7 أبريل، 2024 11:16 ص
Search
Close this search box.

قصة قصيرة حوار ساخن في ليلة باردة

Facebook
Twitter
LinkedIn

في ليلة كثر صقيعها واختفى الدفء في جيوب المعاطف السميكة التي ابت الخروج إلى الشوارع التي خلت إلا من المشردين والمجانين والسائرين بلا هدى أمثالي والتي استطالت حتى بدت كأنها العمر كله تسرب البرد إلى أطراف الأصابع ثم تمطى إلى المفاصل وما بين الضلوع لكني لازلت أمارس السير في تلك الشوارع الموحشة من غير هدف اريد الوصول إليه أو غاية اصبو لها . في احد المنعطفات سمعت سعالا يتعالى فتوقفت بحثا عن مصدره فدعاني صوت مبحوح للجلوس اقتربت منه ورميت التحية بصوت مرتجف فأمرني بالجلوس بجانب الجدار الذي يتكأ عليه وسالني ان كنت احمل معي لفافات تبغ فاعطيته واحدة منها وأشعلت لنفسي أخرى وسط تساقط وفر خفيف ترك أثره على حاجبه الكث وشاربه وعلى ضوء مصباح الشارع الخافت تبينت ملامحه رجل خمسيني لا أثر للبؤس عليه ولا أثار للنعمة ملابسه جيدة لكنها غير مرتبة ووجهه بلا تجاعيد أو تغضن ولا تظهر عليه أعراض مرض أو جنون لكن في عينيه شرود غريب ياخذ من السيجارة نفسا كأنه الاخير لكنه ينفثه ببطء لافت للنظر . طال جلوسي بجانبه من دون أن ينبس ببنت شفة لدقائق تراخت في سيرها ولم يقطع هذا الصمت سوى صوت وقع إقدام متسارعة على أسفلت الشارع ثم رفع رأسه وصاح بلهجة امرة .. تعال هنا . توقف وقع الإقدام ثم تحرك صاحبها ببطء نحونا وقبل أن يدعوه مضيفي للجلوس سال هل لديكم بعض الماء ؟ هالني ان أراه وسط برودة هذا الجو بثوب صيفي مهلهل وسروال جينز قديم وحذاء من تلك التي يمتطيها ممارسوا رياضة ركوب الخيل ويرأس حليق ولحية كثة اهمل نموها ولم يشذبها ربما لعدة أشهر أو اسابيع . أعطاه بعض الماء وسأله ان كان يحتاج إلى لفافة تبغ فاوما برأسه إيجابا فالتفت لي فمددت يدي باللفافة التي امسكها بلا مبالاة ثم قربها من أنفه وشمها بعدها مررها على شعر شاربه المبلل بحبات الثلج المتساقطة وعاد مضيفنا إلى صمته المشبوب بالترقب . استغربت كيف استجبت لدعوته ومالذي دفعني للجلوس وممارسة الصمت اهو احتراما لشخصه أو استجابة لهاجس خفي ؟ ولماذا لم يكلمني أو يخبرني عن سبب دعوته لي ؟ ولماذا لا أترك المكان خصوصا وأن صاحب القميص الصيفي لم يغير وصوله من الأمر شيئا ؟ تحركت قليلا في مكاني فاصطدمت يدي بدفتر ورق كتابة رمي بإهمال قريبا منه وقررت أن أترك المكان مع حساب المفاجأة أن وقعت وقبل النهوض طرق سمعي صوت شجي يترنم بأغنية تخلط بين الوطن والحبيب وقسوة الظلم وحلم العدالة المفقود فتابعتها بانتباه وأخرجت لفافة تبغ واشعلتها لنفسي ومن توهج جمرتها استدل المترنم بتلك الأغنية على مكان جلوسنا وقطع سيره وتوجه نحونا ثم رمى علينا التحية وجلس ليصبح عددنا أربعة. بعد استقراره في مكانه طلب منه الاول ان يكمل أغنيته فقهق عاليا ورد بلا مبالاة.. ماذا اكمل منها والحبيب ارتحل منذ زمن والوطن تسلط عليه الغرباء ونهبه اللصوص وتحول إلى بؤرة حرمان يجبر الفقراء على العيش فيها ليخدموا من سرقوا كل شيء ؟
. قال صاحب القميص الصيفي .. الله موجود .
قهقه الرابع وقال كيف ؟ الم يكن اسمه العدل فإن كان موجودا حقا لما كل هذا الظلم ؟
فرد الاول : ان هذا المطر والبرد هو دليل على وجود الله وهو أحد بركاته وسيحيي به الأرض ويمسح ادران البشر .
. قال الرابع : يا صديقي المطر له وجهان الاول هو الزاهي الذي يبتسم به الله لاحبائه الأغنياء لكي يتمتعوا به ناظرين لهطوله من خلف زجاج بيوتهم وهم يجلسون وسط غرفهم على ارائك وثيرة يشع منها الدفء وتتناثر في صحونها النعم والمقبلات معلقين معاطفهم السميكة في أرجاء تلك الغرف وبعد متعة النظر سيذهب ماء المطر لمزارعهم وحدائقهم ليغسل اشجارها ويسقيها حتى تدر عليهم رطبا جنيا من غير هز في حين وجهه الثاني يتحول إلى سوط يجلد به الفقراء حيث يخترق سقوف منازلهم فيتلف اثاثهم وطعامهم على بساطته ويفرق بيوتهم فيحولها إلى لجة بحر مائج أو قطعة من الجحيم وتفيض شوارعهم فيجبرون على البقاء وسط جحيم من دون احتجاج أو رفض على الكيل بمكيالين بين فقير وغني .
. احتد الاول ورد : علينا أن نحلم ونخطط لمستقبل وطن يتساوى فيه الجميع وتكافؤ الفرص لنعيش جميعا بعدالة وسلام .
. قال الرابع : انتم يامن ابدتم الاقلام والورق بالكتابة والتنظير وبحت أصواتكم من انشاد مطولاتكم اخبرني ماذا غيرتم من الواقع ؟ كلما تعالت تلال كتبكم وصدحت أصواتكم ازداد الفقراء فقرا والأغنياء غنى ولا تحصلون انتم إلا على فتات موائدهم وقد يجودون عليكم ببعض خمرتهم السلطانية احيانا لتمارسون بدون كلل تخدير الفقراء وتثبطون عزيمتهم .
. ضحك صاحب القميص الصيفي وقال : حمدا لله ليس معنيا بحواركم بعدما غاب العقل وضاع الوطن ورحل الحبيب وفقدت الإحساس بالجوع والبرد والحر .
. احتفظت بصمتي وحاولت القيام وترك المكان من دون مشاركة ولما هممت بالنهوض ضحك الرابع وقال :
أجزم أنك من السواد الأعظم .. تجوع انت واطفالك لايهم يقتل اعزاؤك المرض ويفتك بهم لاتبالي يسرق الأقوياء كل حقوقك لا تحرك ساكن .. يغرق بيتك وشارعك ومنطقتك تتحمل ذلك بصبر جمل تمر بك كل تلك المصائب وانت تردد ( الحمد لله ) ولم تسأل نفسك يوما على ماذا تحمده ثم توهم نفسك ان صبرك وسكوتك وهوانك على نفسك وتحملك كل هذه المصائب بقناعة سيدخلك الجنة في الحياة الاخرة وفاتك ان الله لا يحب الجبناء ولايدخلهم جنته وانه سبحانه خلق الجنة للشجعان فقط .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب