23 ديسمبر، 2024 4:41 ص

أقرأ في أنتولوجيا القصص القصيرة، التي تضم قصصاً لكتاب عرب من مختلف ديار العرب، ووجدتني مندفعا لقراءة قصص الكاتب العراقي حسب الله يحيى، وشرعت في القصة الأولى الموسومة ” أصابعي .. في سور نينوى”، وقد شدتني القصة لفرادة موضوعها وتماسك حبكتها الفنية وحسن الانتقال والتدرج حتى بلوغ الذروة أو ما يعرف العقدة الكبرى، وقد حافظ الكاتب على سمت عال من اسلوبها الفني الراقي تشفع له لغة سلسة متماسكة وقدرة على سبر مشاعر النفس الإنسانية وفق أحداث القصة..وبذلك يستطيع الكاتب شد القارىء من مستهلها حتى خاتمتها…
وأحسب أن الأستاذ حسب الله عرفته منذ بدأت أطالع الصحف عام 63 -وأنا دون سن الحلم – حيث يتردد اسمه في الصحف اليومية محرراً حتى أصبح من أعمدة الأسبوعية “ألف باء” وكان ينشر قصصا قصيرة أيضا، وقد اشتغل في الإذاعة معدّا لبرامج أو محرراً لمجلتها.
وهكذا انتقلت الى القصص الأربع الأخرى، التي تتسم بما وصفت مع الأولى، ودونكم عنواناتها كما وردت في الأنتولوجيا لا كما ينبعي أن تكون بين قوسين!
“أصابعي الخشنة”
“أصابع خوبي الستة (الست)”
“أصابع اللذة”
“أصابع الست (المعلمة) باسمة”
إضافة الى قصتين ليست لهما علاقة بالأصابع هما:
“براءة دمي”
“رقة العيون الوحشية”
***
أرى أن القصة الأولى” أصابعي .. في سور نينوى”، من أكثر القصص درامية، ووضوحاً في رسالتها ومغزاها، ومؤطرة في مكان من الموصل وبالتحديد سورها وتتزامن مع سقوط الموصل بيد الدواعش..بطلها آثاري ينقب قرب سور الموصل ويحفر بحماس حتى تسقط على يده اليمنى صخرة حادة بترت ثلاثاً من أصابعه وهي الإبهام أهم إصبَع لأنه يقابل الأصابع الأربع الباقية، والسبابة والوسطى..حيث سال الدم مدراراً وانتابت صاحبها حالة من الهلع ونزف شديد…وهو في هذه الحالة التي توجب نقله الى المستشفى أوصى أن تدفن أصابعه في سور المدينة التاريخي، الذي بُترت أصابعه بالقرب منه ..ونُفّذت الوصية. وتراه يرثي أصابعه الشهيدة كما لوكان يرثي نفسه،لأنها ” لم تلمس حراماً ولم تحتضن فساداً ولم تؤذ مخلوقاً.. تعرقت واخشوشنت، ولم تتوسل أحداً ولم تتعامل بكبرياء مع أحد”.. ستتكر هذه الإيماءات الهادفة التي تحمل إدانة لأمراض العصر إبان الاحتلال؛ بمقدار ما تحمل من مفارقة بأن الفاسدين في حصن حصين وإن الشرفاء هم الذين يدفعون ثمن الشرف والنزاهة والإخلاص لا من عرقهم وحسب بل من دمائهم وأرواحهم! وكأن المؤمن بالقيم والمبادىء مبتلى!! ولأن بينه وبين أصابعه وحدة الروح والجسد، وما أجمل المقابلة حين يقول في ذاته ” كنت أحس بأنني وأصابعي لا نتجزأ .. ومن هنا لا يتجزأ السور عن ألق الحاضر والمستقبل”.
وفي الجزء الثاني من القصة ينقلنا القاص الأستاذ حسب الله يحيى الى ما أخبرت به زُمَر الطير التي فرّت من أقفاصها وكأن يداً خفية فتحت لها بويبات الأقفاص لتفرّ مذعورة على اختلاف ألوانها، فهي طيور الحب والسلام ملأت السماء في أصواتها العالية وهي تدور لا تلوي على شيء، وكان الناس يتركون منازلهم على عجل يحملون ما يستطيعون حمله هم وأزواجهم وأطفالهم.. وظل البطل يفكر بتردد هل يفر أم يمكث، وقرر أن ينضوي الى جماهير الحشود المغادرة التي تتحاشى اجتياح أصحاب اللحى النتنة والوجوه الكالحة وهم يرفعون رايات سود خطوا عليها بحروف بدائية عبارات دينية… وحيث يصف نفسه في حالة من الحيرة والإنهاك الجسمي والنفسي ” كنت أحمل طفلاً وخبزاً وقنينة ماء وأمسك بأم عجوز وزوجة شاخت فجأة فلم يعد لبصيرتها بصر.. كانت في حال ذهول، فيما أم تئن وتثرثر وتدعو ..
ما كنت أملك القدرة على التفكير، ولا القدرة على التحكم ل (في)قدمي ولا تحريك ما تبقى من أصابعي.. شاغلي هو المجهول، وحذري لم تعد له سلطة أن يحذر وينبه ويوجه.
كلّت قدماي.. وكنت وسواي قد وصلنا سور نينوى..
سألت عن السور، قلت: سور نينوى هنا، هل صار له جناحان وانطلق محلقاً في السماء.. كما الطيور الشاردة والتائهة ..؟
– فجَّروه.. فجروه.. المدينة مستباحة، لم يعد لها سور .
تلفت بحثاً عن المتحدث.. أضاف :
– لم تعد هناك نينوى.. ولم يعد هناك سور .
وانصرفت كل خلايا جسدي تسألني :
– ماذا حل بأصابعك بعد تفجير السور ؟
تنبهت الى أن الاصابع التي أحملها أخذت تنبض وتتحرك، وأن جسدي بكامله يرتعش”
الى أن يقول: آلمني أن أترك اصابعي الثلاثة (الثلاث) تتفجر وحيدة عند أسوار نينوى، وانه لا قدرة لي على تقديم العون لها، والبحث عن وجودها، واعادة دفنها.. إنتابني احساس عميق بأنني أتلاشى شيئاً فشيئاً.. وأنه ما كان من أمر أصابعي هناك قد أصبح مجهولاً.. صرت كلي مجهولاً، مثل شجرة اقتلعت من جذورها والقيت على قارعة الطريق” …
ومن السهولة أن يلمس القارىء بمكان أن القاص في كل قصصه قد انتهج نهجا إبداعيا في واقعيته النقدية بعيداً عن الواقعية الجدانوفية التي شاعت في المرحلة الستالينية وتحميل البطل الإيجابي الخوارق والمنحى الدعائي باسم الطبقة العاملة، والتي استلمها كثير من الكتّاب العرب الذين ساهموا في تحنيط روح الإبداع وإفقار عنصر الخيال وكل الأساليب الفنية التي تتساوق ووتفاعل مع مساق الأحداث وموحياتها الثرّة.
لقد عمل الأستاذ على جعل الأصابع معادلاً موضوعياً لصاحبها فهي تنبض بالحياة والروح والحركة.. ويتضح ذلك وينجلي في كل القصص التي تحمل في عناوينها الأصابع..

الأصابع الخشنة
هي ثانية القصص، شخصيتها الرئيسة عامل اندفع للعمل منذ نعومة أظفاره ليعيل عائلته المعدمة، حيث تحمل مسؤلية العمل ماحرمه من لعب الطفولة، وانصرف لأعمال مجهدة من بناء وصبغ الأبنية ما جعله خشن الأصابع، يلبس بدلة العمل التي لوثتها الأصباغ واتسخت بمواد البناء، كان مولعا بقراءة كل ما يقع عليه نظره من كتب وجرائد ويواصل دراسته المسائية في الثانوية، ويذهب الى المكتبة العامة مكباً على الكتب خفيفها وثقيلها يشعر بحرج بين مرتادي المكتبة من طلبة وأساتذة حتى استدعاه مدير المكتبة مثمنا إياه على اجتهاده وعلى اختياراته للكتب التي تنم عن ثقافة عالية وذوق رفيع وصافحه أمين المكتبة داعيا إياه الى امتياز بالسماح له باستعارة خمسة كتب في كل مرة وزاده بأن أودعه مبلغاً ليختار بنفسه كتباً للمكتبه..
ومرة جاءه أستاذ جامعي مصافحاً إياه معبراً عن إعجابه به وإعجاب الطلبة من الجنسين، وعرض عليه أن يساعد الطلبة في اختيار مصادرهم التي يعتمدونها في رسائلهم الجامعية..الخ، ما جعل الطالب ذا الأصابع الخشنة يتجرأ ويستلم أيدي الآخرين بعيداً عن عقدة الأصابع الخشنة…
أحسب أن هذه القصة رغم جمال الحبكة الفنية لكنها غير واقعية وبها ملامح لتكلف الحدث الميلودرامي وتصعيده لينتهي بخاتمة سعيدة!

أصابع خوبي الستة (الست)
معلم من الجنوب يُعيَّن في إحدى القرى الكردية، يقطع الطريق الى المدرسة على ظهر دابة اعتادت أن تتوقف لترتاح وتستظل في أطلال قرية محروقة غدت خاوية على عروشها إلا من سيدة اسمها “خوبي” لا تعرف العربية، لكنها ترتاح لمشهد الدابة وصاحبها حتى صار بين الثلاثة أُلفة رغم تفاوت الكائنات واختلاف الألسن، وخوبي هي الكائن البشري الوحيد الذي يسكن بين هذه الأطلال ويجد فيها مأوى!
ورغم أن خوبي لاتكاد تتجاوز الأربعين فإنها امرأة قد أهملت نفسها فلم تُسرِّح شعرها ولم تتجمل قط..”فهي امرأة فاقدة الأنوثة”!
تقتات على الأعشاب وتشرب من عين أُغلقت فوهتها عمداً بالأسمنت من قبل المسلحين ولكن لا تعدم الماء الذي غدا يتدفق من جوانبها! وحين أرادوا تهجيرها رفضت وأصرّت على البقاء وفوجئوا بأن لقدميها ست أصابع، فداسوا بأحذيتهم الثقيلة على إحدى قدميها فانقطعت بعض أصابعها وظلت تنزف بينما نجت قدمها الثانية.. وقتلوا زوجها أمامها بكل وحشية، وأحرقوا البيوت مما جعلها في حزن وعزلة ووجوم..فهي لاتكلم أحداً ولا يتكلم معها أحد..
استطاع معلم القرية أى يوطد علاقته معها وأن يجلب لها بعض الطعام كلما مرّ عليها! وأصبحا صديقين..بل يسعى اليها أحياناً مشياً ليتفقدها فتفرح وترحب به، ويجلسان متقابلين وتحاول التواصل من جانبها وتفهمه أكثر مما يفهمها، مرة أحرجته حينما طلبت أن ينزع خاتم زواجه ليضعه في إصبَعها الممدودة نحوه..لقد أُحرج ووافق، فلبسته في خنصرها اليسرى، وهي في غاية الفرح، ولم تكن تطمع به كخاتم ذهبي أنما لتتذكر خاتم زواجها الذي نزعوه من إصبعه، وظلت تنظر الى قبر زوجها تسترجع ذكريات حميمة..ثم تلتفت الى المعلم مبتسمة تكاد تعانقه وتلثمه..
وفي مرة وقفت دابة المعلم كعادتها تحت ظل الشجرة لكنها توجهت نحو شجرة غضة تهم أن تأكلها فقفزت خوبي مسرعة وأزاحت الدابة وربطتها بالشجرة الكبيرة الظليلة، وفهم المعلم أن الشجرة الغضة هي مكان قبر زوجها..ابتسمت خوبي للمعلم ونزعت الخاتم الذهبي ووضعته في إصبعه حيث كان وهي مبتهجة..همّ بتقبيلها فمنحته انحناءة من رأسها ليقبله!
هذه القصة هي أطول القصص رغم الأسلوب المكثف وجمال السرد وسبر غور النوازع النفسية وتحويل الحزن الى فرح وتفاهم بما يسمى لغة الجسد حين تعجز الألسن عن شد العواطف بين الناس! وهي الأخرى فيها إدانة ضمنية للحرب والعنف الذي يدفع ثمنه الناس المسحوقون الأبرياء!

أصابع اللذة
أحسب هذه القصة تختلف كليا عن بقية قصص الأستاذ حسب الله يحيى، فهي ذات ملامح رومانسية أوكلت للأصابع، وأن تنهض بمهمة إيروتيكية أو تقترب منها كثيراً..فتؤدي المهمة كأحسن ما تكون التأدية! لكنها لاتعدم أيضا إدانة للحروب!
أستاذ مسرح عراقي يلقي محاضرة في ندوة في قرطاجة.. ثم تسأله أحدى الحاضرات سؤالا هاما فيجيد الإجابة رغم أنه لم يكن متهيئاً، ثم تتقدم اليه عند انتهاء الندوة لتدعوه الى مكان هو مسرحية في مسرح روماني مفتوح، فيلتصقان على أحدى الصخور المدرج ويجلسان حيث تتشابك الأيدي وتتحرك الغرائز في الظلمة التي تلف مدرج النظارة .. وتتعمق وتلتهب النيران في الأحشاء، ولم يفقها من المسرحية شيئا، ثم تنتبه الشابه لتسأله: أين خنصرك؟ ليجيبها: ألم أقل لك أني عراقي؟! وما من عراقي لم تأكل الحروب منه شيئا! فتتجمد الشابة في مكانها ليكتشف أن دموعها تنهمر مدرارا!

أصابع الست (المعلمة) باسمة
ويأتي القص على لسان معين المدرسة الذي يتمنى لو أن أصابع المعلمة الأنيقة باسمة هي أصابعه، اعتادت أن تتولى يوم الخميس رفع العلم وإنشاد الأناشيد الوطنية من قبل التلاميذ..وذات خميس وإذ هم منشغلون في مراسيم رفع العلم، وإذا ثلاثة مسلحين ملتحين يقتحمون المدرسة ليقوموا عنوة بإنزال العلم ويرموه على الأرض ثم يرفعوا علما أسود عليه عبارات دينية؛ ويهددون أي أحد ينزله، وبقي الحارسل واجماً لم يفعل شيئا، بينما تولت المعلمة باسمة بشجاعة إنزاله ورفع العلم العراقي وراح العلم يرفرف من جديد! والجميع يصفق بحماس من المديرة والمعلمات الى أصغر تلميذة..
فجأة يرجع المسلحون الثلاثة ليجروا المعلمة باسمة ويضعوا يدها على صخرة لينزل على رسغها السيف ويبتر كفها! أمام صراخ وبكاء واحتجاج الجميع!
وهذه القصة فيها كثير من المط والحشو وأجد إن الاختصار في القصة يجعلها أكثر فاعلية وأرسخ في ذاكرة المتلقي.. رغم جمال اللغة وحسن التوصيف.. وفاعلية الحوارات..
ما يلفت النظر أن القاص لم يفطن أن الأصبع مؤنث فلا بد من مراعاة ذلك في التمييز، فالقول الصحيح هو ثلاث أصابع، أو الأصابع الست، ناهيك عن هفوات أخرى وخاصة في الهمزة.. والأخطاء في القصص والروايات بدت شائعة، وأحسبها كدمامل في وجه حسناء فهي تشّوه النص وتشيع الأخطاء وتُذهب بشيء من جمال النص..
قصص الأستاذ حسب الله مدروسة بعناية تأخذ بيد المتلقي من أول كلمة حتى آخر كلمة، والأسلوب يتسم بالشد المحكم الخالي من الفجوات والترهل، فالجملة لديه منتجة ومكتنزة والمواضيع تحمل رسالة إدانة العنف والحروب، وأبطاله دائما من ضحايا الحرب مع تنوع في منحدراتهم وأصولهم وثقافاتهم..وهذا أمر جدُّ ضرور في واقع لايني يسوء بسبب الطائفية والعنصرية وفساد المتسلطين..