في عام ١٩٧٧ كنت مع استاذي المرحوم الدكتور فاضل الحسب في مكتبه عندما كان رئيساً لمركز البحوث الادارية والاقتصادية التابع لجامعة بغداد.
ودخلت السكرتيرة قائلة ان الطالب الياباني قد وصل .
اردت الاستئذان والخروج لكن الدكتور فاضل طلب مني البقاء للاستماع الى مناقشات الطالب الياباني.
يبدو انه التقى به في جلسات سابقة ويعرف تفكيره واراد مني ان احضر هذه الجلسة.
قدم لي نبذة سريعة عن الطالب الياباني واسباب وجوده في العراق لاجراء عدد من المقابلات وجمع بيانات ومعلومات.
اتضح ان الطالب هو طالب دكتوراه علوم سياسية في جامعة السوربون وموضوع بحثه للدكتوراه هو :
“اسباب فشل الامام علي ابن ابي طالب في حكم العراقيين.”
استغربت من هذا الاهتمام !! بل استغربت من مجرد معرفته بشخصية الامام علي وماواجهه من تحديات.
خلاصة مشكلة البحث هي :
( وانا هنا انقل وجهة نظر الطالب فقط)
الامام علي من خلال كتاب نهج البلاغة ، يبدو انه كاتب القرآن، فكيف يفشل في الحكم ؟
تأكد له من خلال دراسة وتحليل فكر وحكمة الامام علي وقدراته العلمية ، انه لايمكن ان يكون سياسياً فاشلاً .
أذن من الممكن ان يكون الخلل في المجتمع الذي كان يعيش فيه وهو المجتمع العراقي ..
لهذا الغرض ، ولكي يتعرف على العوامل التي تؤثر في سلوك العراقيين ونزعتهم المتطرفة ، درس تقلبات درجات الحرارة بين الشتاء الذي تصل الحرارة فيه الى حد التجمّد والصيف الذي تصل الحرارة فيه الى مايقترب من الغليان !
درس تقلبات الحرارة في اليوم الواحد بين الليل والنهار . تشتد في النهار وفي الشمس الى مايقترب من الغليان لكنها تنخفض ليلاً الى حد الحاجة الى غطاء عند النوم فوق السطوح .
درس التربة التي يمر من خلالها نهرا دجلة والفرات خلال تدفقهما داخل العراق ومايمكن ان يكون فيها من املاح ومعادن تذوب في ماء النهرين وتؤثر كيميائياً في سلوك العراقيين!!
درس الطقس عموماً والرياح وموجات الغبار والامطار والفيضانات والجفاف .
تخيلوا انه يناقش الأمر مع المختصين في الطقس والكيمياء الحيوية والسلوك الانساني الخ … كم هو جاد في بحثه وكم قرأ وترجم وكتب !!!
هنا يصبح هذا الطالب مستحقاً للدرجة العلمية لأنه تدرب على البحث والتقصي والتمحيص والمقارنة وطول البال والتأني وتحمّل مشاق البحث العلمي للوصول الى الاستنتاجات الحقيقية المطلوبة لبحثه.
ليس بالضرورة ان تذهب كل أطروحة دكتوراه لعلاج مشكلة عملية ، لكنها امتحان وتدريب كبيرين لخلق باحث ومفكر في ميدانه.
انا لا اعرف ماذا حصل لاحقاً مع هذا الطالب ، لكني تذكرته وأنا ألاحظ تردي مستوى الدراسات العليا وجديّة الطلاب بشكل عام سواء أكانت الدراسة داخل العراق او خارجه .
بعض الطلبة يحصل على لقب الدكتوراه دون قراءة كتاب واحد في موضوعه . البعض يتعاقد مع مكاتب للنَصب العلمي تقوم بتحضير البحث.
اختيار المواضيع للبحوث يجري بشكل عشوائي وفوضوي والبحث عن أسهل المواضيع … المهم اللقب فقط.
للوهلة الاولى يبدو مستغرباً ان يبحث شخص ياباني عن قضية حكم الامام علي وما واجهه من مشاكل وتحديات،
ولكن الدول الكبرى التي تريد ان تتعامل مع دول العالم الأخرى التي لها فيها مصالح ، تحتاج الى معرفة كل شيء عنها ماضياً وحاضراً.
لو قام طالب عراقي بتقديم موضوع يتناول فشل أحد اباطرة اليابان ، وعرضه على اللجنة المختصة ، ماذا سيكون ردها ؟؟
هنا الفرق بيننا وبينهم .