19 ديسمبر، 2024 9:59 ص

قصيدتان في رثاء الحَيوان – 2/2

قصيدتان في رثاء الحَيوان – 2/2

نحن في زمن الرثاء، ومازال الدم مطلولا،،،وأمامي قصيدةُ رثاء تختلف عن سابقتها في الحلقة الأولى راثيا ومرثيا، فالراثي هو الشاعر أبو بكر الحسنُ بنُ علي بن أحمدَ بن بشّار بن زياد، المعروف بابنِ العلاّف الضريرِ النَّهرَواني، الشاعر المشهور، كان من الشعراء المُجيدين (1) والمرثي هو هرٌّ له! شاعرنا ذو منزلة مرموقة بين عِلية القوم، وكان ينادم الخليفة المعتضد بالله “وهو الأكول المقدم في الاكل في مجالس الؤساء والملوك” كما يؤكد ذلك ابن خلكان.
روى الخطيب البغدادي عن أبي بكرالعلاّف أنه كان ضمن ندمان المعتضد في سهرة، فانفض عن مجلس السمار، وعزّ عليه النوم فأرسل خادمه بورقة فيها بيت شعر من نظم المعتضد وقد أرُرتِج عليه تمامه (من الطويل):
ولما انتهينا للخيالِ الذي سَرى *** إذا الدارُ قَفْرٌ والمزارُ بعيدُ
مُؤمِلاً من أجازه بما يوافق المعنى بجائزة، فأُرتِجَ على الجماعة، وكلهم شاعر فاضل فابتدر ابن العلاف (من الطويل):
فقلتُ لعيني عاودي النومَ واهجعي *** لعل خيالا طارقاً سيعودُ
فاستحسنه المعتضدُ وأمر له بجائزة (2). سُقنا هذا للدلالة على شاعرية ابن العلاف وسرعة بديهته الشعرية.
وقبل أن أتوغل في القصيدة، كنت قد قرأت مقالة للناقد الراحل الأستاذ رجاء النقاش بعنوان:”شاعر يرثي قطة” وجاء في هذه المقالة ماهو غير منتَظَر من ناقد مرموق، حيث فيها أخطاء كبيرة سأتوقف عند أهمها تعميما للفائدة، بَدءً من العنوان الذي قد يحسه القاريء مجرد سهو ثم يتكرر عدة مرات حتى إذا بلغ مطلع القصيدة عدل عن “القطة” لتستحيل هراً، عندها يقول متخيرأ ب “أو” العاطفة والتي تفيد الإختيار كما هو آت: “أما قصيدة القطة أو الهر كما اختار الشاعر ابن العلاف أن يسميها. فهي قصيرة وطريفة حقا…”(3) سنرى أنها من المطلع وأول كلمة فيه “ياهر” الى المختتم تتكلم بصيغة المذكر المخاطب تصريحا وبصيغة الغائب تصريحا ولا توجد رائحة أنثى!
ولا أدري كيف تسمى قصيدة قوامها (65) خمسة وستون بيتا(4) قصيرة بدلا من أن تسمى مطولة؟!! سنتجاوز عن كونها ” طريفة حقا”. وننتقل الى قوله: ” يعيش (الشاعر ابن العلاف) في العصر العباسي، كان ضعيف البصر أو أعمى، توفي930م ولم أعثر على تاريخ ميلاده”. وحيث أن المقالة خالية من المصادر فقد جاء كلام الأستاذ الراحل مرسلا ولم يكلف نفسه عناء التثبت من المعلومات من مصادر وافية غطت ترجمة ابن العلاف، نذكر منها الحموي في معجم الشعراء، وابن خلكان في وفياته والخطيب البغدادي في تاريخ بغداده وابن العماد الحنبلي في شذراته وابن شاكر الكتبي في فوات وفياته والصفدي في الوافي في وفياته وابن الجوزي في منتظمه والزركلي في أعلامه…ولا أريد ان أستغرق أكثر دفعا للملل، فكلها تؤكد أنه توفي سنة ثلاثمائة وثماني عشرة وقيل تسعة عشرة وعمره مائة سنة فتكون سنة ميلاده 218 ه(832م).
وفي موضع آخر من مقالة الاستاذ الكبير النقاش يرجح فيها أنه صاحب موشحة “أيها الساقي أليك المشتكى” وهذا تخليط ما بعده تخليط فجميع المصادر المعتبرة تؤكد أن هذه الموشحة لابن زهر الإشبيلي الطبيب الذائع والشاعر المبدع نظمها حين كان في مجلس وطرِب في مجلس سقاته الغلمان المُرد وراقصاته الفتيات الجميلات ، وحيث كان الغزل بالغلمان شائعا عصرئذ فكتب ابن زهر رائعته متغزلا بأحدهم.(5) كما أن الموشحات الأندلسية ولدت في الأندلس أواخر القرن الرابع الهجري في الأندلس أي بعد نحو من ثمانية عقود على وفاة شاعرنا ابن العلاف. أما القول بأن الهرَّ كان ترميزا لابن المعتز (861م-909م،247ه-296ه)(6) كما زُعِم “القصيدة تتضمن نقدا وعتاباللخليفة ابنِ المعتز، فقد اندفع الى طلب الخلافة وهي في يد غيره، ونال الخلافة بما يُشبه الانقلاب العسكري …الخ”(7) فهو قول مردود تماما لسببين مهمين، أولهما تأريخي، حيث تفنده المصادر التأريخية فقد جاء رؤساء الأجناد بعبد الله ابن المعتز ونصبوه خليفة ليوم وليلة حيث استطاع أنصار المقتدر بالله أى يرجعوه الى الخلافة وسُلّم ابن المعتز الى المقتدر الذي قتله (8) حدث ذلك في سنة 296ه. والسبب الثاني تدحضه القصيدة نفسُها التي تمثل صورة صادقة للهر وسلوكه بما لا ينطبق مع واقعة مقتل ابن المعتز، كما أن لابن العلاف قصيدة أخرى في الهر(9)ما يثبت أن للهرّ منزلة كبيرة عند الشاعر، وسبب كل هذا التخليط هو أحتمال ضئيل أشار اليه الخطيب البغدادي وتناقله الأخرون من دون أن يرجحوا هذا الزعم بل كان التقليل ب “قد” مذكورا عند أغلب من ذكر الزعم.
وعودة الى قصيدة الشاعر ابن العلاف، فهي قصيدة في هِرِّهِ الذي يبدو أنه كان “عتويا” (10) بحق، طالما لوّع الجيران حين يسطو على أبراج الحمام فيفتك ما شاء له الفتك بفراخ الحمام، وكثر ذلك منه، حتى كمن له الجيران ذات مرة وأردَوْه ذبحاً ،ولما كان الهرُّ مؤنسا ورفيقا يبددُ على الشاعر خلوته وينقذ الدار من الجُرَد والأفاعي  واصبح فردا من العائلة بل بمنزلة الولد  وقد وصف الشاعر ابن العلاف على خصال الهر وصفاته باسهاب وانسيابية وبلغة سهلة ليس بها من معميات اللغة وشواردها ويُلاحظ أن العاطفة والألم  والحزن أفرغها الشاعر في الاستهلال  بالبيتين الأولين والباقي يذكر فيها فضائل الهرّ وسجاياه فلا يترك شاردة وواردة عن الهر إلا وأتى على ذكرها ثم ينتبه الى إسهابه فيذكر الألم وتتكرر هذه الحركات بما يشبه السمفونية الشعرية في القصيدة، التي جاءت على بحر المنسرح.
وبحر المنسرح من البحور السهله ولعل تسميته جاءت لسهولته (مُنسَرِحٌ فيه يُضرَب المَثُل= مستفعلن مفعولاتُ مُستعِلُ) استخدم في الشعر الجاهلي من قبل امريء القيس، وعنترة، وعمر بن كلثوم وزهير وطرفةوآخرين)، وهو يقترب من الرجز (مَطِّي الشعراء) فابن رشيق عن الجوهري يقول: فإن كل بيت مركب من مستفعلن فهو عنده من الرجز طال أو قصر وكل بيت مركب من فاعلن فهو من البسيط طال او قصر.(11) فهذا البحر من الناحية الصوتية خافت رتيب، لذاجاءت القصيدة منسابة كأن أبياتها انتظمت انتظامَ حبات المسبحة حجما وانسجاما .. ولهذا جاءت القصيدة أقلَّ عاطفة من قصيدة أبي الفرج ، كما أن الحزن والألم وحرارة الوصف عالية على بحر حار وهو الكامل، مع أن التراكيب البلاغية أغنى عند ابن الغلاّف بيناأن المفردات أثرى عند أبي الفرج ناهيك عن تتابع الصور الشعرية لدى الأخير، وهذه المقارنة لا تقلل من شأن قصيدة أبن العلاف فلنسمع (من المنسرح):
يا هرُّ فارقْتَنا ولم تعُدِ *** وكنتَ عندي بمنزل الولدِ
فكيف نَنْفكُّ عن هواك وقد *** كنت لنا عُدَّةَ العُـدَدِ
تطرد عنّا الاذى وتَحرسنا *** بالغيب من حَيَّةِ ومن جُرَدِ(12)
وتُخرِجُ الفأرَمن مَكامنها *** ما بينَ مفتوحها الى السُّدَدِ
يَلقاكَ في البيت منهمُ مددٌ *** وأنت تلقاهمُ بلا مدَدِ
لا ترهب الصيف عند هاجرَةٍ *** ولا تهابُ الشتاءَ في الجمَدِ
حتى اعتقدتَ الأذى لجيرتنا *** ولم تكن للأذى بمُعـتقِدِ
وحُمت حولَ الردى بظلمِهمُ *** ومن يحُمْ حول حوضه يرِدِ
الى أن يقول بلوعة بائنة حول الخوف عليه من الغدر به وهذا ما حصل:
وكان قلبي عليك مُرتعِداً *** وأنت تنسابُ غير مُرتَعِدِ
تدخل بُرج الحَمام متئداً *** وتبلَعُ الفرخَ غير مرَّئدِ
وتطرح الريش في الطريق لهم *** وتبلعُ اللحم بلعَ مُزدَرِدِ
كادوك دهراً فما وقعت وكم *** أفلتَّ من كيدهم ولم تَكِدِ
صادوك غيظاً عليك وانتَقموا *** منك وزادوا ومن يَصِدْ يُصّدِ
ويستمر بالتجنيس البلاغي الذي برع به أيما براعة وكذلك باسلوب رَدِ العَجْز على الصَّدْر كما هو في الأبيات الأربعة التالية وفي البيت الخامس فيصور تصويرا شعريا دقيقا حين خنُق الهرُّ- ذبح بعد الخنق- ونظرة التوسل في عينيه مسترحما قاتله القاسي، ثم وهو يجود بنفسه وهو المحب للحياة، إنها لميتةٌ فريدةٌ ثم يلي ذلك وصفٌ محايد، فقد جنى الهرُّ على نفسه نتيجة صنيع أعماله فلنستمع الى روعة الإداء الشعري:
فلم تزل للحَمام مُرتَصِداً *** حتى سُقيتَ الحِمام بالرصَدِ
لم يرحَموا صوتك الضعيف كما *** لم ترثِ منها لصوتِها الغَرِدِ
أذاقـك الموتَ ربُّـهُـنَّ كما *** أذقت أفراخه يـدا بِيَـدِ
كأنَّ حبلا حوى بجَوْدتِهِ *** جِيدك للخَنْقِ كان من مَسَدِ
كأن عيني تراك مُضطرباً *** فيه وفي فيكَ رغوةُ الزَّبَدِ
وقد طلبْتَ الخلاصَ منه فلم *** تَـٌقدِرْ على حيلةٍ ولم تَجِـدِ
فجدتَ بالنفسِ والبخيلُ بها *** أنت ومن لم يجد بها يجدِ
فما سمِعنا بمثل موتك إذْ(13) *** مُتَّ ولا مثل عيشك النكَدِ
ثم ينتقل الشاعر الى لوم الهرّ على دناءة نفسه وجشعه الذي أوقعه في شراك الهلاك، ويسخط على الطعام الذي يودي بصاحبه الى التهلكه وكأني بالهر يسمع ويفهم خطاب صاحبه حيا وميتا، ولكنك لا تُسمع الموتى..ويلاحظ على الشاعر حسن التخلص وحسن الختام كما في الأبيات المُتَخيَّرةِ …
يامن لذيذُ الفراخ أوقعَهُ *** ويحك هلاَّ قنعتَ بالغُدّدِ؟
أردتَ أنْ تأكلَ الفِراخَ ولا *** يأكلُكَ الدَّهرُ أكلَ مضطهَدِ
لا بارَكَ الله في الطعام إذا *** كان هلاك النفوس في المِعَدِ
كم دَخَلتْ لقمةٌ حشا شَرِهٍ *** فأَخرجت روحَهُ من الْجسدِ
قد كنت في نعمةٍ وفي دِعَةٍ *** من العزيز المهيمن الصمدِ
وكنتَ بددتَ شملَهم زمناٍ *** فاجتمعوا بعد ذلك البَـدَدِ
فلم يُبَّـقّوا لنا على سَبدٍ *** في جوف أبياتنا ولا لَبَدِ
وفتتوا الخبز في السِلال فكم*** تفتَتْ للعيال من كَبِدِ
ومزَّقوا من ثيابنا جُدُداً *** فكلَّنا في المصائب الجدد
من لم يمُتْ يومه يمت غده *** أو لا يمت في غدِ فبعدَ غدِ(14)
حاولنا ان نقتصرَ من هذه المطوَّلة ذاتِ الخمسةِ والستين بيتا زبدتها، فهي من عيون الشعر العربي ومادتها من نوادره…
الهوامش:
1- ابن خَلِّكان “وفات الأعيان”2/90 ت172 منشورات بيضون بيروت1998.
2- الخطيب البغدادي “تاريخ بغداد” 2/380 دار الفكر، ومكتبة الخانجي القاهرة، بدون تاريخ.
3- النقاش، رجاء “شاعر يرثي قطة” الأهرام 14/8/2005.
4- ابن خلكان/ مصدر سابق،2/91 .
5- القريشي، د. رضا محسن “الموشحات العراقية” ص44-45 دار الحرية بغداد 1981.
6- الحموي، ياقوت “معجم الأدباء” 4/1519-1526 تحقيق د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993.
7- النقاش، رجاء/ مصدر سابق.
8- الخطيب البغدادي/ مصدر سابق 2/380.
9- مطلعها (من السريع): ياهر بعتَ الحقَ بالباطلِ *** وصرت لا تُصغي الى عاذلِ
10- ابن منظور لسان العرب، أو المعجم الوسيط، جذر: عتا يعتو عتوا: أي تجبر، والعتوي أغلب الظن منسوب بالياء الى العتو، حين يعتو على فراخ الجيران.
11- راجع أي كتاب عروضي كميزان الذهب للأحمد الهاشمي أو فن التقطيع الشعري والقافية للدكتورصفاء خلوصي، وسلسلة المقالات الرصينة في العروض والقافية للأستاذ كريم مرزة الأسدي في عدة مواقع.
12- كناية عمّا جرد عنه الشعر أو الريش من الحيوان (راجع المعاجم).
13- ورد في الوفيات (إذا) وفات المحققين د. يوسف علي طوي، و د. مريم قاسم طويل، أن البيت يختل عروضياً، والصحيح هو كما ثبتُّه حيث يستقيم ليكون مطويَّ العَروض:
متفعلن/مَفعُلاتُ/ مستعِلن/ على التوالي: مخبونة/ مطوية/مطوية/. الوفيات 2/93 مصجر سابق.
ا14- البيت الأخير غير موجود في الوفيات حيث تخير الحموي ما شاء له أن يتخير من القصيدة (43) بيتا من اصل (65)بيتا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات