعبه وتفتت مجتمعه وضاعت ثروات البلد وتهدمت أركان الحضارة فيه وتشرد الملايين من أبنائه وتفشى الجهل وشاعت الخرافة في ربوعه حتى لم يبقى في الوجود كيان محترم يعتد به إسمه العراق .

وكعراقي ولد بالنصف الثاني من القرن العشرين فقد نشأت محبا للوطن وملكت هذا الشعور الطبيعي منذ نعومة أظفاري . كان حبا غريزيا لم يرضعني إياه أحد , ولم يعبيء مشاعره في مخي أحد وإنما ولد معي وترعرع في كياني ونمى بداخلي كنمو جسدي كلما كبرت بالعمر . وحين بلغت من العمر أشده وبدأت أعي الأمور رحت أربط بين الوطنية الناشئة في داخلي بما يدور حولي كمحاولة لأن أجد نفسي في وسط هذا الجو الهائج . كان أول ما فطنت له ووجدته سائدا حوالي هو أن السلطة ومن خلفها المجتمع كانا يشنعان بضراوة لا مثيل لها على العهد الملكي ورجاله , وأن الوطنية هي كره ذلك العهد وكره رجاله وقادته . وبعد برهة من الزمن ليست بطويلة تغيرت الدنيا فجأة وصارت الوطنية هي كره الزعيم عبد الكريم قاسم – الرجل الذي أزال الملكية وكذلك معاداة الشيوعية الكافرة والإيمان بالوحدة العربية وحريتها وتطبيق الإشتراكية , وأن خير من يمثل كل هذا هو الفكر البعثي برداءه الأول . أشهر معدودة ثم تغير الزمن ثانية وأصبح البعثيون هم المكروهون هذه المرة بينما البدلاء القوميون هم الوطنيون وتغيرت الأهداف في ترتيبها من دون وقوع تغير جوهري بنوعها ومفهومها . سنوات قليلة أخرى وعاد البعثيون للسلطة لكن برداء أخر وعادت الأهداف القديمة بترتيبها الأول لتفرض نفسها , لكن المختلف هذه المرة والمميز هو محاولة الظهور بمظهر جديد حيث خفت حدة العداء للشيوعيين والقوميين حتى إن بعض رجالهم أخذوا بعض المواقع بالسلطة الجديدة . ويمر حوالي عقد من الزمان ويتغير حال البعث الموجود بالسلطة من دون تغير النظام ويلبس رداء جديد مختلف عن رداءه السابق كان من أهم مظاهره هو عبادة الشخصية بحدة فائقة وتقديس اعمالها والتي كان من بينها زج البلد بحروب لم يعرف ابدا مدى ضروراتها ولم تفهم موجباتها فسيق الناس إليها كما تساق قطعان الماشية للذبح . وبظل هذه الأوضاع الجديدة صارت الوطنية هذه المرة هي بتمجيد القائد والتغني ببطولاته والتطبيل لحروبه , وصارت تقاس بمدى الإستعداد للإنخراط بتلك الحروب وإظهار القوة والشجاعة وإبداء الباع الطويل فيها . أكثر من عقدين من الزمان مرت على هذا الحال تعددت فيها الحروب وشن الحصار على البلد فمرت السنوات ثقيلة وقاسية على الوطن المثقل بالضحايا وعلى شعبه البائس حتى صار الدعاء لنهايتها وإنكشاف ضرها جزءا من كل صلاة ومفردة على كل لسان . ثم يدور الزمان دورة كبرى ويحل عهد جديد فقد الوطن فيه إستقلاله وأطبقت فكوك المحتل على رقبته وأذا بفئات جديدة سبق وأن حاربت عهود سابقة للوصول للسلطة وفشلت تسفر عن وجوهها من بين دبابات المحتل لتقفز بعد برهة للسلطة وتجثم على صدور الناس . كان الكثير من هؤلاء رجال إدعوا التدين والنزاهة وتظاهروا بالعفة وقالوا بأنهم جاءوا بأمر من الله ليشيعوا العدل والمساواة ويقيموا حكمه على أرض الأنبياء والأئمة . بدى الأمر جميلا ومثاليا وهو يحمل مثل هذه الصورة البهية والقدسية اللامعة في البداية لكنه سرعان ما أخذ شكلا أخرا حين صار بموضع التطبيق حيث تحول ليصبح نقيض ذلك تماما . وبسرعة خاطفة تم إشاعة الفرقة في المجتمع وسادت الطائفية والعرقية وعم الإقتتال بعد فترة قصيرة وصارت التصفية الجسدية تجري على الأسم وعلى الهوية وحل التطهير العرقي والطائفي في كل مكان . ومع كل هذا السوء فقد تفشت أيضا الخطيئة وشاع الفساد وأنتشرت المحسوبية والرشوة والسرقة حتى وصلت إلى أرقام فلكية لم تعرفها اي من الدول على مدى تاريخ الإنسانية . وفي ظل هذا الوضع الغريب أخذت الوطنية في العراق رغم كل السوء والخراب الذي حل فيه شكلا جديدا تمثل في لبس العمامة وإطالة اللحية وإظهار بقعة على الجبين حتى ولو كانت مصنوعة بالأصباغ كدلالة على التدين والفضيلة والزهد ومخافة الله وكثرة التعبد والسجود .

وفي غضون هذه الدورة من الزمن التي تغيرت فيها العهود والأنظمة التي مرت بالعراق والتي إستغرقت مدة من الزمن تمثل عمر كامل خلقت بداخل أي مواطن يعيش فيه إزدواجية (وربما تعددية) رهيبة وضياع سياسي مستفحل كان من نتائجه صعوبة الإدراك أين الصواب واين الخطأ في الافكار السياسية التي سادت بالبلد وتناوبت على الحكم . وكمواطن عراقي مر بكل هذه العهود وتعايش مع جميع تلك الأفكار لم أعرف أبدا أي منها فعلا كان هو الصحيح لكي أتمسك به وإعتنقه بقوة . وكانت النتيجة أن أسفرت الأزدواجية التي اشرت إليها عن نفسها بوضوح في تصرفاتي وافكاري حتى صرت أظن باني شخص متقلب ومشتت الافكار ولا احمل فكرا واضحا . فحين افكر بالطريقة المثلى لبناء الدولة الحرة لا أجد أفضل من النظام البرلماني الديمقراطي الرصين الذي يسود فيه القانون وإحترام حقوق الانسان لأجد نفسي وفق هذا التصور قد اصبحت ملكيا للنخاع . وحين افكر بضرورة تحرير العامل والفلاح من الإستغلال والإستبداد ومنحهم الحقوق والضمانات والحياة الكريمة التي يستحقونها أجد بأني قد أصبحت قاسميا , وحتى شيوعيا في عقليتي وتفكيري . وحين افكر بماضينا العريق وكيف كنا أمة مجيدة سادت بالعالم بسابق الزمان أرى من الضروري جدا العمل على إحياء تلك الأمة العظيمة وبناء دولة موحدة على غرار ما كنا عليه بتاريخنا الغابر لتأخذ مكانتها اللائقة بين الأمم فأصبح بموجب هذا الفكر بعثيا أصيلا . وحين انظر إلى مختلف القوميات السائدة بالأرض أنحاز بالضرورة للقومية العربية التي أنتمي إليها وارى فيها كل مقومات السمو والكمال فاصبح على ضوء ذلك قوميا عروبيا . وحين أنظر إلى الفرقة والتشتت الذي عم بالمجتمع ومدى الضياع الذي حل فيه لا أجد من حل لكل هذا في غير وجود نظام مركزي صارم يجمع الكل تحت مظلة وقيادة واحدة . وحين أنظر إلى السوء الذي تفشى في المجتمع وشيوع الجريمة وفقدان الأمان وأسباب الأنحراف وإرتكاب المعاصي والدوافع التي تشجع على السرقة وانتشار الفساد افكر بضرورة بناء المجتمع من جديد باسس سليمة والعمل على ترسيخ كيان الاسرة والحفاظ على بنيتها وتقوية الروابط الإجتماعية والعودة لتعاليم لله والدين التي تمنع الفسوق وإرتكاب الخطئية والرذيلة فأصير عندها صاحب فكر يماثل ما تدعوا إليه الأحزاب والحركات الدينية .

وفي ظل هذه التعددية بالنظرة والتشتت بالأقكار والقناعات أصبحت ضائعا وتاه أمامي الدرب ولم أعد أدري أين هو موضعي ولا اعرف ألى اين يتجه مؤشر بوصلة تفكيري . حاولت جاهدا لأن افتش عن نفسي بين هذه الأنقاض وأبحث عن الحقيقة حتى إكتشفت شيئا فشيئا بأن كل ما كنت أفكر به هو صحيح مئة بالمئة وإن لا شائبة فيه أبدا , وأن لا عيب موجود بعقلي وأن الخطأ هو في طبيعة الأفكار والعقائد التي نادت بها الحركات والاحزاب السياسية التي مرت بالعراق . ما من فكر سياسي معين مر بالعراق خلال المئة عام الماضية وما من توجه حكومي وأسلوب في الإدارة جرى تطبيقه كان صالحا وصحيحا ومثاليا وخالي من العيوب , وبنفس الوقت هو ليس خاطئا وسيئا بالكامل . إن كل واحد منها كان يحمل بين جنباته بعض ما هو صحيح ومناسب لو تم إختياره على حدة وترك الباقي الغير صالح منه . ولو تم جمع كل تلك الأراء والافكار الصحيحة في فكر واحد جديد مستقل وإعتمد كعقيدة سياسية وطبق بإخلاص وموضوعية لتم حل كل مشاكل البلد ولأستطعنا الخروج من عنق الزجاجة التي بقينا محصورين بها لمدة طويلة من الزمن . فيا ترى متى سيرى مثل هذا الفكر الجمعي النور ويأخذ موقعه كعقيدة عراقية خالصة إنبثقت من رحم المجتمع وتوحد الجميع تحت ظلها وتحقق للبلد كل ما ظل يصبو إليه لعشرات , وربما لمئات السنين .