عد يوم من اندلاع الحرب العراقية الايرانية ، في الثالث والعشرين من ايلول عام 1980 ،كنت وقتذاك مديرا لشعبة التوزيع في المنشأة العامة لتجارة المواد الغذائية ، وكانت هذه الشعبة تقوم بايصال قطوعات الوكلاء من المواد الأساسية التي تتعامل بها الشركة ، وفي لحظة وجدت أن المواد الأساسية كالسكر والشاي والرز وبعض الزيوت النباتية مفقودة عند الوكلاء المعتمدين لدى الشركة وتم الاستفسار منهم عن اسباب فراغ محلاتهم من تلك المواد ، فكان الجواب أن المواطنين تقاطروا على محلاتهم وسحبوا الخزين بسرعة شديدة ، وقد دق لدي ناقوس الخطر ، ذهبت إلى السوق المركزي في المنصور ووجدت رفوف المواد الأساسية تعاني من كثرة الشراء من لدن المواطن العادي ، خوفا من شحة هذه المواد بسبب الحرب ، وهو أمر معروف لدى كل العاملين في القطاع التجاري الحكومي ، فلدينا تجربة سابقة (ولو باقل حدة في حرب عام 1967 ) ، فقمت بدوري بالاتصال بالسيد مدير فرع بغداد ، وهو المسؤول عن توفر المواد في المحافظة لدى الوكلاء والاسواق المركزية وحوانيت الجيش ومديرية التموين والنقل في وزارة الدفاع ، حيث كانت الشركة باختصار تؤمن حاجة المواطن والجيش بتلك المواد بالغة الخطورة أيام السلم ووقت الحرب ، وبعد الاتصال به وافق بعد استحصال موافقة السيد المدير العام على القيام بحملة للبيع المباشر في الأسواق والمحلات المحيطة بالاسواق المركزية ، وتم الطلب إلى وكلائنا بعرض المواد أمام محلاتهم وعدم غلق المحلات قبل التاسعة مساءا ، وشملت الحملة في اليوم الأول اكثر مناطق بغداد من الحرية إلى المنصور الدورة الوشاش العامل البياع وصولا ال. كافة مناطق بغداد الرصافة بما فيها مدينة الثورة ( سابقا) وقد أدت هذه العملية السريعة الى سرعة الاستجابة لمتطلبات السوق من ناحية والاحتفاظ بالخزين الاستراتيجي من ناحية أخرى ، وكان على أن انتقل إلى مخازن الشالجية حيث الخزين الاستراتيجي للسكر ، وقد صادف أن تم التوجيه بخلط الشاي في المخازن المذكورة لمساعدة معمل الشاي على تخطي مرحلة هبة المواطن في الحصول على المواد الأساسية وفقا لقاعدة نهم الطلب أيام الحرب ، او تلبية حاجة القوات المسلحة ، وفقا للقول المشهور أن الجيوش تزحف على بطونها ، والقصة تكتمل عندما حل السيد معاون المدير العام لشؤون المخازن زائرا لمخازن الشالجية للتنسيق في ادارة شؤون الخزين ، والعمل يتطلب البقاء لساعات طويلة بعد الدوام الرسمي ، والموظف اقولها بامانة كان برغم كل شئ يتجاوب مع الظروف الطارئة وخاصة أوقات الحروب ، وفي الساعة الخامسة شعرنا بالجوع ، فقام السيد المعادن باستدعاء احد سائقي السيارات وسلمة دينارا واحدا طالبا منه الذهاب إلى أحد الوكلاء في العطيفية لشراء كيلو سكر بسعر 200 فلس ، ونصف كيلو شاي بسعر 750 فلس والباقي هيل ، ومحور القصة أن المخازن التي ندير حملة العمل فيها مملوءة بالسكر (وهناك سكر ممزق) لان المنشأة تتعامل بملايين الاكياس من السكر المستورد والمصنوع محليا ، وان الشاي تحت اليد وهو قيد الخلط والتعبئة للأسواق ، غير أن ثقافتنا بل واخلاقنا لم تجز لاي منا أن يجتز من خزين المنشأة لاغراض استهلاك الموظفين ولاي سبب كان ، وهكذا كان تصرف الزميل معاون المدير العام وكان مثلا للموظف الأدنى ، من ان هذه المواد هي أموال عامة لايجوز التصرف بها الا وفقا لاعمال التعبئة والحزن والبيع بموجب التعليمات المالية والمخزنية ، اردت بهذه المقدمة أن اوصل بكل أمانة أن موظف وزارة التجارة كان مثلا في ادارة المال العام وكانت المنشأت تتعامل بمليارات الدنانير ، عندها كان الدينار الواحد يعادل 3،3 دولار ، ولم نسمع طيلة عقود أن موظفا سرق او اختلس او حتى تناول ما هو عائد لمنشأته ، ونحن اليوم نستغرب بما الت إليه منشأت ذلكم القطاع ، واننا نستغرب أن نسمع اليوم بوجود مواد منتهية الصلاحية ، وأود أن اشير إلى اني أصبحت فيما بعد مديرا لقسم المخازن ، فكنت اقطع محافظات العراق ذهابا وايابا ملاحقا حالة المخازن والخزين ، وكانت التعليمات تقضي بأن يجري الوقوف كل يوم على حجم الخزين الواجب للاحتفاظ به ، وصلاحية المواد بما لا يقل عن عام واحد ، وان يكون معاون المخازن مسؤولا قبل غيره عن صلاحية المواد منذ الاستلام حتى لحظة التسليم إلى الوكيل ، وكانت العملية تتم بكل تفاصيلها برغم القصف الذي تعرضت له بعض المخازن ومواقع قطع قوائم البيع ، فالموظف كان يتعرض لاشد العقوبات إذا ما تعرض كيس واحد للتلف ، لان القاعدة كانت تسير كظلك ( أن المواد التي تتعامل بها المنشأة مال عام ) ، والعقوبة في حالة التقصير تصل بك إلى الإعدام ، ولهذا نقولها اليوم للأجيال القادمة أن الوظيفة برغم قلة عائدها تظل أمانة باعناق المكلفين بها وانها تشريف لحامل اوامرها ، وقد تبنت اجيالنا الأمانة في تلك الأيام ، والحليم تكفيه إشارة الابهام ……