والتفاوت يمكن هو الآخر أن يفسر بأحد تفسيرين:
1. إذا كانت هذه الكتب والدعوات إلهية المصدر، ولكن يكون قد طرأ على السابق تغيير بشري من بعد النبي المعني، فيأتي الدين اللاحق بتصحيح ما طرأ على السابق، وهنا قد يُشكَل على أنه كيف يسمح الله سبحانه بتحريف وحيه، وهو القادر على حفظه وتوفير أسباب ذلك الحفظ، هذا من حيث القدرة الإلهية الواجبة عقلا، أما من حيث الحكمة الواجبة عليه سبحانه أيضا، فمن الحكمة ألا يترك كتابه ووحيه ورسالته عرضة للتحريف. وهنا يُجاب على تبرير أن الله لم يتكفل بحفظ ما كان مقررا مسبقا منه تعالى نسخه بوحي لاحق، والتبرير لا يخلو من ضعف، فلعله يكون الأقرب إلى الحكمة وإقامة الدليل على صدق الوحي، هو حفظ السابق غير محرف، واعتراف اللاحق به، مع الإتيان بجديد يكمله، أو ناسخ ينسخ المراد نسخه منه، مع بيان أسباب النسخ والتعديل والإضافة والحذف، دون أن يتناقض معه أو مع بعض ما يطرحه. وهذا كله يحتاج إلى تأمل في الأدلة والأدلة المضادة، حيث يتنافى مع الحكمة الإلهية واللطف الإلهي أن يترك رسالاته السابقة عرضة للتحريف والضياع، ثم يأتي برسالة ناسخة لتلك الرسالات، أو مكملة لها، أو مُنْهِية لسريان مفعولها، فيُقال أن الحكمة واللطف الإلهيين يستوجبان حفظ الناسخ دون المنسوخ، ومع هذا يقال أن السابق المنسوخ الذي ضاع ولم يحفظ من الله هو دليل صدق اللاحق الناسخ، لإنبائه به، وهو إنباء يقول به الناسخ وينفيه أتباع المنسوخ. بهذا كله كأنما يحدثنا عن إله مُضلِّل ومُضبِّب ومُشوِّش للإنسان، الذي لا حول له عندما يقع ضحية التضليل والتضبيب والتشويش الإلهي، ثم يعاقبه ربه على ذلك، تنزه الله عن كل هذا الذي ينسب إليه، وتسامى فوق كل التقولات عليه، تألقت آيات جماله.
2. إذا كانت هذه الكتب والدعوات بشرية المصدر، وهي نتاج محض اجتهاد بشري ليس إلا، فمن الطبيعي أن اجتهاد المجتهدين وخيال المتخيلين من البشر متفاوت فيما بين بعضهم البعض، كما تتفاوت المصالح والتحديات. فإننا نكاد نجد أكثر ما ذكر في القرآن مذكورا في العهد القديم والعهد الجديد، مع إضفاء تنقيح، إضافة، أو حذفا، أو تحويرا، أو تصحيحا، بحسب رؤية المؤلف اللاحق، فيما لم ينسجم معه مما طرحه المؤلف السابق، فبرر ذلك كما يبدو، بدعوى أن الناس أحدثوا على ذلك الكتاب المقدس السابق، ما لم يكن منه، فضيعوا منه أشياءً، واستحدثوا أخرى، وحرفوا غيرها. كما إن في القرآن الكثير من أقوال كهنة، أو متنسكين، أو حنفاء، أو شعراء، قبل الإسلام، علاوة على أن معظم قصص الكتب (المقدسة) له مثيله في الأساطير السابقة لها.
وأخيرا لا بد من الإشارة هنا، إننا إذا بحثنا في الأنبياء في العهد القديم، وجدنا أن منهم مَن هُم مجرمو حرب، ومرتكبو جرائم إبادة جماعية، ومنهم من يعيش هوس الجنس، ومنهم المصابون بالهلوسة، ومنهم الدجالون، والمتآمرون على بعضهم البعض، مع إن ليس كل من يطرحهم القرآن كأنبياء هم أنبياء في العهد القديم، بل كثير منهم ملوك أو قضاة، ولكنهم يُطرحون أيضا بدور إلهي، وهم ذوو تواصل مع الله، مما يعني أنهم ليسوا بعيدين عن مفهوم النبوة، لا أقل بالمفهوم الإسلامي لها، فيما يتعلق بمخاطبة الله لهم وتكليفهم بتكاليف.