كتبت الشاعرة الروسية المعروفة آنّا أخماتوفا هذه القصيدة عام 1924 وكان عمرها آنذاك (35) سنة . عنوان القصيدة بالروسية ( مووزا), وهو اسم ربّة الالهام في الاساطير الاغريقية , وقد دخلت هذه الكلمة الى اللغة الروسية منذ زمن بعيد واصبحت مفهومة للقارئ الروسي بمعنى الالهام او آلهة الالهام , ونجد هذه الكلمة حتى في شعر بوشكين وبقية شعراء القرن التاسع عشر . يترجم د. جابر مؤلف القاموس الروسي – العربي المعاصر الكبير هذه الكلمة كما يأتي – الهة الشعر والغناء عند الاغريق / مصدر الهام , وهي ترجمة صحيحة طبعا , رغم ان مؤلف القاموس جعل هذه الكلمة مرتبطة بالشعر والغناء قبل كل شئ , بينما هي اوسع من ذلك.
السبب الذي دفعني لكتابة هذه المقالة هو انني وجدت في مجلة ( الاقلام ) العراقية ترجمة لهذه القصيدة بقلم الشاعر المصري محمد عفيفي مطر ( الاقلام / العدد 8 / سنة 1980) , والتي جاءت بعنوان – (ربّة الشعر ) , وهذا نصها –
كما أترقب مجيئها اذا جن الليل
تتنزل على شعاع, فان الحياة تبدو لي هكذا,
رخيصة هي الامجاد والشباب والحرية , حينما
تقترب الزائرة العذبة من سريري بارغولها
انظروا…ها هي تأتي وترفع الحجاب
تنظر اليّ بلطفها الآسر.
أقول لها – هل أمليت الجحيم
على دانتي؟عندئذ تجيب (نعم).
بعد القراءة , لم افهم بعض المقاطع , مثلا ( تتنزل على شعاع /// رخيصة هي الامجاد والشباب والحرية … ), وهكذا قررت العودة الى النص الروسي لقصيدة أخماتوفا , وبدأت اقارنه مع نص الترجمة , وفهمت عندها ان المترجم نفسه ربما لم يفهم تلك المقاطع كما جاءت عند أخماتوفا , او انه تصرّف كما أراد بغض النظر عن النص الاصلي . عندها بدأت أبحث عن ترجمة أخرى لهذه القصيدة , ووجدتها فعلا في موقع ( المسيرة) الالكتروني, وهي للمترجم د. ثائر زين الدين وبعنوان – ( ربّة الالهام ), وهذا نصها –
عندما أنتظر قدومها في الليل
تبدو الحياة معلّقة بشعرة.
ما الشرف, ما الشباب, ما الحرية؟
امام ضيفة غالية تحمل المزمار في يدها
ها هي ذي تدخل, تنظر اليّ باهتمام
وقد كشفت النقاب عن وجهها.
أقول لها- ألست أنت من أملى على دانتي
صفحات الجحيم؟ فتجيبني – (أنا).
كل مترجم طبعا يمتلك الحق بالاجتهاد , وبالتالي , يمكن ان يعبّر عن اجتهاده كما يرى ويرغب , شريطة عدم ارتكاب الاخطاء .
لنتأمل الترجمتين –
العنوان يختلف عندهما , الا انه دون اخطاء. ايهما الاكثر دقة ؟ الجواب – ربما ربّة الالهام , وليس ربّة الشعر , ايهما الاكثر جمالا ؟ الجواب – ربما ربّة الشعر ( التي أملت على دانتي صفحات الجحيم !) . // الجملة الاولى – (اترقب مجيئها اذا جنّ الليل) عند عفيفي مطر أجمل وأكثر شاعرية من
( انتظر قدومها في الليل ) عند ثائر زين الدين . // الجملة الثانية – ( تتنزل على شعاع …) عند عفيفي مرتبكة وغير مفهومة وتمثّل اجتهادا غير دقيق وغير صائب ولا يتجانس مع النص الاصلي , أما عند ثائر ( تبدو الحياة معلقة بشعرة) فهي أوضح , وتنطبق حرفيا مع النص الاصلي , اي انها ترجمة حرفية جميلة وصحيحة. // الجملة الثالثة – ( رخيصة هي الامجاد…. ) عند عفيفي , مقارنة مع – ( ما الشرف ….) عند زين الدين , تقتضي التوقف والتأمل . كلمة ( رخيصة) أضافها عفيفي من عنده , ولا توجد عند أخماتوفا , وقد أساءت الى النص , واختلف المترجمان في كلمتي- ( الامجاد) عند عفيفي و( الشرف) عند زين الدين , وهي عند أخماتوفا التشريف او مراسم الاحترام . وضع زين الدين علامة السؤال بعد ( ..ما الحرية ؟) وهي لا توجد عند أخماتوفا. واختلف المترجمان في – (الزائرة العذبة )عند عفيفي , و(ضيفة غالية) عند زين الدين , وهي ( ضيفة حبيبة او عزيزة) عند أخماتوفا , ويمكن ان تكون (غالية) طبعا, ولكن لا يمكن ان تكون ( عذبة !). وأضاف عفيفي من عنده – ( من سريري ) , وحوّل ( المزمار ) كما عند أخماتوفا وعند زين الدين ايضا الى ( ارغول ) وهي آلة موسيقية تشبه الناي عند المصريين القدماء و ليست معروفة تقريبا للقارئ العربي المعاصر, وأضاف من عنده ايضا – ( بلطفها الآسر ) , ولا ضرورة لكل ذلك بتاتا . نهاية القصيدة عند زين الدين أكثر دقة وأجمل من نهايتها عند عفيفي , الذي أضاف ايضا من عنده كلمة ( عندئذ ) , وهي لا تتناسق حتى مع النص العربي .
محمد عفيفي مطر – شاعر مصري معروف ( 1935 – 2010 ) وأصدر العديد من المجاميع الشعرية وساهم في حركة الترجمة ايضا , أما د. ثائر زين الدين فهو اسم مجهول بالنسبة ليّ , ولم يسبق ان قرأت له نتاجات ادبية او ترجمات ( ومن المحتمل جدا انني لم اتابع نشاطه الادبي ليس الا , ولهذا لا أعرف عنه أي شئ ) , ومع ذلك , فان ترجمته كانت بشكل عام أفضل من ترجمة شاعر له مكانته المتميزة في تاريخ الشعر العربي الحديث , وهذه المقارنة السريعة بين ترجمتيهما تبين بلا شك , ان ترجمة الشعر
تعتمد على موهبة الشخص الذي يقوم بالترجمة وامانته العلمية ودقّته , وليس على كونه مشهورا او شاعرا معروفا ليس الا , وان هذه الشهرة لا تسمح له ان يتصرف كما يشاء في الترجمة .