23 ديسمبر، 2024 3:40 م

قصة تمثال بوشكين في جامعة بغداد

قصة تمثال بوشكين في جامعة بغداد

تم تدشين تمثال نصفي للشاعر الروسي الكبير بوشكين في حدائق كلية اللغات بجامعة بغداد بتاريخ 25 / 10 / 2011 , وهو أول تمثال له في العراق و اول تمثال لاديب او شخصية روسية بشكل عام في العراق و في تاريخ العلاقات العراقية – الروسية , و تم تغطية هذا الحدث غير الاعتيادي بشكل واسع جدا في وسائل الاعلام الروسية والعراقية والعربية , وقد أشارت وسائل الاعلام الروسية بالذات الى هذا الخبر بدهشة واعجاب لدرجة ان احدى قنوات التلفاز الروسي قد كررت بث هذا الخبر على مدى يومين كاملين وقد شاهدت ذلك شخصيا , وقالت معظم وسائل الاعلام الروسية , ان الاخبار التي تأتي من العراق تحمل انباء عن الانفجارات والاقتتال والصراعات الدموية عادة , وانه وسط كل تلك التوترات الشديدة نرى خبرا ثقافيا مدهشا عن افتتاح تمثال لبوشكين في كلية اللغات بجامعة بغداد , حيث يتجمع مثقفو العراق من طلبة واساتذة وادباء و بحضور مندوبين من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية ورئاسة جامعة بغداد ليشاركوا في هذه العملية الثقافية الفريدة من نوعها في العراق وفي تاريخ العلاقات العراقية – الروسية , وبحضور ممثلي السفارة الروسية في بغداد و مندوبي اتحاد ادباء روسيا , الذين وصلوا الى بغداد خصيصا للمشاركة بهذه الفعالية الثقافية المتميزة. وعلى الرغم من كل تلك الاخبار والتعليقات المتنوعة عن هذا الحدث الغريب والجميل وغير الاعتيادي في وسائل الاعلام المختلفة , لم يتناول احد كيف تم الاعداد لهذا التمثال او كيف ولدت فكرته و كيف وجدت طريقها للتنفيذ وسط هذه الاجواء المعروفة للعراق عام 2011 , و هذا ما سنحاول فيما يأتي التحدث عنه للتاريخ و بشكل وجيز ونحن نتصفح ملف اوليات هذا الحدث الثقافي الفريد في تاريخ العراق المعاصر .

تم تدشين التمثال النصفي للجواهري في جامعة فارونش الروسية الحكومية بتاريخ 2009 , وذلك بمبادرة وتخطيط وتنفيذ من قبل مركز الدراسات العراقية – الروسية في تلك الجامعة وبالتنسيق الكلي والتام مع الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية , والذي حضره سفير العراق في موسكو آنذاك ( وهو الذي قام رسميا بافتتاحه باسم العراق ) والملحق الثقافي ومساعد رئيس جامعة بغداد والوفد المرافق له عن الجانب العراقي والذي وصل خصيصا من بغداد للمشاركة بذلك , ورئيس جامعة فارونش وعمداء بعض كلياتها ومندوب وزارة الثقافة الروسية واساتذة الجامعة عن الجانب الروسي , وجمهور غفير طبعا من الطلبة الروس والاجانب والعرب , وقد القيت انا باعتباري مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية المذكور كلمة بالمناسبة , وأشرت فيها , الى ان الجواهري هو رمز العراق الثقافي , وان بوشكين هو رمز روسيا الثقافي , وبما اننا استطعنا ان نحقق اقامة هذا التمثال النصفي للجواهري في جامعة فارونش ولاول مرة في تاريخ روسيا , هدية من رئيس جمهورية العراق , فاننا نتمنى ان نرى رمز روسيا الثقافي , اي تمثال بوشكين , على ارض جامعة بغداد هدية جوابية من رئيس روسيا الاتحادية , وان ذلك التمثال – في حالة تنفيذ المقترح – سيكون موازيا لاهمية وقيمة ذلك الحدث و لاول مرة في تاريخ العراق ايضا , وقد استقبل الحاضرون هذا المقترح بارتياح وسرور و موافقة جماعية مطلقة , واعلن مساعد رئيس جامعة بغداد رأسا عن ترحيبه بذلك واستعداد جامعة بغداد لتنفيذ هذا المقترح . وهكذا بدأنا في اوساط مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش باتخاذ الخطوات اللازمة من اجل تحقيق وانجاز التمثال النصفي لبوشكين في بغداد , وقد اعددنا رسالة الى الرئيس الروسي آنذاك دميتري مدفيديف نرجو فيها الموافقة على تنفيذ ذلك المقترح , وكان من الطبيعي ان تكون هذه الرسالة الى الرئيس الروسي بتوقيع رئيس جامعة فارونش , وناقش المسؤولون في الجامعة المذكورة هذه الرسالة غير الاعتيادية في سياقات العمل الجامعي الاكاديمي بتفصيل وتحليل موضوعي عميق , وعلى الرغم

من موافقتهم المبدئية على مضمون تلك الرسالة واهميتها في تعزيز العلاقات بين البلدين , الا انهم اعتبروا ان ارسال هذه الرسالة الى الرئيس الروسي باسم رئيس جامعة روسية ( حتى ولو كان فيها مركز دراسات عراقية – روسية ) امر غير مناسب ولا يتناغم مع تقاليد ومستلزمات مخاطبة رئيس الدولة الروسية , وان مثل هذه الرسالة يجب ان تنطلق من العراق نفسه وعبر سفارة روسيا الاتحادية في بغداد , كي تأخذ ابعادها الرسمية وتكون منسجمة مع صيغة العلاقات الدولية المتعارف عليها ,وكان هذا الكلام منطقيا بالطبع وقد وافقنا عليه في اوساط مركزنا في جامعة فارونش , وهكذا , وبعد مناقشات واسعة و تنسيق تفصيلي طويل ومباحثات متشعبة ومعمقة جدا بين مركزنا في جامعة فارونش والهيئة الادارية لجمعيتنا في بغداد , تم تحويل تلك الرسالة التي اعددناها باللغة الروسية الى الرئيس الروسي مع تحوير مناسب طبعا الى الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية في بغداد وبتوقيع رئيس الجمعية لكي يقوم بتسليمها الى السفير الروسي في بغداد . وهذا ما تم فعلا . ومضت ايام وشهورطويلة على ذلك و لكننا لم نستلم اي جواب بشأن تلك الرسالة , رغم استفساراتنا العديدة هنا وهناك , وفجأة اخبرني أحد مسؤولي جامعة فارونش يوما , ان لجنة من مكتب الرئيس الروسي وصلت الى جامعة فارونش واطلعت على التمثال النصفي للجواهري وعلى الملف الخاص به والمحفوظ طبعا في ارشيف جامعة فارونش , بما فيها الرسالة التي وجهها مكتب رئيس جمهورية العراق الى جامعة فارونش حول اهداء تمثال الجواهري لهم , وكان من الواضح ان مهمة هذه اللجنة هو تدقيق المعلومات التي ذكرناها في رسالتنا الى الرئيس الروسي , وبالتالي تنفيذ الطلب الذي توجهنا به الى الرئيس , اذ اننا أشرنا في تلك الرسالة الى التمثال النصفي للجواهري وانه هدية من رئيس جمهورية العراق وعليه نتوجه الى الرئيس الروسي بجواب مماثل , وقد اعلمت رأسا جمعيتنا في بغداد بهذه الاخبار الجيدة , ثم أعلن الجانب الروسي بعد فترة قصيرة عن موافقته الرسمية على اقامة التمثال النصفي لبوشكين في بغداد , وتقدم ممثلو

اتحاد ادباء روسيا بطلب سمة الدخول الى السفارة العراقية في موسكو لغرض الاعداد لتلك الاحتفالية والمشاركة بافتتاح التمثال , والذي شحنوه معهم في الطائرة حاجزين له مقعدا خاصا بين الركاب حرصا على سلامته والحفاظ التام عليه ( وقد نشرت جريدة ليتيراتورنايا غازيتا الروسية خبر تدشين تمثال بوشكين في بغداد مع صورة التمثال النصفي هذا وهو مثبٌت على المقعد المخصص له بين الركاب في الطائرة المتوجه الى بغداد وقد ربطوا حزام الامان حوله حفاظا عليه من اي ضرر محتمل) . لقد حاولت بعض العناصر آنذاك – ومع الاسف الشديد جدا – ان تطرح الموضوع وتصوٌره وكأنها هي التي بادرت بهذه الخطوة وخططت لها وفاتحت الجهات الروسية بشأنها وتابعت ذلك بالتفصيل وكتبت الرسائل والمذكرات واقترحت خطوات محددة وعملت على تنفيذ نصب تمثال بوشكين في العراق , شاطبة ولاغية تماما و كليا وبشكل مطلق دور مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش والجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية وكل الوقائع الاخرى المرتبطة بالموضوع ابتداءا من اقامة تمثال الجواهري في روسيا وحتى رسالتنا الى الرئيس الروسي حول ذلك وما رافقها من اجراءات , وطرحوا كل هذا حتى على اعضاء مجلس جامعة بغداد في جلسة خاصة اقامها المجلس المذكور خصيصا للاحتفاء بالوفد الروسي بهذه المناسبة المرتبطة بتدشين التمثال النصفي لبوشكين في كلية اللغات , وأثار هذا الموقف الساذج جدا جدا لهؤلاء الباحثين عن المجد الشخصي الزائف والمصطنع بالطبع ردود فعل مستهجنة و شاجبة و غاضبة لدرجة ان رئيس الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية في بغداد قد اضطر ان يهدد برفع شكوى رسمية في المحاكم العراقية حول ذلك ضد تلك العناصر, ولكن الوفد الروسي – والحمد لله – حسم الموضوع هذا عندما اعلن في اللقاء مع وزير التعليم العالي العراقي انهم وصلوا الى بغداد بناء على الرسالة الرسمية الموجهة من قبل رئيس الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية و الروسية الى الرئيس الروسي مدفيديف والتي أشرنا اليها اعلاه

والتي تسلمتها روسيا عن طريق سفارتها في بغداد حول اقامة هذا التمثال , وقد عرض الوفد تلك الرسالة التي كانت نسخة منها بحوزته وموافقة الرئيس الروسي عليها , وهكذا انتهت تلك العاصفة المفتعلة والمضحكة فعلا لتلك العناصر في اللحظة الاخيرة ( والتي لم تأخذ بنظر الاعتبار ابدا سمعة العراق الدولية مع الاسف الشديد ) بفضل الموقف الشجاع والحاسم والدقيق لرئيس جمعيتنا امام هؤلاء اولا وموقف الوفد الروسي الموضوعي والمستند الى الوقائع الثابتة والمحددة تحريريا ثانيا وموقف المترجم العراقي في ترجمته الامينة اثناء اللقاء المذكورمع وزير التعليم العالي ثالثا . وهكذا تم تدشين التمثال النصفي لبوشكين في كلية اللغات بجامعة بغداد وبحضور رسمي وطلابي كبير, وقد القى رئيس جمعيتنا آنذاك في حفل الافتتاح كلمة اشار فيها الى كل هذه الجهود الكبيرة والحثيثة التي بذلها مركزنا في جامعة فارونش الروسية والجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية من اجل اقامة هذا التمثال في العراق ابتداءا وانطلاقا من تمثال الجواهري في روسيا وارتباطا به , وكذلك اشار الاخرون في كلماتهم اثناء حفل الافتتاح هذا الى تلك الوقائع.