17 نوفمبر، 2024 12:28 م
Search
Close this search box.

قصة قصيرة،، شحّاذ لساعتين

قصة قصيرة،، شحّاذ لساعتين

أمس الثلاثاء 21 آذار -نوروز- ذهبت و اهلي الى بغداد ، وهي مدينة تقع في وسط العراق!! – من اجل استكمال بعض الاوراق الحكومية اللازمة والتي اشتغل عليها منذ عودتي -الميمونة جدا- الى البلد العزيز على التعديل ،
لم استلم معاشي الاخير بعد – فنفذ عندي النقد العراقي ، واذ الشان الذي انوي انجازه لازال يقبل الدولار كاجور مدفوعة “دائرة اجنبية” (460) دولارا فاخذت معي الدولارات (700 دولارا) لأنجز عملي ويبقى معي 240 دولارا تغطي عودتي الى بيتي ظهرا وتزيد ، وقد قلت “إن شاء الله” توكلا وإيمانا ، غير مصغ لنصيحة اهلي بأن اقترض مبلغا من النقد العراقي من صديق يغطي تكاليف النقل ذهابا وايابا بما لايزيد عن (50 الفا) إذ تلقينا خبر حتمية المراجعة ليلا بعد ان حل علينا الظلام ولم يبق من اهل الصرافة من يفتح دكانه للزبائن المصرفين، ولاني تحاشيت الاقتراض دون ضرورة ، سيما وان لدي نقد عراقي يوصلني الى مقصدي في الصباح الباكر وهذه لب المشكلة اما العودة فسهلة اذ اعتبرت ان لدي دولار سيبقى بعد تمام العمل وساعود به راشدا .
أكملنا شأننا بسلام وبحمد الله ، وصار الوقت منتصف النهار ، وليس لدي من النقد العراقي ما اشتري به ماء نشربه وقد بدات الشمس تؤثر في المارة في ايام هذا الربيع العراقي الجميل ،في شوارع بغداد المكسرة ومحلاتها المهشمة ونافوراتها الجافة ، وارصفتها المحفرة التي لم تطاها يد انسان معمر منذ عقدين ولا يد عامل منظف ولا زرعت بها نبتة ولاسقيت بها شجرة ،
والذين معي من طفل وامراة يسالوني وهم يزورون بلدهم الثاني للمرة الاولى اسالة تبدو لي لامعنى لها ولكنها لهم تعني الكثير :
– لماذا ياترى ليس في الشوارع اشجار؟ قلت لا ادري ، لكن قبل عشرين سنة كانت متخمة بالاشجار.
– لماذا سيارات النقل مهشمة متهالكة قديمة؟ قلت لا ادري ولكني تركتها جديدة وجميلة عندما اتيتكم .
– لماذا يصرخون في الشوارع والكراجات، لماذا الازدحامات ، لماذا يقطعون الجسور (جسىر السنك كان مقطوعا ) فعبرنا على الجمهوري فاصبح مكتضا ، ولا يمكن الهرب الى جسر الاحرار او الشهداء لان المقصد قريب ،
– ولماذا الاسلاك الكهربائية متشابكة فوق الرؤوس في كل مكان ، ولماذا أصحاب السيارات الخصوصي يقفون لنا وماذا يقولون؟ لم استطع ان اقنعهم انهم يعملون كسيارات اجرة (تكسيات)!،
ولماذا ولماذا ولماذا ،الى ان برمت بهم وصرخت ، دعونا اولا نحل مشكلة عودتنا وبعد ذلك الله كريم ،
– ماهي المشكلة ، الم ننه عملنا؟
-نعم ولكن نفذ عندنا النقد العراقي .
– ثم ماذا ، صرف الدولار ودعنا نعود .
– طيب دعوني ادخل على صاحب هذا المحل ونشتري ماء بالدولار ونطلب منه ان يعيد لنا الباقي بالعراقي من اجل التكسي ،
-طيب.
دخلنا اسواق كبيرة قلت السلام عليكم اخي
-عليكم السلام
– ارجوك نريد ماء وبعض الاشياء ومعي دولار تفضل .
– لايمكن ان اتعامل بالدولار
-كيف؟ لماذا ،تريد فئة صغيرة ؟ لدي 20 دولار ايضا خذها ،
– لا يا اخي ، المشكلة اننا اوقفنا التعامل بالدولار،
-ماذا؟! لماذا ،، وكيف ساتصرف اذن؟ وكيف اشتري وكيف اعود !
قال : اذهب الى صيرفة في “العرصات” -وكنت في المسبح آنذاك، قلت : طيب المكان قريب ،والتفت لأهلي ، قلت هيا نمشي قليلا الى الصرّاف .مشينا 20 دقيقة ووجدناه مقفلا والاخر لايصرف والاخر مقفل والاخر لايريد ان يصرف ، مرت ساعة على هذا الحال والدروب تاخذنا ولم نشعر الى ان بلغنا “الكرادة خارج” .هنا انتبهت انني قد اكون في مازق لم استعد له او لم اتوقع حدوثه .
توقفت لوهلة لاستعيد انفاسي وقد بدانا نعطش تحت الشمس وتعرق اجسادنا تحت الملابس شبه الشتوية اذ كنا غادرنا البيت فجرا ،
– مالذي يحدث؟ تساءل اهلي
-لا احد يريد ان يصرف لي الدولار ،لا ادري لماذا ، ولا احد يريد ان يبيع لي شيئا حتى الماء ، ولا اجرؤ ان اقول لصاحب محل اعطني ماء دون ثمن والا لفعل، فانتم لاتعرفون العراقيين كم كرماء وطيبون ولكني استحي مع هيئتي وحقيبتي وعائلتي ان اظهر بمظهر المستجدي ! دعونا نحاول بطريقة اخرى .
اوقفت تكسي : ارجوك هل تنقلني الى العلاوي او المنصور او حتى الباب الشرقي وتقبل مني دولار ؟
– لا والله وارجوك لاتصور
-ماذا ؟ اصور! اصور ماذا ،، ولماذا ؟
– انا لست غشيما هنا وحرك سيارته غاضبا!
مالذي يجري ! اوقفت سيارة اخرى ولم يقبل ، كنت انتبهت الى ان هاتفي في يدي الاخرى وانا انحني على حافة الباب المقابل لباب السائق لافاوضه على نقلي يبدو له وكانني اصوره من اجل التعامل بالدولار ، فوضعته في جيبي لكي لا استفز الاخرين .
لم يقبل احد،
دخلت الى محل حلاق ، قلت اخي مالذي يحدث؟ سالته عن الدولار واصحاب المحال والسيارات ، قال: لم يعد احد يتعامل بالدولار الا تسمع الاخبار ، قلت : سمعت طبعا ولكن ..اإلى هذا الحد ؟ وفي اسبوع واحد ! وهل لدينا دولة قوية فعلا ليخشاها الناس بهذا القدر؟
– لا ولكنهم يخشون على اموالهم واسواقهم فلا احد يعرف ماذا سيجري ، واسترسل : هذا الرجل يتكلم وكانه رئيس وزراء فعلا ويصدر قرارات تصريف وماشابه ولكن لا احد يلتزم ولا شيء ينفذ ، فاوقف الحال ، فلا الناس بقوا كما كانوا يتعاملون بالدولار والعراقي معا باريحية بسبب تذبذب الاسعار ،ولا هو الذي ثبت السعر الجديد وحماه ،رجل ينفذ ماتقوله الدول المتنفذة وتصارعه المليشيات الحاكمة ،
قلت: يا اخي لا صالح لي في السياسة الان شكرا لك مع السلامة
– مع السلامة حياك الله.
غذينا السير قاطعين “الكرادة داخل” عبر ساحة كهرمانة مشيا وسالوني عن نصب “الاربعين حرامي” البارز في الساحة وعن الجرار الاربعين والمراة التي تصب ماء من جرة بيديها ، قلت : هؤلاء اربعون لصّا وهذه فلانة وكان الامر كذا وكيت من قصة في تراثنا ، اعجبتهم القصة ولكنهم سالوني سؤالا صادما لم اكن اتوقعه ،
-طيب اذا كان الامر لصوص وقتلة وماشابه ، فلماذا اقمتم لهم تماثيل ونُصب !
-قلت: لا ادري ، وصرخت اسكتوا تماما ، الا ترون حالي باي حال ! ثم استدركت باللغة العربية وبلهجة عراقية وكانني اتحدث لنفسي ،لو اننا لانقيم تماثيل “للحرامية” لم نصل الى الذي انا فيه الآن ،معي نقود ولكن ليس معي نقود.!
– ماذا تتمتم بالعربي ألا تكلمنا بلغتنا لنفهم ،
-لا لا داعي اسكتوا فقط، وقد بدا الانزعاج يتسلل الى نفسي وتغير مزاجي وبدات لا احدث عائلتي بلطف وبثوب الدليل السياحي كما كنت في الصباح اطلعهم على ثقافة بلد لا يعرفونه الا من السماع .
اجتزنا شارع السعدون -مشيا- وقد مر علينا من الوقت الأن قرابة الساعتين ، عطش وتعب و-نوعا ما – شجار ، حاولت مرات عديدة عند وصولي قريب شارع المشجر ثم منطقة البتاويين في نهاية شارع السعدون ، حاولت مع محلات موبايل وغيرهم ، ورايت في طريقي “بنك” مصرفا مقفلا ، خطرت لي فكرة رائعة كانت غابت عن ذهني بسبب الضغط النفسي والارتباك،
نفذتها فورا اوقفت سيارة اجرة وقلت: هل تأخذني وعائلتي الى الفلوجة (حوض) ، قال : فلوجة ! كيف يعني؟ قلت : مدينة الفلوجة اقصد ، قال : يا اخي من لايعرف الفلوجة ولكن انا اعمل في الداخل وهناك (تكسيات) خاصة في (گراج العلاوي) تاخذك للفلوجة ، تفضل اصعد معي (نعبر لذاك الصوب) واعطني اجرتي خمسة آلاف دينار،
بدات اتلعثم وابلع ريقي لا اريد ان اضيع الفرصة وقد اخذ مني التعب ، ولكني مرتبك خائف كيف اقول ان ليس معي دينار ، قال متبرما: ماتنتظر قرر يا اخي نحن على الطريق والمرور (شرطي المرور) يتصيد بحثا عن غرامات ، يعطونه دفترا كل صباح ويريدون منه صرفه كله آخر النهار ليسلمهم اموال المساكين (اللي مثل حالتي حتى تشبع هاي الحكومة بوگ بعد ماباگو كلشي) ، قلت في نفسي مسرورا هذا هو الرجل المطلوب ،شجاع لايخاف من قرارات الحكومة دعني اصارحه : طيب يا عم والله صدقت ، انا عندي دولارات وليس نقد عراقي -واخذت افتح الباب لأركب – قال ماذا؟ لا ارجوك ، (اخذ راحتك مع السلامة) .
تركني ورحل وتملكني الاحباط ، دخلت الى محل قلت : اخي هل اعطيك عشرة دولارات وتعطيني عشرة الاف دينار قال لا ، دخلت الى محل آخر قلت اخي هل تعطيني الفين دينار اجرة باص لان ليس لدي عراقي ….،لم يدعني اكمل : قال مع الاسف شكلك وهندامك كنت اظنك استاذا ، تبتكرون كل يوم طرق للتسول ، الا تستحون ، !
خرجت مسرعا خجلا.
قلت لنفسي : كفى لقد صبرت كثيرا وسيقضي علينا الحياء هنا عطشا وتعبا ، اوقفت اهلي جانبا بعيدا عني بقليل ، بعد ان اخرجت من عقلي فكرة ان اعبر الجمهوري باتجاه كرادة مريم ثم الصالحية ثم العلاوي مشيا ، فعبرت السعدون ركضا باتجاه جانب المطعم التركي ، قبله بقليل وبجانب ثانوية العقيدة -مدرسة زها حديد- المسيحية العريقة ، اتجهت الى مكتبات قديمة كنت اشتري منها كتبا قبل اختراع النت وضياع الثقافة ، استذكرت للحظات جميلة اخرجتني من الصراع المادي الذي انا فيه ، انظر الى المكتبة العالمية ومكتبة الحضارة بجانبها و…و… وانتشيت ايام صباي عندما اخرج من المدرسة الاعدادية في حي القادسية واتي هنا استطلع اخر الاصدارات واشتري ماتيسر منها واعود الى بيت ابي في منتهى النشوة والفرح لاني ساقرا كتابا جديدا او رواية.
انتهيت الى صاحب المكتبة المتوسط العمر طاردا الذكرى الجميلة مجبرا ، قلت : لعلك لاتعرفني ولكني لي مع ابيك أو ربما عمك ذكريات جميلة اذ كنت احد زبائنهم المفضلين ، وكذا وكيت ،، قال اهلا بك واستبشر ،
وبعد ان لخصت له السنوات الاخيرة كيف انني اغتربت ودرست وعدت ، ومعي دولار ولا اجد ما اعبر به الى (گراج العلاوي) ،الفان فقط لو تكرمت ، قال : طبعا وبكل سرور ولايهمك يا استاذ الانسان باين من منطقه وشكله ،خذ هذه 10 الاف لا اريد لها مقابل ،قلت : لا والله إلا تاخذ الدولار قال : ابدا لا والله ،
قلت اذن اعطني الفين اعبر بها واهلي الى مرآب المحافظات وكلي امتنان ، وشكرته وعدت الى عائلتي اشترينا ماء وركبنا السيارة العامة الصغيرة (الفورت) بألف ونصف ، ووصلت العلاوي ،استاجرت سيارة تكسي “حوض” الى الفلوجة ،دخلت دون ان اتكلم كما لم اخبره بالامر خوفا ان يرفض ، كان هو فرحا باصطياد زبون غني يستاجر لوحده ،وانا مغمض العينين مستلق الى اخر المقعد الامامي جنبه فرح بانني وجدت سيارة ،وعندما وصلنا الصقور صارحته قلت له انني لا املك الا الدولار قال ولايهمك استاذ ،
-ابتسمت قلت كم اجرتك ؟ قال 30 الف وكان مغاليا ،قلت : هذه 20 دولار ،هل تقبل ؟
قال بكل سرور حياك الله ، واوصلني بيتي بسلام الساعة الثالثة والنصف عصرا او يزيد . وحمدت ربي مستحق الحمد ، وشكرت السيد محمد السوداني كثيرا ان جعلني اخوض تجربة العمل “كشحاذ لمدة ساعتين” .

أحدث المقالات