19 ديسمبر، 2024 1:34 ص

كي يتغلب على ما يمر به في هذه اﻵونة، وجريا على عادته ومنذ سنوات خلت، لم يجد حميد الخياط من نديم يشكو اليه ويشاركه محنته والترويح عنه عند إشتداد اﻷزمات غير ذاك النهر الذي يخترق المدينة من أقصاها الى أقصاها، وها هو اﻵن يسير بمحاذاته، الاّ أن حالة الكآبة التي ضربته أبت مفارقته رغم مضي قرابة الساعة وهما يسيران سوية. فالنهر هذه المرة لم يكن عذبا أو طوع رغبته، بل حتى رآه عصيا غليظا، ذا إيقاع ثقيل، وبدا كما الذي يشق قلبه الى نصفين، ليُذكّره ومن غير رحمة بتلك الجراح الغائرة والعميقة والبعيدة، والتي اعتقدها قد اندملت أو في طريقها الى ذلك.
وﻷن النهر لم يستجب لحميد أو يتفاعل معه وعلى نحو ينسجم وحالته، سيجد نفسه مضطرا ليحدثه بلغة لا تخلو من عتاب: حتى انت يا صاحبي الأبدي، فكم رجوتك أن تكون منصفا، عادلا بيني وبين ….. آه، لم تكن حتى حياديا في أحكامك رغم اني أحببتك وربما أكثر من كل الذين تعرفهم وأعرفهم …. ، نعم أحببتك واجزم اني وإياك نسكن قلبا واحدا، نعزف ونغني على إيقاعات متشابه، تصل وفي أحيان كثيرة الى درجة عالية من التناغم بل قُلْ نتطابق، واذا ما لَحِنْتُ قليلا أو إبتعدتُ عن قواعد وشروط التلاقي التي تجمعنا، كنت تدلني، نعم كنت تدلني، وانا كذلك كنت أدلّك على الرغم من فارق العمر ما بيننا وقلة حيلتي وتجربتي.
الاصوات الصادرة من بعض المارة، لم تلفت إنتباه حميد الخياط ولم تشغله رغم قربها منه، ولم تمنعه كذلك من الإستمرار في مشيته وسيعبر إحدى القناطر الصغيرة التي تُجسر ضفتي النهر، وسيواصل عتابه للنهر: أعترفُ انك علّمتني العوم، ولكن عليَّ أيضاً أنْ اُذَّكركَ، بأني وكم من مرة أوشكت على الغرق، يوم كان عمري آنذاك لم يتجاوز بعد سنواته الست أو ربما أكثر بقليل، لا أتذكر بالضبط، ولكن دعني أفكر قليلاً، دعني أعود الى ذلك اليوم، آه الآن تذكرت …. (عند هذه اللحظة شدَّ إنتباه حميد أمر ما فنسي ما كان يقوله لذا توقف عن الإسترسال).
حالة التعب التي عانى منها حميد الخياط وبعد أن بدأت تتطاير من رأسه نشوة الخمر ويتلاشى تأثيرها، قد أشّرتْ الى أنه ربما مشي بما لايقل عن ساعتين متواصلتين، قضاهما بين الترنح والتذكر. غير ان الشيء الوحيد الذي رسخ في ذهنه تماماً وسيتذكره في اليوم التالي، هو وقوفه الطويل قبالة شجرة اليوكالبتوس العملاقة، التي كانت تغطي امتدادات سيقانها وأغصانها سياج الطرف الثاني من النهر، حيث تتدلى ناعسة، شفيفة، أوراقهاساطعة الإخضرار ، ندية، مُنذرة بنهار بهي آت بعد قليل. راح حينها يبحث عن مدونة كان قد حفرها على جذع تلك الشجرة ومذ كان صغيراً، يوم حَملتْ إسمه وإسم صديقه وتأريخاً صار سحيقاً، لكنه فشل في ذلك ولم يعثر على أي أثر مما كان قد كتبه.
أوشك حميد الخياط ليلتها أو فجرها على معاتبة شجرة اليوكالبتوس هي اﻷخرى كما عاتب النهر، لعدم إحتفاظها بما كانت قد خطَّت يداه قبل بضعة عقود، الاّ انه أعدل عن ذلك في اللحظة الأخيرة. وقبل مغادرته للشجرة اياها لجأ الى مشاغلة نفسه لبعض الوقت، إنتظارا لما ستقوم به تلك اﻷفواج اﻷليفة من الطيور، والتي ظلت مخبأة طوال الليل بين تلافيف وغرّات الأشجار الملاصقة للنهر، فالموعد قد أزف، وهي الأخرى عازمة على مغادرة أعشاشها والإنطلاق نحو يوم عمل جديد، فالفجر أوشك على البزوغ وبانت بعض من خطوط وخيوط الشمس بألوانها الزاهية، وبعض أيضاً من زقزقات العصافير وصدحاتها، حيث بدأت تُسمع من هنا وهناك وتُسمع أيضا رفرفة أجنحتها.
الإصغاء والتمتع بتغريدات الطيور صباح كل يوم، ليس بالفعل الطارىء في يوميات حياة حميد الخياط بل هو طقس ثابت، درج الحفاظ عليه مذ كان صغيرا، وليستمر ويتواصل معه حتى في كبره وكلما توفرت له الفرصة. فلا يدانيه شك، بأن أجمل الصباحات طرا، هي تلك التي يكون أطرافها النهر والطير وشجرة اليوكالبتوس، كيف لا، فهي كما يقول خلاصة مدينته الوديعة التي أحبها ولا يزال، والتي يأبى مغادرتها.
قبل أن يعود الى مأواه، تلفَّتَ يميناً ويساراً، وبعد أن تأكد من خلو المكان من المارة،صرخ بملأ فمه: يا شجرة القلمطوز، هل تسمعين؟ ألا زلت تنتظرين؟ لقد رحلوا، كلهم رحلوا لكنهم سيعودون ذات يوم، حتماً سيعودون، فإصبري وصابري، فالأرض والنهر والذاكرة أمانة ووديعة عشاقها الحالمين.
لقد شطحتُ كثيراً، كان عليَّ أن لا أفقدَ توازني. هذا ما قاله حميد بعد أن أفاق من نومه. وقال أيضا: لقد أقسمتُ قبل يومين أن لا شأن لي وليالي الخمر إذا ما ترافقت وأوجاع الماضي، فالهمُّ والمدامُ لا يجتمعان. ثم عاد الى فراشه ثانية بعد أن شرب قدحا باردا من الماء، مقررا أن لا يذهب الى العمل الاّ بعد أن يستعيد كامل صحته وعافيته. وما ان حطَّ رأسه على الوسادة حتى غطَّ في نوم عميق. هل حلم حميد الخياط بأسراب من الطيور الملونة وهي تحوم فوق رأسه؟ ربما أو قُلْ هذا ما نتمناه له ففي ذلك فأل حسن.
(جزء مقتطع من رواية ستجد حتما طريقها للنشر وآمل أن تكون في وقت قريب).

أحدث المقالات

أحدث المقالات