18 ديسمبر، 2024 11:24 م

قصة قصيرة…(( الشيبة المباركة )) الجزء الاول

قصة قصيرة…(( الشيبة المباركة )) الجزء الاول

جلس سعد منذ الصباح الباكر وهو في اول يوم من اجازته العسكرية والتي تتراوح عادة بين اسبوع او عشرة أيام ويعتبر اول يوم من كل اجازة يوم مميز وله نكهة خاصة فمن خلاله سوف تلتقي بالأصدقاء والمقربون وكل ابناء القرية والجميع فرحون بقدومك ويقدمون لك التحية بعودتك سالماً اليهم خاصة وان وحدته العسكرية تقع ضمن قاطع شرق البصرة والتي تبعد عن سكنه وعن قريته حوالي الف كيلومتر تقريباً واثناء تجواله في درابين القرية الضيقة صادفه احد رجال القرية المسنين وبعد ان سلم عليه قام سعد بتقبيل يداه كونه شخص معروف بالتزامه بالأمور الدينية وعليه علامات الوقار….
بادره سعد بالسؤال عن صحته فقال له انا بخير يابني ولكن فكري مشغول جداً بكم انتم المقاتلون في الجبهة وانا والله ادعوا في كل صلاة ان يحفظكم الباري وينصركم على عدوكم وانني لا اخفيك سرا اذا قلت لك ياولدي سعد انني قلق جدا على ابني موسى فهو ابني الوحيد كما تعرف وقد اصيب ثلاث مرات في المعارك وانجاه الله منها والان هو ايضا في قاطع قتالي وعسى الرحمن ان ينهي هذه الحرب وتعودون الينا سالمين فهذه الحرب طالت ياولدي ومازالت تحصد ارواح ابنائنا ولاتميز بين الاخضر واليابس وكل معركة فيها تشتد اكثر ضراوة من التي قبلها… فنزلت دموعه وقال بحفظ الرحمن ياولدي وعسى الله ان يأتي بابني موسى بإجازة قريبة… فقال له سعد ان شاء الله ياعم فنحن كلنا بحاجة الى دعائك فهذه الشيبة الصادقة لها مكانة عند ربها فادعوا لنا ما تستطيع فوالله في كل معركة نشعر احيانا ان قذائف المدافع عندما تتفجر بقربنا نحسها انها من الماء وليس من البارود وهذا بفضل دعائكم لنا انتم وامهاتنا اللاتي لا يهدأن الا عندما نأتي بإجازة…. قام سعد بتقبيل رأس العم ابو موسى وذهب لإكمال القاء التحية على الباقي من ابناء القرية….
التقى أصدقائه ابناء عمومته منذ الطفولة وعند وصوله منزل ابنة عمه والتي يعتبرها في مقام اخته سألهم عن ابنها عبد الجبار فابلغوه انه ذهب الى العاصمة بغداد للتقديم على الكلية العسكرية لرغبته الشديدة لذلك رغم ان معدله في حينها يؤهله للقبول في كلية الهندسة ولكن رغبة اهالي منطقته جنوب الموصل تفضل الالتحاق بالكلية العسكرية والتخرج منها برتبة ملازم ليكون ضابط في الجيش العراقي ليخدم وطنه والدفاع عن مقدساته وحتى يحظى ايضا بالامتيازات التشجيعية الممنوحة له من قبل الدولة ومنها منحة سيارة بشكل مجاني مع قطعة ارض سكنية وقرض ميسر لبنائها وبذلك يكون المستقبل مضمون من الناحية المعيشية خاصة مع وجود راتب مميز ايضا يقدر بمئة وستون دينار عراقي اي ما يعادل خمسمائة دولار شهريا ويعتبر هذا الراتب جيد جداً خاصة وان جميع اسعار المواد الضرورية مدعومة من قبل الدولة….وهذا ما يميز العسكري المتطوع عن غيره وخاصة الضباط كونهم يعتبرون قادة في وحداتهم العسكرية ومميزون ضمن واقعهم الاجتماعي وقد قيل في الامثال الانجليزية
(اذا اردت ان تكون ملكاً فكن ضابط في الجيش العراقي)
وكانت هناك مقولة شعبية عند اغلب الفتيات اللاتي ادركن سن الرشد وعندما يبلغونها بخطوبتها من قبل شخص معين
تقول(( لوملازم لو ما لازم)) وتقصد اما ضابط او لا داعي للزواج… وعودة على مقاتلنا سعد الذي كان ينصح ابن اخته عبد الجبار بالتوجه الى الدراسة في كلية مدنية وان الحياة في الوظيفة المدنية مريحة اكثر ولكونه خريج كلية العلوم وعاش الحياة الجامعية واعتبرها اجمل ايام العمر والتحق بعدها في الجيش لأداء الخدمة الالزامية…والتي صادفت في ظروف حرب طاحنة ومر على التحاقه بالجيش اكثر من ثلاث سنوات وهي الخدمة المحددة والمكتوبة في دفتر الخدمة العسكرية ولكن ظروف البلد الغير اعتياديه تغير كل شيء في الحياة.. استمر سعد على هذا الحال ثماني سنوات تقريباً دون اي تغيير فالبلاد مازالت تعيش حالة الحرب وليس هناك اي بصيص امل في نهاية النفق.. ولقد تعود على البقاء في وحدته العسكرية شهر كامل مقابل الاجازة الاعتيادية سبعة ايام رغم بعد الطريق وفراق الاهل ولكنها الحرب وتداعياتها.. كان سعد يزور قسم من اقاربه المتواجدين في الوحدات القريبة من وحدته ليطمأن عليهم ويطمأنون عليه ويرسل معهم احيانا رسائل الى اهله او العكس خاصة بعد حدوث معارك في ذلك القاطع. وفي احدى المعارك استشهد احد أصدقائه في وحدته العسكرية فابلغه آمر الوحدة بالذهاب الى مستشفى البصرة العسكري واستلام الجثة وايصالها الى اهله كونه من نفس محافظته ويعرف عنوان سكن الشهيد وعند الصباح الباكر توجه سعد الى مدينة البصرة قاصدا المستشفى العسكري ومعه الكتاب الذي يخوله باستلام جثة الشهيد وما ان وصل الى استعلامات المستشفى حتى اوصلوه الى القسم المختص والذي بدوره اشاروا اليه الى البحث في الثلاجات التي تحفظ الجثث لكي يجد جثة صديقه ويكمل الاجراءات الأخرى.. ذهب ومعه احد الممرضين من قسم الوفيات الى الثلاجات الممتلئة بالجثث وبدأ سعد يدقق وجوه الاموات حتى يجد جثة صديقه ولكنها الاقدار والمفاجأة التي لا ترحم اي انسان فلقد تفاجأ بوجود جثة اقاربه موسى احد ابناء عمومته وصديقه في قريته وبصورة لا ارادية وجد نفسه في صراخ وعويل متأثرا بهذا الموقف…