رابسوديا في ليلة عاصفة
تي . أس . إليوت
ترجمة : محمد سهيل احمد
الساعة الثانية عشرة
على امتداد شارع العمائر البارزة
المحتشدة في تآلف جنوني
والهامسة بتعاويذ قمرية
تتذاوب أرضيات الذاكرة
بكل وشائجها النيرة
أقسامها وتحكيماتها
يخفق مصباح كل شارع أمرّ به
كما لو كان طبلا جبريا
وعبر اتساعات الظلام
يخضّ منتصف الليل الذاكرة
مثل معتوه يخضّ وردة جيرانيوم ميتة
الواحدة والنصف
شقشق مصباح الشارع
غمغم مصباح الشارع
قال مصباح الشارع :
“لاحظ تلك المرأة التي تتردد في ملاقاتك
عبر نور الباب المفتوح عليها مثل تكشيرة
لتبصر حاشية ثوبها
الممزقة والملطخة بالرمل
وتلمح زاوية عينها
وهي تطرف كدبوس عراهُ الالتواء
وعاليا تقذف الذاكرة
اشياء متيبسة
غصنا ملتويا على الشاطئ
ممضوغا بنعومة لأقصى درجات التشذيب
كما لو أن العالم قد تخلى عن
سجل أسراره
البيضاء والمتحجرة ،
نابض محطم في باحة معمل
صدأ اتخذ شكل القوة التي عافته
صلب أجعد ومهيأ للانفصام .
الثانية والنصف
قال مصباح الشارع :
” لاحظ القطة التي تتمطى في الميزاب
وهي تنسل خارج لسانه الممتد
ملتهمة قطعة من الزبدة المتعفنة
وهكذا فان يداً لطفل تنزلق
آليا وهي تسرق دمية تتشقلب
على امتداد رصيف الميناء .
وما استطعت مشاهدة شيء خلف عين الصبي
لقد أبصرت عيونا في الشارع
تختلس النظرعبر خلل مصاريع النوافذ المضاءة
وسرطانا ذات مساء في مسبح
سرطانا شائخا ذا كلابات على القفا
وهو ينهش عصا احملها به .
الثالثة والنصف
غمغم المصباح
همهم المصباح في الظلام :
شقشق المصباح :
“لاحظ ربة القمر
انها لا تتشبث بأيّما تذمرات
فهي تغمز بطرف واهن
وتبتسم بوجه الزوايا
ممسدة شعر العشب
لقد فقدت ربة القمر ذاكرتها
وتصدعت بقع جدري الماء على وجهها
عاقفة بيدها وردة من ورق
تفوح بعبق الغبار والكولونيا المعتقة .
وحيدة هي
بصحبة الروائح الليلية كلها
وهي تمرق عبر رأسها
وتجيء الذاكرة
متكدسة بورود الجيرانيوم الفاقدة للشموس
وأغبرة الشقوق
وروائح الكستناء في الغرف الموصدة
والسجائر في الأروقة
وشذا الكوكتيل في البارات ”
قال المصباح :
” إنها الرابعة
هو ذا الرقم على الباب
أيتها الذاكرة
المفتاح في حوزتك
والمصباح الصغير ينشر هالة على عتبة السلم
مفتوح هو السرير
متدلية على الجدار فرشاة الأسنان
ضع حذاءك عند الباب ، نمْ وتهيأ للحياة .
الالتواء الأخير للسكين .
—————————————————–
اشارات وقراءة نقدية
———————
قمت بترجمة القصيدة اوائل السبعينات وبعنوان ( هراء في ليلة عاصفة ) غير أنني لم انشرها لعدم توفر القدر الكافي من اضاءات النص ( المترجم )
توماس ستيرنز اليوت Thomas Stearns Eliot من مواليد 1888 ــ سانت ميزوري بالولايات المتحدة الاميركية . درس الفلسفة اضافة الى أربع لغات هي اللاتينية والإغريقية القديمة والألمانية والفرنسية وفيما بعد السنسكريتية . رحل الى باريس حيث درس الفلسفة ليتوجه الى اكسفورد ليفرّ من اجوائها الأكاديمية الى لندن ويتعرف على ازرا باوند الذي ترك اثرا بالغا في مسيرته الشعرية وعلى رموز ثقافية اخرى . نشر العديد من اشعاره بشكل كتيبات او في المجلات الادبية ، كبداية ثم انطلق بالنشر عام 1917 ( بروفروك وملاحظات اخرى ) كما نشر العديد من المجموعات الشعرية ، غير ان ابرز اعماله تمثل بقصيدته المطولة ( الأرض الخراب ) وقصائد اخرى مثل ( رحلة المجوسي ) و( نورتون المحترق ) وعدد من المسرحيات ورواية واحدة وكتبا ذات صلة بالفكر المسيحي الذي كان واحدا من مرجعياته الفكرية والشعرية . رحل في الرابع من كانون الثاني من عام 1965 .
قراءة نقدية : تتلخص ثيمة النص في مشهد لليلة عاصفة قمراء ، أما الوقت فمنتصف الليل . يبدو الشاعر كمن أصيب بدوار القمر خلال عودة متأخرة الى البيت تتشظى اثر ذلك ذاكرته لتماثل ذاكرة شبيهة بتلك التي يمتلكها شخص مختل العقل . فمن خلال التوغل في النص نكتشف ان ( الأنا ) في طيّات ذلك الرائي ، وهو يتوغل في ليل ذلك الشارع ، تتمثل في صراع عقلي بين وجهتي نظر متباينتين حول العالم أولاهما ناشطة ومرتكزة على راهن الأحداث ، والأخرى سلبية عابرة تعتمد على ماضي الدخيلة البشرية المنصرم . ويتضح ذلك الصراع من خلال صورتين مشهدييتين إحداهما مصباح الشارع والأخرى للذاكرة الإنسانية . كما ان النص ،وهو يرصد مشهدا لعاصفة ليلية يرتكز على ثيمة ذات جذور موسيقية ، فمن ناحية تذكرنا القصيدة برواية (بابو دي مونبارناس ) التي ألِفها شارل لويس فيليبي 1898 إذ اعتمد اليوت آليات الشعراء الرمزيين وفي طليعتهم الشاعر لافورج الذي ألِف كتابة صور ولوحات متشظيةٍ ترصد الروح البشرية المضطربة الرؤى في مدينة حديثة . كما ان النص يستلهم ايقاعاته من الموسيقى اذ من الواضح ان مصطلح رابسوديا عني به أصلا ذلك الجزء الملحمي من النص الشعري . ومعلوم ان الرابسوديا في عالم الموسيقى تتوخى التركيبة الارتجالية واللانظامية شكلا ومضمونا ، وهو ما يجسده عمل الموسيقار فرانتز ليست الشهير على البيانو والموسوم ( رابسوديات هنغارية Hungarian Rhapsodies ) .
ويلاحظ ان ( رابسوديا في ليلة عاصفة ) لا تمتلك شكلا منتظما عبر ستانزاتها الثمان حيث يتجسد النص عبر النظام الأستروفي ( The
strophes الذي عرفت به القصيدة الإغريقية القديمة والذي تؤديه المجموعة المنشدة وهي تتنقل من اليمين الى اليسار ومن اليسار الى اليمين من دون نسق منتظم .
لقد وصف ايغور سترافنسكي الشاعر اليوت بأنه : ” لم يكن ساحر كلمات عظيما sorcerer وحسب ، بل هو واحد من اكبر الحراس المؤتمنين على اللغة ” .