“الى ذلك الشاب الملتاع الذي طوّح الإرهابُ بحماره: لقد أبكيتَني وكنتُ أحسَبُني عصيَّ الدمع!”
طالما تتلاشى المشاهد الدموية وتـنصل صورُها لتتجدد بعد حين بمشاهدَ أخرى..وهكذا تستمر لعبة الدخان والدم من دون أن تتوقف، إلا ذلك المشهد الذي بقي ينبض في الوجدان والذاكرة معا: كان الشاب يبكي بحرقة، ويذرف دموعاً حرّى، تتخللها صرخاتٌ موجعة تنبعث من أعماق الجوارح، ويخطر على ذهن الرائي، أن يكون قد فقد عزيزاً أو مُعيلا…ويصدق النبأ حين يلوح في المشهد حمارٌ دامٍ فَتَك به الإرهاب وطوّح به جثةً هامدة، فقد فقَدَ الشابُ معيلَه!ِّ ولو قُدِّر لهذا الشاب أن يرثيَ حمارَه لبَزّ أبا النور السجستاني(1)، ذلك الشيخ النحيل الذي وقف على رسم حمارِه يذرف الدموع مدرارا وينقر الدف مُنشِدا(من الطويل):
عزيزٌ علينا أن يغيّـبَك القبرُ*** وليس لنا إلاّ البكاءُ أو الصبرُ
تموت وما كحّلّـتَ عينيكَ بالمنى***وما نلتَ حُبّاً من أتانٍ هي البدرُ
أقولُ وفي نفسي الكسيرةِ كربةٌ***”كذا فليجلِ الخَطبُ وليفدَحِ الأمرُ”(2)
ولو صحَّ أن تُفدى فديتُـك طائعاً***وقلت فداك المالُ والنِعمُ الحُمرُ(3)
لعب الحيوان دورا مهما في حياة العرب على مرّ العصور، ففي الصحراء يكون الحيوانُ سفينةً تارةً، وحارساً ، ووسيلة ركوب في السلم والحرب، وحامل أسفار وأنيسا بصوت فرح أو حزين ومصدر غذاء لذيذ، ومكمن جمال يضفي حسنا وحيوية في صحراء قاحلة تمتد على مرمى البصر تارات أُخَرَ، أياً كان هذا الحيوان ناقةً أو جواداً أو كلباً أو حماراً أو طائراً مغرداً أو ناعبا! فلا غرو ولا غرابة أن يحتل الحيوانُ مكانةً في حياة العرب، فكم من حرب نشبت بسبب الحيوان؟! ومن يتصفحْ أْشعارَ العرب وآدابهم بل قرآنهم الكريم، سيَجدْله مكانةً هامة في النصوص الشعرية والنثرية، فقد خصَّ الدَّميري الحَيَوانَ بكتاب شهير وقبله الجاحظ بكتاب أشهر يحمل أيضا اسم “الحَيَوان”. ولا أدلّ على ذلك من تلك الابيات النادرة للشريف أبي جعفر البياضي (4)، يُشير بها الى الرفق بالإبل عند السُّري، أسوق بعضا منها لروعتها وفَرادتِها (من الكامل):
رفقاً بهنَّ فما خُلِقنَ حَديدا***أوما تراها أعظُماً وَجُلُودا
يُفلينَ ناصيةَ الفلا بِمَناسِمٍ***وَسَمَ الوَجا بدمائهنَّ البيدا(5)
فكأنهنَّ نثرن دُرّاً بالخُطى***ونظمن مِنهُ بِسَيْرهنَّ عُقودا
***
أما القصيدة الأولى فهي في رثاء ديك والراثي هو علي بن الحسين بن محمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بنمروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، الذي طبقت شهرته الآفاق والمعروف بأبي الفرج الأصبهاني (284-356ه)، وتثبيت نسبه مقصود لدلالة مهمة تكشف عن شخصية هذا العلاّمة النسّابة “الأخباري الحُفَظَة الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراية، ولا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها وحسن استيعاب ما يتصدى لجمعه، وكان مع ذلك شاعرا مُجيدا”(6). وأبو الفرج الأصبهاني شخصية فريدة يكتنفها الكثير من المفارقات، فمسقط رأسه هو أصفهان ( نظرا لقرب الباء من الفاء يحدث الإقلاب فتسمى أيضا أصبهان) من بلاد فارس ولها انتسب في حين هو عربي الأرومة من بني أمية ينتهي نسبه الى مروان بن الحكم، وهو عالم بالعربية التي كتب بها روائعه، ولا يُعرَف عنه أنه كتب بالفارسية! ورغم أنه أموي المحتِد إلا أنه من المتشيعين وفقا للتنوخي، وهوظاهر التشيع كما أكد ذلك ابنُ شاكر الكتبي في عيون تواريخه، بينا وصفه ابن الجوزي الحنبلي المُتشدِّد في منتظمه: أنه كان متشيعاً ومثله لا يوثق بروايته! (7) وصفه ابن النديم في الفهرست: كان بحرا في نقل الآداب، “حدّث عنه الدارقطني، وإبراهيم بن أحمد الطبري، وأبو الفتح بن أبي الفوارس، وعلي بن أحمد بن داوود الرزّاز، وآخرون، كان بصيرا بالإنسان وأيام العرب، جيد الشعر”وعودة الى أبي علي التنوخي حيث يقول: “كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأخبار والاغاني والمسندات والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ اللغة والنحوَ والمغازي وله تصانيف عديدة”(8) أسوق هذا لأدلل على تطرف ابن الجوزي صاحب المنتظم، وتجنيه على الأصبهاني. ألف “الأغاني” (9)ولم يبلغ الثلاثين من عمره، فإذا ما بلغها وجاوزها بعام بادر الى إنجاز كتابه الخالد”مقاتل الطالبيين”(10) الذي جلب له وصمة التشيع!كان صديقا حميما للوزير المهلبي (291-352ه)، الذي وقف له مسنادا وكان له خير عون في أيامه الحالكة وما أكثر أيام الأصفهاني الحالكة! حتى إذا ما أزيح الوزير لوشاية واش أو حسد حاسد ليشغل الوزارة “اين البُريدي” انبرى له أبو الفرج هاجيا (من الخفيف):
يا سماءُ اطبقي(11) ويا أرض ميدي***قد تولَّى الوزارة ابنُ البريدي
جلَّ خطبٌ وحلَّ أمرٌ عُضالٌ***وبلاءٌ أشاب رأسَ الولــــــيدِ(12)
فُجِع أبو الفرج الأصفباني بعزيز، رثاه بأصدق العواطف، وأنبلها وبكاه بكاءً حقيقيا، حتى ليدهش القارىء لناحيتين هما المونولوج الداخلي حين يواسي نفسه، والوصف الدقيق للمرثي وهوديكه الذي حسبه فردا من العائلة، فلا يتركنّ شاردة وواردة من خصال الديك إلا وأتى عليها من عُرفه الى ألوان ريشه، الى خفقه لجناحه قبل الصياح الى فحولته وتسيده للدجاج، الى صفاء عينيه صفاءَ العقيق.. ومما يُدمي الشاعرَ المفجوعَ هو تذكره ديكه كلما صاح ديكٌ في بيت جارهما يدلُّ على رقي إنساني ورقةِ قلب مكلوم، فلنسمع (من الكامل):
خطبٌ طرقت به أمرّ طروقِ***فظُّ الحلول عليَّ غيرُ شفيقِ
فكأنما نُوَبَ الزمان محيطةٌ*** بي راصداتٌ لي بكل طريقِ
ذهبت بكل مصاحبٍ ومناسبٍ***وموافقِ ومرافقٍ وصديقِ
حتى بديكٍ كنت آلفُ قربَهُ***حسَنٌ إليَّ من الذيوك رشيقِ
القى عليَّ الدهرُ منه كلاكلاً***يفني الورى ويشتثكلَّ فريقِ
الى أن يقول في مطولته هذه:
لهفي عليك أبا النذير لو انه***دفع المنايا عنك لهف شفيقِ
وعلى شمائلكَ اللواتي ما سمت***حتى ذوت من بعد حسن سموقِ
وتكاملت جمل الجمال بأسرها***متلألئا ذا رونق وبريقِ
من حمرة في صفرة في خضرة***تخيلها يُغني عن التحقيقِ
عرضٌ يجل عن القياس وجوهرٌ*** لطفت معانيه عن التدقيقِ
وخطرت ملتحفا ببرد حبرت***منه بديع الوشي كف أنيق
كالجُلّنارة أو صفاء عقيقه***أو لمع نار أو وميض بروقِ
أو قهوة تختال في بلورة***بتألــق الترويــق والتصفيــقِ
وكأن سالفتيك تبر سائل***وعلى المفارق منك تاج عقيقِ(13)
وكأن مجرى الصوت منك إذا نبت***وجفت عن الاسماع بحّ حلوق
نايٌ دقيق ناعمٌقرنت به*** نغم مؤلفة من الموسيقي
يزقو ويصفق بالجناح كمنتشٍ***وصلت يداه النقر بالتصفيق(14)
ويميس ممتطياً لسبع دجائجٍ***مثل المهارى أحدقت بفنيق
فيميرنا منهن بَيْضاً دائماً***رزقا هنيئاً ليس بالمحووق
فبياضُها ورَقٌ وتِبرٌ مَحّها***في حقّ عاجٍ بُطنت بدبيقِ
يعدو علينا من طهاهُ بعجَةٍ***ويروح بالمشوي والمسلوقِ
أبكي إذا أبصرت رَبعَك موحِشاً***بِتَحنُنٍ وتأسفٍ وشهيقِ
ويزيدني جزعا لفقدك صادِحٌ****في منزل دانٍ إليَّ لصيقِ
قرع الفؤاد وقد زقا فكأنه***نادى ببين أو نعيّ شقيــق
فتأسفي أبدا عليك مواصل***بسواد ليل أو بياض شروق
وإذا أفاق ذوو المصائب سلوة***وتصيدوا أمسيت غيرمفيقِ
صبراً لفقدك لا قِلىً لك بل كما***صبر الأسيرُ لِشدةٍ ومضيقِ
لا تبعدنَّ وإن نأت بك نِيّةٌّ***في منزلٍ ناءِ المحلِ سحيقِ
لله درُّك أبا الفرج على هذه الخريدة التي تكفيك لوحدها أن تضعك بين الطبقة الأولى من فحول الشعر.
هوامش:
1- د. قميحة،جابر:رابطة أدباء الشام، مقالة مقتضبة عن رثاء الحيوان لا تخلو من أخطاء.
2- أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي:راجع ديوانه لعدة طبعات مختلفة، من مطلع قصيدة في رثاء الفتى العلوي محمد (من الطويل):
كذا فليجلِ الخَطبُ وليَفدَحِ الأمرُ***فليس لعين لم يفِضْ ماؤها عُذرُ
3- فاندي، سعيد سالم،رثاء الحيوان في الشعر العربي،103 دار صنين 1969،بيروت.
4- ابن حَجَّة الحموي، خزانة الأدب، تحقيق د. صلاح الدين الهواري1/22 المكتبة العصرية بيروت.
5- يفلين:يثلمن، المناسم: جمع المنسم وهو للإبل بمثابة القدم للإنسان، الوجا: وجِيَ البعير وجا: رق خفُّه من كثرة المشي، راجع:ابن منظور في لسان العرب، جروس برس/طرابلس لبنان، و المعجم الوسيط،، عن مجمع اللغة العربية، القاهرة ط3 لسنة 1985.
6- ياقوت الحموي، معجم الأدباء، تحقيق الدكتور إحسان عباس4/746 دار الغرب، بيروت.
7- الأمين،محسن، أعيان الشيعة8/198 من مقالة للأستاذ حسين مروة: ابو الفرج الأصفهاني، طبعة طهران.
8- الذهبي، سير أعلام النبلاء،10/451 تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط1 دار الكتب العلمية2004، بيروت.
9- أبو الفرج الاصبهاني، الأغاني، تحقيق لجنة من الادباء، دار الثقافة، بيروت.
10- أبو الفرج الاصبهاني، مقاتل الطالبيين، تحقيق أحمد صقر، دار المعرفة بيروت. وراجع ايضا تحقيق كاظم المظفر 1965.
11- ورد في معجم الأدباء(مصدر سابق) اسقطي، وصحيحها اطبقي، حيث يكون الإنسجام البلاغي القرآني أروع ، حيث تُطبق السماء على الأرض التي تميد..
12- ياقوت الحموي(مصدر سابق).
13- السالفتان: الزائدتان اللحميتان المتدليتان من أعلى الرأس على جانبيها (الرأس)، و تاج عقيق، هو تشبيه بلاغي للعرف.
14- زقا الطائرأو الديك زقواً أي صاح، المعجم الوسيط، ولسان العرب، مصدران سابقان.