23 ديسمبر، 2024 2:42 م

” قصر الأحلام” بين قراءتين

” قصر الأحلام” بين قراءتين

تبدو مهيمنات القراءة في كثير من الأحيان أهم من القراءة بحد ذاتها. يمكن أن تقرأ نص “رواية, قصة, قصيدة, خطاب” فلا يعلق منه ما يثير الإنتباه فضلأ عن الإهتمام. ربما ننفر منه فلانكمله, وقد نضطر مجبرين لاسباب شتى لإكماله. لكن بالمقابل قد نقرأ نصأ فتهيمن علينا أجواء ما قبل النص وما بعده, قبل المتن السردي للنص. تكون قراءتنا له هنا إسيرة رؤية تبقى متوترة أوربما ناقصة تحتاج الى ما يكملها .. زمن آخر قد يكون فات ولن يكون بوسعنا إعادته حتى على سبيل الإسترجاع, أو زمن لم يحن بعد. في الشعر كما في الرواية تجد نفسك أسير النص مرة أو يجد النص نفسه أسيرأ لديك مرة أخرى. إما تبحث أنت عن وسيلة للهرب منه, أو قد يبحث هو عن وسيلة للخلاص منك.

لكن الفارق بين الرواية والقصيدة, أن القصيدة تكون في الغالب عصية على الزمان بينما الرواية تكون عصية على المكان. القصيدة بنت اللحظة الفارقة التي قد تبقى تدور مع الزمن الآف السنين. في كثير من الأحايين لاتمل من تكرار بيت امرئ القيس “وقد اغتدي والطير في وكناتها .. بمنجرد قيد الأوابد هيكل”. أوبيت لبيد بن ربيعة “وجلا السيول عن الطلول كإنها .. زبر تجد متونها أقلامها”. الرواية بنت الواقع حيث المكان والتاريخ والجغرافية والعادات والتقاليد. لست بصدد المقارنة بين الرواية والقصيدة ولا أقول الشعر لاسباب تحتاج الى فضاء سردي آخر, لكن ما قادني الى ذلك نص روائي عاش معي سنين طويلة نافت على الثلاثين عاما منذ قراءتي الاولى له. هذا النص هو رواية “قصر الأحلام” للروائي الألباني إسماعيل كادريه. قد أكون ورطت نفسي على صعيد كيفية ربط الصلة فيما سوف أنتهي اليه بين الشعر والرواية لكني سأترك للقارئ فرصة البحث عن ربط بين نص ربما يكون شعري أو روائي عاش معه سنوات طويلة لم يكتمل الإ بين قراءتين.
هذا ما حصل لي مع “قصر الأحلام” التي كنت قرأتها منتصف الثمانينات من القرن الماضي. أتذكر إنني إستعرتها من صديقي الشاعر جواد الحطاب بنصيحة منه في وقتها حيث كنت في منزله حين رايتها على أحد رفوف مكتبته. لم أعد الرواية لصاحبها حتى الآن, لكن ليس طبقأ للقاعدة المشهورة عن “الغبي والأغبى” في من يعير أو يستعير كتابأ, لكنها ضاعت مني من بين ما ضاع من كتب في حكاية لالزوم لأحد الإطلاع عليها . خضعت قراءتي الأولى لقصر الأحلام ما يمكن تسميته بمهيمنات القراءة من حيث الزمن وما يرتبط به من رؤى سياسية قد تنتج عنها أحكام مسبقة. لكن عند قراءتي الثانية لها بعد أكثر من ثلاثين عامأ تحررت من مهيمنات القراءة في نسختها الأولى. أزعم أن قراءتي الأولى لها كانت خارج سياق متنها النصي , وفي المرة الثانية وبعد كل هذا الزمن الذي شهد, فضلأ عن تراكم الخبرات في ميدان القراءة, تحولات سياسية جذرية حددت شكل علاقتي بها الآن في سياق آخر لكن بسردية واحدة قوامها نص واحد وبطل واحد لكن بزمنين مختلفين. فالبطل “مارك عليم” هو نفسه لم يتغير, والمكان الذي تتحرك فيه الأحداث “سرايا طابير” وهو إستعارة رمزية لمبنى المخابرات أو الإستخبارات في البانيا على عهد أنور خوجة في الحقبة الشيوعية حيث كان هذا البلد مغلقأ تمامأ هو نفسه أيضأ, برغم أن أحداث الرواية مثلما يفترضها المؤلف تدور خلال الحقبة العثمانية. لكن المفارقة الصارخة التي شكلت الجزء الأكبر من فضاء تعاملي معها كنص تسلل الينا سرأ بعيدأ عن قوائم الممنوعات التي لاحصر لها في ذلك الوقت بدت الرواية من حيث الدلالات الرمزية والسياسية لها كإن أحداثها ووقائعها في العراق لا في البانيا آنذاك. كان كل شي يكاد يكون واحدأ بين بلدين ونظامين متشابهين وانماط من العلاقات والرقابة والمتابعة والفحص والتدقيق والسرية المطلقة. كان المختلف الوحيد أو لأسميه الناقص الوحيد هو الروائي إسماعيل كدريه.
في القراءة الأولى بدا لي كدريه كاتب متمرد وقد نجح في التقاط هذه الزاوية المرعبة, “قسم خاص في جهاز الأمن معني بجمع وتفسير أحلام الناس ومحاسبتهم على تلك الأحلام”. كان همي آنذاك ليس الحدث وطرافته بل وغرابته بقدر ماهو الروائي نفسه الذي بدا لي هو بطل الرواية بينما بدا البطل المتخيل “مارك عليم” هو المؤلف المجهول. كانت الجرأة في تناول جزئية من هذا النوع في ظل نظام شمولي هي الفكرة لا السرد الناتج عنها. بدت الثيمة الأساسية للرواية برغم كل ما نتج عنها من سرد بتفاصيل وتقنيات فنية وبنائية مختلفة لرواية من “314 صفحة من القطع المتوسط” هي المهمة بل الأهم وكل ماعداها هو مجرد شرح لها وأحيانا تفصيل زائد يقع في سياق التشويق فقط.

عند القراءة الثانية حيث رغبت بإستعادة أجواء الفرادة تلك وجدت نفسي حيال مفارقة لافتة. لا أستطيع القول أنني أصبت بخيبة أمل بمعنى ندمي على ماكنت أحمله من أفكار وتصورات كنت مازلت مأخوذأ بها, فـ “قصر الأحلام” تبقى بالفعل واحدة من أجمل الروايات لكن بدت المشكلة عندي لا عند المؤلف كدريه أو البطل عليم. بدوت أنا مؤلفا محايثأ لهما هيمنت داخل ذهني فكرة أخرى لا تلك التي أراد كدريه إيصالها الى القارئ ولا الطريقة التي سرد فيها عليم تلك الفكرة على شكل حكاية أو حتى حدوتة. بدوت أنا مؤلفأ مجهولأ لديه إشكالية زمان ومكان ظلا يتصارعان بداخله على مدى ثلاثة عقود. في القراءة الأولى كان المكان هو الأصل, أما في القراءة الثانية إختفى المكان. أما السبب فيكمن في إنهيار الفكرة المسبقة التي كنت تعاملت مع الرواية بموجبها فأخضعتها قسرأ لمهيمنات قراءة خاصة بي لا علاقة لها هي بها. كانت تلك الفكرة مصممة لتكون جزء من سياق زمني آخر لم يعد قائمأ, لا في الواقع ولا في المخيلة.