23 ديسمبر، 2024 10:26 ص

قصة الديانة الفرعونية

قصة الديانة الفرعونية

عقائد الدولة الفرعونية
هيرودوت كتب (( انّ المصريين اكثر تقوى من سائر البشر … ويهتمّون كل الاهتمام بالشعائر المقدّسة … )) ، ومع ذلك لم تكن عقائدهم هي ذاتها في كل زمان ومكان ، بل تبدّلت في احيان كثيرة ، ولا أقلّ من التغيّر الذي تكشفه جهة توجيه الميّت عند دفنه التي تكشفها مقابرهم خلال عصور متعددة ، حيث كانت اجساد بعض الموتى المصريين باتجاه الغرب ، والبعض الاخر بالاتجاه الشمالي او الشمالي الشرقي ، مما يعني التبدّل في قناعاتهم في موضوع باهمية مصائر الموتى الذي يشغل الانسان دائما . لكن يمكن لذلك ان يكون تنوّعا مناطقيا في العقائد ايضا ، وليس زمانيا ربّما ، حيث اختلفت اتجاهات الدفن باختلاف المقابر .
لقد تم العثور على مجموعة من الرسوم والنقوش التي تعود لعصور ما قبل التاريخ المصرية – السابقة على عصر الأسرات الأوّل – توّثق مجموعة من المعارك والحوادث التي تشارك فيها كائنات مثل العقرب وطائر أبيس والصقر وابن آوى ، وهي التي نقل التاريخ المكتوب تقديسها وتأليهها في مجمل الحضارة المصرية اللاحقة . كما تضمّنت تلك المكتشفات وجوداً للاله ( مين ) .
انّ العقل المعاصر يقرأ تلك الرموز بنحو من الأسطورة الحاكية عن سذاجة تلك الشعوب الاولى ، لكنّ هذه القراءة المتأخرة لا تكشف السبب الواقعي لتقديس تلك المظاهر الحيوانية لاحقا ، وبتركيز ومواظبة ، من قبل حضارة كبيرة ومتمدنة كالحضارة المصرية ، كما انها لا تفسّر وجود هذه الكائنات في منقوشات هدم قلاع المدن واحتلالها ، وربّما لم يُرِد الناقش للحجر الفهم المعاصر للباحثين الغربيين ، بل أراد قول شيء آخر تماما .
كما حملت المنقوشات التي يُرجّح انها تنقل احداث توحيد مصر العليا ومصر السفلى على يد الملك ( مينا ) رسومات لابن آوى والصقور ، وفيها ايضا الاله ( خنسو ) ، احد أعمدة ثالوث طيبة . ومن غير المفهوم استمرار واصرار المصريين على توثيق وجود الآلهة – الحيوانية الوجوه في الغالب رغم بشرية بعضها – ضمن معاركهم وحوادثهم الكبرى ، خصوصاً تلك المرتبطة بوجود الملك .
كانت الكثير من هذه الآلهة تفقد حجمها بمرور الزمن امام اله صاعد جديد ، او ربما يتم دمج الهين في اله واحد ، وأحياناً تكون هناك الآلهة الكبرى الحاكمة على مجموعة الأقاليم المصرية فيما تنتشر أيضاً مجاميع من الآلهة الصغيرة المساعدة ، والملفت انها تعمل بانسيابية مثيرة ضمن المنظومة الكبرى للآلهة .
ربّما كان العجل الذي حمل اسم ( أبيس ) او ( مرور ) و ( العجل الأبيض ) و( العجل الأسود العظيم ) من اهم الآلهة الواضحة التقديس في عصور الدولة المصرية القديمة ، وكانت له مجموعة من الكهنة والخدم ، فيما ارتبطت الآلهة ( حتحور ) بصورة البقرة ، رغم بشريتها .
فيما كان الكبش من الصور الملفتة للآلهة الاولى للمصريين ، وقد مُثّلت من خلاله الآلهة ( آمون رع ) و ( حرشف ) و ( خنوم ) . انّ العامل المشترك في الآلهة ( الكبش ) هو ارتباطها بعملية الخلق ، حيث حملت بعضها لقب ( خالق البشر ) وبعضها ( ابو الآلهة ) .
كما كانت المسّلات – وهي أعمدة طويلة نسبيا – تحمل قدسية خاصة لدى قدامى المصريين ، استمرت لاحقا ، وقد وجدت مجموعة كبيرة منها مثل أعمدة ( ايونو ) و ( بنبن ) و ( جد ) . ورغم انّ الباحثين الآثاريين عاجزون عن تفسير أصل قداستها الا انّ المصريين ربطوها بشكل غامض بالآلهة ذاتها ، كما في عمود مدينة القوصية الذي ارتبط بالآلهة ( حتحور ) . والذي أراه مناسباً انّ هذه الأعمدة لم تكن هي بذاتها مقدسة ، بل كانت عبارة عن وسائل مفترضة للتواصل مع الآلهة ، لذلك أخذت قدسيتها من قدسية علم الآلهة ذاته .
والصولجانات اليدوية كانت مشابهة لقدسيتها – كواسطة لعبور قوى الآلهة – بحال المسلّات ، فكان هناك مثلاً الصولجان ( سخم ) ، الذي يعني ( القوة ) ، وكان يرمز للسلطة وقوة الآلهة . وقد كان للآلهة ذاتها صولجانات ، لا نعرف مغزى واضح لحملها من قبلها مع كونها آلهة لا تحتاج في فعلها للصولجان ، لكن يبدو انّ هناك تفسيراً مصرياً لم يصلنا حول حقيقة استخدامها في العالمين البشري والخارق . وقد ارتبط احد هذه الصولجانات بالإله الكبير ( اوزيريس ) ، مما يعني عناية خاصة لهذا الصولجان .
لكن الامر الأكثر اثارة فهو ورود مصطلح ( دواور ) الذي ترجمه بعض الغربيين بمعنى ( المنتمي العظيم للفجر ) ، لكنّه اليوم يُترجم – بكلّ بساطة ووضوح – الى كلمة ( متنوّر ) ، ومنه طائفة ( المتنوّرين ) المنتشرة في عالمنا . وقد ارتبط المصطلح باحتفالات مقدّسة غامضة ، كما في عصر الملك ( جت ) ، كان المتنوّر فيها يضع ( لحية ) صناعية .

 

 

نظرية الخلق والآلهة المصرية

يبدو انّ المصريين القدماء كانوا يعتقدون بعقيدة التوحيد ذاتها التي اعتقد بها الانسان السومري الاول ، حيث ( نُون ) ، ( القديم ) ، ( اللانهائي ) ، ( العمق العظيم ) ، والوصفان الأخيران ليسا الا بمعنى ( السرمدي ) ، وهو ذات المعنى المستخدم لوصف الاله الإبراهيمي . وهنا من الغريب إدِّعاء باحث مثل ( ياروسلاف تشيرني ) انّ ذلك يعني إيمان قدماء المصريين بالفوضى ! .
و ( آتوم ) عنى به المصريون القدماء ( الكامل ، المطلق ، الموجود بذاته ، الأزلي ، الأقدم ، المتفرد ، الأوحد ) ، وربما يكون هو ذاته المخلوق الاول ل ( نُون ) ، لكن نجد انّ هذا التقريب بين المصطلحين يكون بعيداً عن ذهنية الباحث الغربي في الغالب ، لافتقاده للخلفية الفلسفية الشرقية العميقة . ثمّ أوجد ( أتوم ) – بنفخة منه – ( شو ) و ( وتفنوت ) ، وهما وصفان للطبيعة بحسب الباحثين ، وان حملهما الباحثون الغربيون – كالعادة – على محمل الآلهة . وهذا الإشكال في الحمل الخاطئ قد عانت منه الترجمات الغربية للعقائد السومرية ايضا ، كما صوّروا كلمة ( دنجير ) بمعنى الاله ، فيما لم يقصد بها السومريون سوى القداسة . وهذا الاشكال ناتج عن الخلفية الوثنية او المادية للمجتمعات الغربية . لكن يبقى هناك احتمال كبير ان يكون ( شو ) أيضاً مظهراً آخراً ل ( نُون ) و ( أتوم ) ، حيث هو اسم التجليّ من خلال الآيات الطبيعية ، حين خلق السماوات والأرض وملأ ما بينهما بآياته ، لا سيما ان اللاهوت المصري وصف ( شو ) باللامرئي وأنّ الابصار لا تدركه . ومن الغريب ايضا ان يحيل الباحثون هذه المعاني الى الرؤية اللاهوتية التثليثية الاقانيمية للمسيحية الرومانية ، وجعلهما متطابقتين ! .
كانت هناك على الدوام في مصر آلهة رئيسة وآلهة ثانوية ، وكانتا يشكّلان منظومة واحدة ، وانا لا اذهب الى الفهم الذي نتج عن بعض الآثاريين لتفسير ظاهرة دمج الآلهة الثانوية بآلهة اكبر كنتيجة لصراع سياسي او مناطقي ، لأنّ الكثير من تلك الآلهة الثانوية ظلت مقدسة ومحترمة حتى لدى المنتصر والغالب ، إنَّما كان السلوك هذا لدى المصريين يقوم على أساس المعتقد المصري ذاته ، الذي يؤمن بوجود عالم اخر ، تسكنه كائنات خفيّة ، مترتبة بصورة طبقية ، لذلك كان فيها من هو ذو نفوذ في عالمه وبالتالي في عالمنا ايضا ، وكان هناك من هو أقلّ شأناً ، لكنّه كان قادرًا على التواصل مع مناطق محددة ، لا تهدد نفوذ الكائن ذي النفوذ ، وبالتالي ليس من الغريب ان يتم دمج هذه الآلهة والربط بينها .
ومن الطبيعي انّ الانحراف في الفكر الديني المصري بدأ ينتشر خلال فترات زمنية متباعدة ، كما هو الحال مع الانحراف في المجتمعات التوحيدية العراقية ، لكنّ شيئاً ظهر فجأ ذهب بالدِّين المصري بعيدا ، فانغمس كليًّا في منهج الظلموت . والواضح من الاستعراض التاريخي للعقائد في مصر انّ هناك تعمّداً في دمج نظرية الخلق الاولى – التوحيدية ربما – مع قصص وأساطير اخرى ، لخلط الأوراق وإشباع صور الشخصيات والحوادث فيها بألوان جديدة تناسب ذلك الظهور المفاجئ . وسيأتي لاحقاً بعض ملامح هذا الدمج ، وسيتبين لماذا نعتقد بذلك .
انّ النتيجة المباشرة لهذا الخلط العقائدي الغريب وتشوّه الأفكار بمرور الزمن هي ظهور مفهوم الآلهة المادية ، المرتبطة بالماورائيات ، ذات القدرات الخارقة ، يصحب ذلك الكثير من الطقوس والسلوكيات الناشئة عن تلك الاعتقادات ، والتي تتطور مع الزمن بنحو اكثر تعقيدا .
يمكننا تقسيم الآلهة المصرية في فترة الظلموت – التي اعقبت الفترة الشبيهة بالتوحيدية – الى مستويين ، آلهة رئيسة ، وآلهة ثانوية او محلية . وربما اندمجت الآلهة المحلية مع الرئيسة في فترة من الفترات لإنتاج اله جديد رئيس .
يمكننا القول انّ واحداً من اقدم الآلهة المصرية التي تعود لعصر ما قبل الأسرات هو الاله ( مين ) ، الذي يتم تصويره على شكل رجل منتصب يرتدي رداء ضيّقاً ويرفع احدى يديه بالسوط ويخفي الاخرى تحت ردائه .
من الآلهة الرئيسة ( آمون ) الخفي ، ومعبود الدولة الحديثة ، والذي يتم دمجه عادة بآلهة رئيسة اخرى ، و ( رع ) وهو اهم الآلهة المصرية وأشهرها ورئيس مجمعها التاسوعي ، والمسافر الدائم على مركب الآلهة ، الذين اندمجا لاحقاً في الاله ( آمون – رع ) . وهناك أيضاً الاله ( حورس ) البعيد ، الذي اشتهر في الأسطورة المصرية الكبرى ( اوزيريس وست وإيزيس ) كابن لاوزيريس وإيزيس ، والمنتقم من عمه ست . والإله ( اوزيريس ) حاكم عالم الموتى ، و الرمز الكبير لضحايا الحسد ، والذي قتله اخوه ست ، واراد أخذ زوجته ( اختهما معا ) . والإله ( بتاح ) رب الصناعات والفنون او خالقهما . والإله ( ست ) رمز الشر لانه قتل اخاه اوزيريس ، لكنه المقدس ضمن التاسوع الالهي .
وربما كانت هذه الآلهة تظهر في مناطق متعددة ، لتحمل عناوين متعددة ، رغم وحدة الظهور ، مثل ظهور ( ست ) بصورة ( آشو ) . وأحيانا يكون الاله هو ابن لأحد الآلهة الكبار ، فيأخذ أهميته من ذلك البعد النسبي والقوة التي يملكها ايضا ، كما هو الاله ( أنوبيس ) .
او انّ الآلهة تكون زوجة لأحد الآلهة ، وهي ذاتها تكون مهمة ايضا ، كالآلهة ( إيزيس ) ، زوجة الاله ( اوزيريس ) ، وأم الاله ( حورس ) ، والتي انتشرت عبادتها في أوربا بصورة كبيرة في العهد اليوناني الروماني .
وهناك ما ارى انها عناوين لقوى مقدسة ، لا انها اسماء لآلهة ، وهذا ما تحويه الهالة التقديسية الخاصة بها كالعنوان ( سخمت ) ، والعنوان ( أبيس ) ، و ( سرقت ) ، و ( سكر/ سوكر ) ، و ( يوسعاس ) ، ربما كانت وسائط عمل الآلهة بايّ صورة كانت ، وربما هي مجموعة من الآلهة الفرعية العاملة تحت نظر الآلهة الكبرى . وهناك احتمال اخر أتبناه ان تكون هذه العناوين تشير الى وسائل تكنولوجية ، أُستخدمت من قبل هذه الآلهة المفترضة ، مما ابهر المصريين ونفعهم ايضا .
او تكون تلك الآلهة في الواقع ليست سوى بشر مقدّس لدى المصريين ، كانت له إنجازات او خوارق ، او ربما اخطأ الباحثون في ترجمة رؤية المصريين لقدسيته ، كما هو الاله ( إيمحتب ) ، الذي كان مهندساً معمارياً للملك ( زوسر ) . وعلى هذا الواقع يمكن احتمال وجود اله بشري اخر هو ( ددون ) ، الشاب الصعيدي الذي يحمل البخور .
وبعض الآلهة كان يوصف بانه رسول الآلهة كالاله ( تحوت ) ، مما يعني انه ليس إلهاً بالمعنى الفلسفي ، ومع ذلك تم وصفه بانه رب الكتابة ، وهذا ما يشير الى معنى اخر يرتبط بتكنولوجيا تواصل الآلهة مع المصريين ، لا سيما انه ارتبط بالقمر ، وبه ارتبطت الآلهة ( سشات ) آلهة المعرفة والكتابة . ويشبه ( تحوت ) اله اخر هو ( خنسو ) ، او ( الهائم على وجهه ) كما ترجمه المتخصصون ، والذي لا يعني اكثر من ( المسافر ) بلغتنا الحديثة ، وعلاقته دائمة مع ( آمون ) وحركته ، وتم ربطه بالقمر ايضا ، مما يعني انّ الآلهة الرسولية او الناقلة كان يتم الإشارة اليها برمز القمر ، او الشمس كما حدث مع الاله الكبير ( رع ) .
وأحيانا لم تكن تلك الآلهة المفترضة سوى وصف لحالة مكانية او زمانية ، ارتبطت لدى المصريين بمعاني بُعدية محددة ، كالاله ( جب ) اله الارض ، والآلهة ( نوت ) آلهة السماء ، الذين اعتبر الباحثون انّ المصريين قالوا بزواجهما ، وهو امر مستبعد اذا فكّرنا بعقل المصري ذاته ، لكن ربما كان المصريون يعتقدون بارتباط هاتين الحالتين بعلاقة ما ، منتجة لعلاقات اخرى .
وقد نفهم بعض تلك الآلهة على نحو مخالف لما هو شائع ، كالآلة ( حتحور ) ، التي تعني ( بيت / مقر حورس ) ، والتي اعتبرها بعض الباحثين زوجته ، فيما ترجمة اسمها قد تعني وسيلة انتقاله ، او مقر قيادته فقط ، خصوصاً انها ذاتها تُسمى ( عين رع ) ، وأنها القوة التي دمّرت اعدائه .
وبعض تلك الآلهة ليست الا مسميات لحالات تواصل الآلهة وأوامرها ، كالآلهة ( حكا ) و ( حو ) و ( سيا ) ، التي تصاحب مركب الاله ، وتعبّر عن حالات مثل النطق والسحر ، والأخير ربما ليس اكثر من وصف لتقنيات تلك الآلهة .
أمّا اله مثل ( خنوم ) فيبدو محيراً للباحث ، حيث يعني اسمه ( الخالق ) ، وفي ظلّ وجود آلهة خالقة ك ( نُون ) و ( أتوم ) و ( شو ) يكون وجوده مستقلّاً أمراً غير مستساغ و غير متوافق مع المنطق العقلي ، لذلك يمكن ان يكون وصفاً آخراً لإله اخر . وعلى ذلك نحمل الثنائي الاخر في ثالوث ( خنوم ) المتمثل بالالهتين ( ساتت ) و ( عنقت ) .
فيما هناك آلهة مستوردة ووافدة من اسيا او غيرها ، كالالهة ( رشبو ) و ( بعل ) و ( سبد ) و ( عشتارت ) و ( عنات ) و ( قادش ) . وآلهة اخرى ارتبطت بمعاني الزمن او المواسم ، مثل الآلهة ( رنبت ) المرتبطة بالسنة ، والآلهة ( رننوت ) المرتبطة بالقدر ، ويشابهها الاله ( شاي ) ، والآلهة ( رننوتت ) المرتبطة بالحصاد .
وكانت هناك أيضاً آلهة لوصف فلسفة النظام الكوني ، وتثبيت العدالة والحق والنظام كمقدس حاكم على الوجود الكوني والتشريعي ، مثل الآلهة ( ماعت ) ، التي تصف الأساس الذي خُلق عليه العالم .
انّ ارتباط آلهة مثل ( رع ) وهو اله رئيس مسافر دائماً مع آلهة اخرى تجسيدية رمزية مثل ( حكا ) التي ترمز للسحر – او الفيزياء بالمصطلح الحديث – و ( سيا ) التي تشير للذكاء والمعرفة و ( حو ) التي تجسّد الأوامر الصوتية للاله يعطي معنى اخر لفهم حقيقة الآلهة الفرعونية ، ويدفعنا بعيداً عن الفهم المُتكلَّف والساذج للباحثين الغربيين . فهنا يبدو واضحاً ان المصريين كانوا يتحدثون عن ظواهر ذكية ابهرتهم ، ويصفون مظاهرها بمصطلحات عديدة .
وكانت هناك آلهة من نوع خاص ، احتفظت بهيبة ناتجة عن خوف المصريين منها ، مثل الاله ( مونتو ) اله الحرب وحامي الملك ، والإله ( نحب كاو ) الذي يتم تصويره كثعبان برأسين وجسد بشري ، يرافق الاله ( رع ) في قاربه كحارس له . وكذلك هناك الآلهة المرعبة ( نيت ) ، وهي حامية للملك ايضا ، واحدى بنات ( رع ) . ومن آلهات السحر ( ورت حكاو ) .
ولعلّ الملفت في تصوير النقوش المصرية للآلهة تعدد مظاهرها وغلبة الصفة الحيوانية عليها . لقد استخدم المصريون أشكال العجل والثعبان وابن اوى وطائر إبيس والصقر والاسد وغيرها كثير ، وكذلك استخدموا الشمس والنجوم والقمر .
لكن الملفت هو ظهور الآلهة بصورة هجينة ، تجمع بين رأس حيواني وجسد بشري ، وليس من الواضح الحكمة من ذلك اذا اعتمدنا الفهم العام المتداول لتفسير اعتقادات وأساطير الشعوب ، لكنّ الأخذ بما يُنقل عن ظهور كائنات بهذه الصورة الهجينة للعاملين بالسحر في عصرنا الحالي يعطي تفسيراً اكثر وضوحا .
وكذلك يلفّ الغموض انتشار رمزية ( قرص الشمس ) فوق رؤوس الآلهة ، واستخدام القبعات الطويلة او ذات القرون من قبل اغلب الآلهة ، فتلك التفسيرات الاحتمالية المتداولة – بحسب ما اطلعت عليه – ليست الا فهمًا معاصراً لسلوك قديم له فلسفته الخاصة .

 

 

الآلهة البشرية والحضارة القابيلية

اذا اعتبرنا اتفاقاً مع المنهج الفلسفي العقلي انّ الاله ( نُون ) هو الذي أفاض الحياة وكان وجوداً متفرداً ، سيكون لزاماً علينا اعتبار ( أتوم ) هو المخلوق الاول ، الذي ظهر على التل الأزلي ( تاتنن ) . ومن ( أتوم ) ظهرت باقي الآلهة او المخلوقات . انّ هذا المعنى يقابله في الخطّ الديني الرسولي العام المخلوق الاول ( آدم ) . وقد ربط بعض الباحثين بينهما فعلاً كما ذكر ياروسلاف تشيرني ، باعتبار انّ ( آتوم ) هو لهجة مصرية عن ( آدم ) ، وكذلك اسم ( آتوم ) في اللغة المصرية القديمة أخذ معنى ( الكامل ) ، وربما هو ما يشير الى فكرة الاصطفاء التي جائت في القران الكريم لآدم واختياره (( انّ اللَّهَ اصطفى آدم )) ، وهو كذلك يشير الى معنى وجود انواع اخرى من البشر أقلّ اكتمالا من آدم ، لذلك تمّ اختياره دونهم لاصطفائه بالرسالة الإصلاحية واستعمار الارض ، وتم زقّه بالعلوم والمعرفة ، فكان هو مصدر الفيض المعلوماتي لبني الانسان ، فربطته الأسطورة المصرية بالإله مباشرة .
وقد وصفت الادبيات المصرية القديمة ( آتوم ) بالاوحد والأقدم والذي أتى الى الوجود بنفسه ، كذلك أطلقت عليه ( سيد الجميع ) . وفي تاسوع ( هليوبولس – منف ) كان ( آتوم ) هو اللسان والقلب ، حيث كانت بداية الخلق من اللسان والقلب ، ومظهر ذلك الخلق كان الإلهين ( حورس ) و ( تحوت ) . وأنّ ( آتوم ) كان هو من نطق الأسماء الاولى للاشياء . وهذا المعنى الأخير ورد في النص القراني كذلك (( وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِى بِأَسْمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ )) .
انّ ( تحوت ) الذي هو مظهر من مظاهر ( آتوم ) يقابله في الادبيات الإبراهيمية ( إدريس ) عليه السلام ، حيث أعطت الأساطير المصرية له ذات الخصائص التي تم اعطائها لإدريس في العقيدة الإبراهيمية . لقد جاء في المصريات القديمة انّ ( تحوت ) كان اله ( الحكمة والمعرفة ) و ( العارف ) و ( المتمرس بالمعرفة ) ، كما وصفته ب ( سيد السحر ) و ( المجلل بالأسرار ) ، وهذان الوصفان الأخيران ربما كانا تلخيصاً للعلوم التي زقّها ادريس في عصره دون ان يكون لها سابق فاخذت معنى غامضا . كما وصفت الأسطورة المصرية ( تحوت ) بانه مخترع الكتابة وواضع القوانين وكذلك الناموس التقليدي للكتب المقدسة . انّ هذا الوصف لتحوت قابله في النص الإبراهيمي الوصف الخاص بإدريس ، حيث جاء ما مضمونه ( انّ ادريس اولّ مَن خطَّ بالقلم ) ، كما نقل صاحب بحار الأنوار ، الذي أضاف انّ اليونان يسمونه ( هرمس الحكيم ) ، وما يؤيد كلام صاحب البحار انّ الإغريق أطلقوا اسم ألههم على مدينة ( الاشمونين ) التي تمّ فيها تقديس ( تحوت ) فسمّوها ( هرموبوليس ) . وقد وجدتُ شخصيا لهرمس كتاباً فيه حكمته وعقيدته وفلسفته ، حيث أخذت أثراً من عقائد الماضين على مختلف اصقاعهم كما آورد صاحب كتاب ( متون هرمس ) . كما أشار صاحب بحار الأنوار – ومصادر اخرى – انّ اسم ادريس أيضاً ( اخنوخ ) ، وقد وجدتُ لاخنوخ قصصا وأساطير في عقائد تاريخية عديدة . وينقل العلامة المجلسي عن السيد ابن طاووس انه قال : ( وجدت في كتاب مفرد في وقف المشهد المسمى بالطاهر بالكوفة عليه مكتوب ( سنن ادريس ) عليه السلام وهو بخط عيسى نقله من السرياني الى العربي عن ابراهيم بن هلال الصابئ الكاتب … ) . وجاء ايضا ( مسجد السهلة بيت ادريس عليه السلام الذي كان يخيط فيه ) .
ومن ملاحظة هذه الإيرادات جميعا نستشف وجه تقديس ادريس عليه السلام – بمختلف مسمياته – لدى شعوب الارض ، فهو من علّمهم الخط ، وكذلك من زقّ المعرفة والعلوم . ويمكننا بعد ذلك حلّ الإشكال التاريخي بين مصر والعراق حول الذي كتب الحرف الاول ، فكلا الشعبين يريان انّ ( ادريس / تحوت / هرمس / اخنوخ ) هو من فعل ذلك .
ومن قصة تحوت يمكننا ان نلج الى ما يدعم الرأي القائل بأنّ ( آتوم ) هو ذاته ( آدم ) حيث التشابه العجيب بين قصة ابني آدم التي أوردتها الأديان الإبراهيمية وبين أسطورة اوزيريس وست الإلهية المصرية . فقد ورد في القران الكريم ((۞ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًۭا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلْءَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ )) . فيما جاء في أسطورة ( اوزيريس وإيزيس ) المصرية ما مضمونه ( انّ اوزيريس كان يحكم في سالف الزمان على الارض ، ونشر في أرجائها أعماله الخيرة ، لكن شقيقه ست دبّر له مؤامرة واغتاله خلسة . وبعد ذلك جمعت اختاه إيزيس ونفتيس اشلائه من المواقع التي وجدت فيها ، واستطاع ان يُمنح قوة التناسل بمفعول السحر الذي برعت فيه إيزيس . وكان من نتائج هذا السحر ان حملت منه إيزيس وانجبت له ابنهما الاله حورس ، الذي هربت به خوفاً من عمه الاله ست وشروره . حتى كبر وأصبح قوياً كفاية ، فانتقم لأبيه بمساعدة أمه ، فحكم مكانه . وقد خاض حورس مع عمه معارك عنيفة جداً ) .
انّ الأصل المشترك للقصتين يمكن فهمه من معرفة انّ الوسيط الذي أنهى هذا الصراع الكبير هو الاله ( تحوت / ادريس ) ، بحكمته عمد الى تهدئة النزاع بين الإلهين المتقاتلين ( حورس وست ) ، وهو كذلك من شافى عين حورس لتعود بارئة .
ولفهم اكبر يمكننا تلخيص مجمل القصة بالمعنى الذي أورده السيد سامي البدري – ذلك الباحث الفذ – عن نشوء الحضارة القابيلية قبالة الحضارة الآدمية الشيتية . حيث انّ ( قابيل ) و ( شيت ) في الموروث الإبراهيمي هما ابنا آدم ابي البشر ، وقد كان قابيل ( يقابل ست في الموروث المصري ) قد قام بقتل أخيه هابيل ( يقابل اوزيريس ) ، وكان شيت الابن الاخر لآدم ، والذي يقابله في الأسطورة المصرية ( حورس ) . انّ قابيل بعد قتله لاخيه لم يعد له مكان في الجماعة الصالحة الآدمية ، لذلك انتقل لتأسيس جماعة خاصة به ، وهو على كونه ابناً لآدم وقد أخذ من علومه لكنّه حمل بذرة الانحراف بعد مقتل أخيه ، الذي أنشئه الحسد والأنانية ، فكان من المنطقي قيام حضارة قابيلية تجمع بين مظاهر التوحيد الآدمية وبين نتائج الانحراف النفسية لقابيل ، فبدأت أولى الحضارات المنحرفة العقيدة . وقد كانت هذه الفرصة ذهبية لاختراق عالم الادميين من قبل حضارات وجماعات اخرى ظاهرة او خفية ، متقدمة علمياً او بدائية ، فبدأ قيام الحضارة الدينية العكسية ، التي تجمع بين الموروث القابيلي والموروث البدائي والموروث غير البشري ، فكان ما أنتجته خليطاً عجيباً وملوثاً ، ومن الطبيعي ظهور الطقوس المبتدعة والصفات المغلوطة للاله . في المقابل كانت هناك الحضارة النقية الآدمية التي يقودها شيت ، والتي ارادت دفع الحضارة القابيلية بعيداً للوقاية من شرورها ، فنشأ الصراع الحضاري الكبير والعنيف بينهما ، حيث ارادت الحضارة القابيلية أيضاً السيطرة وفرض معتقداتها ، وطمس الجرح الكبير في مسيرة الادميين الذي أوجدته فعلة قابيل بقتل أخيه . وقد استمرّ الصراع كما يبدو طويلاً ، وبصورة عنيفة ، حتى ظهر ( ادريس ) وعمل على إيقافه وتهدئة قادته ، من خلال حكمته ، ولأنه كان يحمل هدفاً أسمى في توحيد البشرية وتهذيبها ، لذلك تجاوز قساوة المجتمع القابيلي ، رغم انه شخصياً كان جزءاً من المجتمع الشيتي الآدمي . وقد جاء في الأسطورة المصرية انّ تحوت كان كاتب الآلهة الذي يستشيرها في الحكم بين المتصارعين على العرش ، لكنّه كان ينحاز دائماً الى جانب الحق حيث ( حورس ) . وَمِمَّا يؤيد هذا الاختيار انّ ( الهكسوس ) – وهم من أصل عراقي – وحّدوا بين ( ست ) وإلههم ( سوتخ ) ، حيث أقاموا له المقابر في مدينة ( اواريس ) ، وصاروا يستخدمون الاسمين للدلالة على مقصود واحد .
انّ الرؤية الدينية الإبراهيمية تثبت دائماً وجود مخلوقات بُعدية في عوالم اخرى خفية ، لذلك حملت عنوان ( الجآن ) بمعنى المخفي او المراوغ ، يقودها كائن ذو قدرات خاصة اسمه ( ابليس ) ، ولقبه ( الشيطان ) ، وهو اول أعداء آدم بعد اصطفائه ، بسبب الانانية والحسد ايضا . لذلك كان من الطبيعي استغلال هذه المخلوقات للمجتمع القابيلي البدائي ، وفتح الصراع من جديد مع المجتمع الآدمي ، فكان هناك تبادل نفعي بين الحضارتين القابيلية والابليسية ، حيث قابيل يفتقد الى الدعم الذي حظي به المجتمع الآدمي سماوياً بعد انشقاقه وانسلاخه .
لكن كان من الطبيعي جداً ان تسعى الحضارة القابيلية لتحسين الصورة السيئة لمؤسسها ( قابيل ) وجعله محترماً كبقية اخوته ، لذلك تمّ ادخال ( قابيل / ست ) كاله في مجمع الآلهة المصرية ، وكذلك في مجامع آلهة لشعوب مختلفة اخرى ، بعد انتشار هذه الحضارة في عموم الارض ، من هنا كانت أسطورة ( اوزيريس وإيزيس وحورس وست ) نسخة معدّلة عن قصة ابني آدم الإبراهيمية ، لتحسين صورة ( قابيل / ست ) في الذاكرة البشرية .
انّ المجتمع المصري القديم ربما لا يشترك شكلاً مع المجتمع الآدمي العراقي – الملامح الشرق اوسطية – ، حيث تظهر المومياوات جنساً يجمع الى حد كبير من حيث الهيئة بين الميديترانية المتوسطية وبين النوبية الجنوبية ، قد أخذ المعرفة عن المجتمع الآدمي الشيتي ، او انه اختلط بالمجتمع القابيلي .

 

 

الوجه الآخر للآلهة

لقد اعتبرت الأسطورة المصرية انّ تل ( السكينتين ) هو المكان الذي ظهر عليه ( آتوم ) ، وبالتالي هو المكان الأزلي ، وهذا الاختيار لارض مرتفعة يظهر عليها المخلوق الاول يتطابق مع الرؤية الاسلامية الشيعية التي ترى انّ الظهور الاول لآدم كان على ارض هضبة النجف المرتفعة ، او ( جبل الكوفة ) .
لكنّ الأسطورة المصرية لاحقاً يبدو انها أدمجت أحداثاً اخرى في هذه القصة ، لتنتج مفاهيماً قابيلية ابليسية خاصة . فقد افترضت – حسب مصادر التاريخ الفرعوني – انّ هذا التل الأزلي يقع ضمن ( جزيرة اللهب ) ، وإطلاق هذا الوصف على الجزيرة يستدعي صوراً فريدة عند دمجه بالمعتقدات الاخرى للفراعنة ، حيث كان للمصريين تلالاً أزلية اخرى ، منها تلّ عين شمس الذي يعلوه حجر مخروطي كان بداية ظاهرة المسلّات الغريبة في الحضارة الفرعونية ، والتي تشترك فيها حضارات وثنية كثيرة حتى في اصقاع بعيدة جدا عن الارض الفرعونية ، وتتشابه هذه الظاهرة في وجودها مع ظاهرة الاهرامات .
وفي حين كانت الرواية الإبراهيمية لظهور آدم بسيطة ، كانت الرواية الفرعونية معقدة ، وترى انه ظهر للمرة الاولى على شكل طائر ( البنو Phoenix ) ، وهذه الصورة تذكّرنا بفكرة ظهور مخلوقات غريبة للسحرة والمتعاملين مع عوالم الجنّ . وَمِمَّا يلفت النظر انّ المصريين كان لهم مجموعة من التلال المشابهة في مجموعة من المدن ، مما يثير تساؤلات مهمة حول حقيقة إيجادها اذا كان التل الأزلي واحداً مرتبطاً بالظهور الاول للبشر ! .
القصة الاخرى الملفتة والتي يمكن دمجها مع قصة ( جزيرة اللهب ) هي معركة الاله ( رع حور اختي ) ، التي خاضها حين كان حاكماً على النوبة ضد مؤامرة حيكت ضده في مصر . انّ هذه المعركة لم تكن ضد البشر هذه المرة ، بل ضد مخلوقات مختلفة تم توصيفها بما يعني الأرواح الشريرة او الآلهة الأقل رتبة ، وهي بالمعنى الإبراهيمي تعني الجآن . وفيها استقلّ الملك ( رع حور اختي ) سفينته ، يرافقه ( حورس ) ، لكنّ حورس بعد الوصول لمصر اقلع طائراً من سفينة الملك باستخدام ( قرص الشمس ) ، مهاجماً اعدائه من السماء ، ملحقاً بهم الهزيمة حتى اضطروا الى الهروب . ثمّ يعود حورس الى سفينة الملك ، حيث يمنحه ( تحوت ) لقب ( حورس بحدتي ) . ثم يتفقد ( رع حور اختي ) ارض المعركة برفقة الآلهة الآسيوية ( عشتارت ) ، ولا نعلم سرّ وجود آلهة آسيوية في معركة عظيمة مفصلية في تاريخ الآلهة المصرية ، لكن الذي افهمه انّ هناك تحالفاً كان بين المنطقتين لمواجهة خطر كبير تعرضت له المنطقة هدد وجودهما . وقد ظهر لاحقاً انّ حورس لم يقضِ على الأعداء تماماً ، حيث عمد الفارّون منهم الى النزول الى الماء بشكل ( تماسيح وأفراس نهر ) ، مهاجمين سفينة ( رع حور اختي ) ، لكنّ معركة بالسلاح الأبيض نشبت بينهم ، قادها حورس ، انتهت بالقضاء عليهم ، بعد تسللهم الى السفينة . ثم اقلع حورس باستخدام قرص الشمس مرة اخرى ، ترافقه الآلهة ( نخبت ) التي تأخذ رمز النسر الحامي ، والآلهة ( وادجت ) التي تأخذ رمز الأفعى ، ليغيرا من جديد على الاراضي المصرية ويخضعاها لسلطة الملك ( رع حور اختي ) . لكن يتجدد القتال في ( تحل ) قرب الحدود الآسيوية ، وقائد المتآمرين كان ( ست ) ، الذي فرّ لاحقاً متخذاً شكل الثعبان ، مما يكشف انه استخدم ذات تقنيات الآلهة ( وادجت ) . لكنّ حورس هزم الجميع ، فقرر الملك مكافأته واتخاذ ( قرص الشمس ) كظاهرة مقدسة في جميع المعابد .
انني كإنسان معاصر أعيش تقنيات العصر الحديث سيتبادر الى ذهني عند قراءة احداث هذه المعركة تصوّر واحد لسفينة الاله الملك ( رع حور اختي ) و ( قرص الشمس ) للاله القائد ( حورس ) هو ( حاملات الطائرات ) ، وربما ذلك ما يُفسر انّ الأسطورة لم يرد فيها ذكر البشر ، حيث كانت الآلهة وَالْجِنُّ هما بطلاها حسب القصة المصرية القديمة .
انّ قصة معركة الطائرات هذه كان لها شبيه في عدة حضارات اخرى ، مثل الحضارة الهندية حيث معركة الآلهة الكبرى ( الفاميناس ) في ( حضارة راما ) كانت سماوية او فضائية ، وفي حضارة ألمايا القديمة كان هناك الاله او الملك ( بكال ) الذي استخدم ما يشبه الصاروخ لزيارة العالم الاخر ، حيث يظهر وهو يمسك بيديه لوحة تحكم ، فيما قدمه على كابس او شيء من هذا القبيل ، فيما في نهاية النقش ما يشبه فوهة لخروج اللهب ، والملفت للنظر انّ هذا الملك – الذي تقع حضارته في المكسيك اليوم – هو احد الذين بنوا هرماً شبيهاً لأهرام فراعنة مصر .
يرى بعض الباحثين في المصريات مثل ( تشيرني ) أصلاً حقيقياً لهذه الأساطير ، بسبب الصراع بين اتباع حورس واتباع ست ، وربما يكون ذلك مقبولاً الى حد ما ، لكنّه يخالف تصوّرنا المعاصر عن بدائية العالم القديم ، كما اننا لا نملك تفسيراً واضحاً لهذه الأساطير الضخمة ، ولا يمكننا أيضاً ان ننفي حقيقة وجودها بعشوائية ومزاجية . لكنّ الامر الأهم هو وجود التقنيات القتالية الضخمة لدى تلك الحضارات ، ودخول حضارات غير بشرية في القتال ، ودموية تلك المعارك وشراستها ، مما يكشف عن انهيار سكّاني واقتصادي رافق كل ذلك . وقد نقلت أسطورة اخرى هي أسطورة ( دمار البشر ) كيف انّ الآلهة غضبت على البشر بسبب أعمالهم السيئة ، وارادت تدميرهم ، لكنها لاحقاً عفت عنهم وحاولت استنقاذهم .
وقد كان المصريون يعتقدون بوجود عوالم اخرى ، مثل عالم ( دِت Det ) ، وأنّ هناك مخلوقات ترافق الآلهة وتحظى بقوى خارقة خاصة . لكنّ المصريين كانوا يعتقدون انّ الملك وحده هو من يستطيع التواصل مع الآلهة ، باعتباره ابناً لها ، لذلك كانت المنقوشات الاولى تظهره وحده من يبتهل الى الآلهة . ويبدو انّ سلسلة من الملوك احتفظوا بأسرار مهمة تتعلق بعلم التواصل مع العوالم الاخرى ، استطاعوا من خلالها التأثير في الناس ، وربما من خلال اتفاقيات سبقت هزيمة المخلوقات التي شاركت في المعارك الكبرى السابقة ، تضمنت خضوعهم لارادة تلك الحضارات غير البشرية مقابل انتفاعهم بتقنيات خاصة تنتجها تلك الحضارات ، اثبتت فاعليتها في خضمّ الصراع . وربما لم يكن جمهور الناس متقبّلاً لفكرة التعامل مع المخلوقات التي كانت تحارب ضد حورس وتحوت ، لذلك احتفظ الملوك بأسرارهم ، وحاولوا الظهور بصورة اكثر نفعاً للناس . لكن مع مرور الزمن ومع ازدياد الاضطراب الفكري تغلغلت عقائد هؤلاء الملوك في الناس ، وبدأت تظهر قدرة عامة للتعامل مع تلك المخلوقات ، التي أخذت صبغة وعنوان الآلهة ، في فلسفة دينية جديدة مخترعة ومبتدعة . لذلك يظهر في المنقوشات الاثرية اللاحقة انّ العامة من الناس يبتهلون الى الآلهة ، وليس الملوك وحدهم . ثمّ ظهرت رسومات الآلهة ( القزمة ) ، التي هي مجموعة من الكائنات التي تتصف بصفات القزم ( القزم ذو الوجه الكبير والظهر الطويل والعجز القصير ) كما جاء في الأساطير اللاحقة ، مثل الآلهة ( بس ) و ( عحا ) و ( توريس ) ، لكنّ هذه الآلهة الاقزام كانت مع ذلك تستطيع ان تصل الى السماء ! . (( يَٰبَنِى ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَآ ۗ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ )) .
وقد وردت رسومات ( القرين ) في الكثير من النقوش المصرية ، وهي فكرة متكررة وثابتة في العقيدة المصرية ، كما في منقوشة الاله ( حكاو ) والملك ( أمنحوتب الثالث ) ، ولا نعرف المعنى الذي قصده المصريون من القرين ، وهل هو ذاته المعنى الذي ذكره القران الكريم (( قَالَ قَرِينُهُۥ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُۥ وَلَٰكِن كَانَ فِى ضَلَٰلٍۭ بَعِيدٍۢ )) و (( قَالَ قَآئِلٌۭ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌۭ )) و (( وَقَالَ قَرِينُهُۥ هَٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ )) و (( حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ )) ، حيث يبدو انّ للسلوك البشري حاكمية على هذا الاختيار للقرين كما في (( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَٰنًۭا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌۭ )) و (( وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًۭا فَسَآءَ قَرِينًۭا )) .
الأديان الإبراهيمية عموماً متفقة على وجود مخلوقات غير الانسان ، لكنّها خفية ( جآنّ ) . فقد ورد في القران الكريم سورة كاملة باسمهم ، ومنها يتضح انهم كائنات عاقلة مكلّفة ، تعيش ذات التساؤلات التي نعيشها ، وتهتم لقضايا كثيرة نهتم لها . لكن من هذه السورة التي فيها (( بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌۭ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓا۟ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًۭا [الجزء: ٢٩ | الجن (٧٢)| الآية: ١] )) نعرف انّ لهذه الكائنات القدرة على الاستماع لعالمنا ، ومن خلالها نعرف انهم تواصلوا مع عالمنا باستمرار .
لكن مع ضرورة ان ندرك انّ هناك مخلوقات اخرى خلقها الله كما نصّت الأديان الإبراهيمية ، وهم الملائكة ، الذين هم غير الجنّ هيئة وتكليفا . حيث هم الذين جعلهم الله قوانين تتحكم في مجريات الكون ، وربط وجودهم بالعرش ، والعرش هو أصل كل شيء إنار بنور الله .
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ( إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر، منه احمرت الحمرة، ونور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أبيض منه [ابيض] البياض، وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء، وهو حياة كل شيء ونور كل شيء، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ) .
والعرش هو المقترن بتدبير الامر ، حيث يقول تعالى ( ان ربكم الله الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والارضَ في ستةِ ايامٍ ثمّ استوى على العرش يُدبّرُ الامرَ ) . وقرن الله تعالى عمل الملائكة بتدبير الامر ، وقد أشار جلّ جلاله الى ذلك حين قال ( فالمقسمات أمرا ) ، حيث قال صاحب تفسير ( الميزان ( وقوله : ( فالمقسمات أمرا ) عطف على ما سبقه وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فان امر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الامر وتقسم بتقسمهم ثم اذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا حتى ينتهي الى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها ) . ويمكن ادراج قوله تعالى ( فالمدبرات أمرا ) في هذا المعنى ، حيث ذكر صاحب الميزان انها في الملائكة ايضا ، ( تَنَزَّل الملائكة والروح فيها باْذن ربهم من كلّ امر ) . وَمِمَّا يؤيد هذا الدور العملي في الخلق للملائكة ان الله تعالى جعل انقضاء الامر مقرونا بهم ، حيث قال تعالى ( ما نُنزّلُ الملائكةَ الا بالحقِّ وما كانوا إذاً مُنظَرين ) ، و قال ايضا جلّ شأنه ( يوم يَرَوْن الملائكةَ لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ) ، و ( ويوم تشقق السماءُ بالغمام ونُزّلَ الملائكةُ تنزيلا ) ، و ( هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمامِ والملائكةُ وقُضِيَ الامر والى الله تُرجعُ الأمور ) .
ومن لطيف التعبير القراني عن عمل الملائكة هو قوله تعالى ( له مُعقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله إِنّ اللَّهَ لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد اللهُ بقومٍ سوءاً فلا مَردّ له وما لهم من دونه من وال ) ، حيث جمعت الآية ما نريد من كون الملائكة يعملون كقوانين تحفظ الانسان من الأوامر الكونية لله ، طالما ارتبطت نفس الانسان بأولئك الملائكة ، لكنه حين يقطع ارتباطه بهم – بمعاصيه وخروجه عن حقلهم الإيجابي – يخلّون بينه وبين تلك الأوامر الكونية .
وحين نعلم من اثار الباحثين – مثل احمد سوسة وجرجي زيدان والأستاذ كنغ والمؤرخ ماسبرو – انّ المصريين هم حصيلة لخليط من مجتمعين احدهما ساميّ هاجر الى مصر بحدود الألف الرابع قبل الميلاد يصبح القول بأصل توحيدي للعقائد المصرية أمراً منطقيا ، وتكون هذه الأساطير وليدة الحضارة الآدمية العراقية بدرجة كبيرة من القبول . ويرى الأستاذ L.W.King انّ الساميين الذين هاجروا بحدود الألف الرابع قبل الميلاد هم من نقل مصر الى العصر الحديدي ، الذي عرفوا فيه الاَلات واستخداماتها .

 

 

السحر شفرة الفراعنة

يشير بعض الباحثين الى انّ مفردة ( ديانة ) لم تكن متميزة في المجتمع المصري ، وانّ كلمة ( حكا hike ) التي تعني ( القوى السحرية ) هي الأقرب لهذا المفهوم في ذلك المجتمع . وكانت هذه القوى مقتصرة في الأدب المصري القديم على الآلهة والملك الحي ، لكن نلاحظ انها في الدولة الوسطى أصبحت اكثر سرياناً في المجتمع العام ، مما يعني انّ تعاليم الشفرات السحرية صارت متداولة ومتفشية ومقبولة ، وذلك يستتبع انّ العقيدة التي تستند اليها انتشرت أيضاً كدين عام للدولة ، من خلال ازاحة العقائد الأقرب للديانة العراقية .
لقد تضمنت نصوص الاهرامات في الدولة القديمة ونصوص الأموات في الدولة الوسطى وكتاب الموتى في الدولة الحديثة الكثير من التعاويذ والتراتيل السحرية ، التي كان هدفها التواصل مع الآلهة لحماية الميّت في رحلته ضمن العالم الاخر ، رغم انها كانت في الأصل مكتوبة لحماية ونفع الأحياء .
وقد اعتقد المصريون انّ الآلهة تمتلك قوى خارقة ، يشاركها الملك في ذلك نتيجة لمعرفته بعالم الأسرار الماورائية . لكنّهم اعتقدوا لاحقاً انّ المتعلّمين لهذه العلوم يمكنهم تسخير قوى الآلهة لصالحهم حين يمتلكون قدرات معرفية اعلى من الآلهة المقصودة ، لذلك رأوْا انّ الاله سوف يكون مسخّراً لخدمة الساحر الذي يمتلك تلك المعرفة الباطنية .
والمصريون اعتقدوا تماماً بوجود عالم اخر ، غير منظور ، وله وجود حقيقي ، وهو فوق عالمنا الطبيعي في قدراته ، ورأوا انّ التراتيل السحرية لها تأثير كبير في العالمين الطبيعي والماورائي . وآمنوا انّ ( الكلمة ) هو جوهر السحر ، وأنها تؤثر فيما تُطلق عليه ، لذلك كانوا يختارون الأسماء بعناية ، ويحذرون من نطق الكلمات التي يعتقدون بأنها تجلب اللعنة .
لكن الملفت انهم في كثير من نقوشاتهم المهمة جمعوا بين ( حكا ) التي هي الشفرة السحرية وبين ( ماعت ) التي هي نواميس الكون وقوانينه ، في إشارة مهمة جداً تدلّ على الترابط الوثيق بينهما ، وهذا يعني – كما اعتقدتُ دائما – انّ السحر كان في نظر المصريين تصرّف بفيزياء الكون ، لولوج العوالم الاخرى ، والتأثير في مجريات الحوادث ، وليس هوى ميتافيزيقيا أسطورية .
ورغم انّ السحر تحوّل الى طقس من طقوس العبادة في الديانة المصرية إِلَّا انّ ممارسته ومستويات تلك الممارسة تتفاوت ، فالسحر لدى الملك في مستوى ارفع من السحر لدى العامة . وفي المعابد كانت التراتيل السحرية والتعامل مع الأرواح في العوالم الاخرى ترتبط بالكاهن المرتّل ( xry hpt ) ، وهو كذلك يقوم بمعالجة الكثير من الحالات المرضية . حيث ارتبط السحر في مصر القديمة بالطب ، وكان العامة يحملون التمائم الشافية او الواقية .
وقد حمل السحرة في الدولة المصرية لقب ( حري تب ) ، بمعنى ( من يقوم بالشعائر ) او ( الكاهن المرتل ) ، فيما حملوا في الفترة المتأخرة لقب ( كتبة نصوص الآلهة ) ، مما يعني توّغل العقيدة السحرية في المجتمع الى الدرجة التي اُعتبرت فيها نصوصاً الهية .
وقد وردت اسماء العديد من السحرة الذين كانوا يلمّون بثقافة عامة ومعرفة كبيرة ، مثل ( ديدي ) و ( چاچا ام عنخ ) و ( مري رع ) ، فيما نقلت احدى البرديات شغف ( واس ام عنخ ) ابن ( رعمسيس الثاني ) بالسحر وبالأثار القديمة .
وكان الى جانب الكاهن المرتل كاهن اخر بعنوان ( وعب wab ) ، والذي يقوم بمهام خاصة في بيت الحياة ( pr-anx ) ، الى جانب كاتب نصوص الآلهة . وكان السحر بجزئين ، احدهما شفهي ، والآخر عملي . ويأخذ الاسم مركزاً محورياً في الممارسة السحرية ، حيث يتمّ تدمير صاحبه من خلال تركيز الطقس على المعرفة بالاسم .
ومن الطبيعي ان تحفل أساطير حضارة تقوم على الشفرة الباطنية بالعديد من قصص السحر ، وتسرد تلك الأفعال السحرية الخارقة للآلهة . ومن هذه الأساطير ( إيزيس – رع ) و ( عقارب إيزيس ) و ( قصة الأخوين ) .
ومن هذه القصص ما جاء في بردية ( وستكار ) ، التي تتحدث عن مجموعة الروايات تمّ القائها بين يدي الملك ( خوفو ) باني الهرم الأكبر ، والتي تدور حول قدرات ( الكاهن المرتل ) . حيث في احدى تلك الروايات تحدّث الراوي عن الساحر الكبير ( چاچا ام عنخ ) الذي شقّ البحيرة الى نصفين بارتفاع يصل الى عشرين ذراعاً لاستنقاذ احدى مجوهرات مرافقة الملك ( سنفرو ) احد ملوك الدولة القديمة . وهذه القصة تكشف حقيقة ما قام به النبي موسى عليه السلام من معجزة كانت جذورها ترتكز في العقل المصري للدلالة على الاعمال الإعجازية الكبيرة ، (( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًۭا فِى ٱلْبَحْرِ يَبَسًۭا لَّا تَخَٰفُ دَرَكًۭا وَلَا تَخْشَىٰ [الجزء: ١٦ | طه (٢٠)| الآية: ٧٧] )) ، (( فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٦٣] )) ، (( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٥٠] )) ، وهذه النصوص القرانية كاشفة عن ظاهرة خاصة في ذلك المجتمع الغريب عن واقعنا الحالي .
اما أسطورة ( إيزيس – رع ) فتكشف لنا عن أهمية معرفة اسم الحقيقي للآلهة – المفترضة – ، ومن ثمّ نطقه للتمتع بمزايا خاصة يملكها ذلك الاله وحده ، وقد استخدمت إيزيس ذكائها – حسب القصة – لخداع رع والاستحواذ على قدرات مشابهة لقدراته .
وفي أسطورة ( عقارب إيزيس ) يبدو التركيز على القدرات الشفائية للآلهة ، وهي تلامس الوجدان الشعبي ، وتحاول ربط الناس بالآلهة ، عبر افهامهم ضرورة الاستجابة لها والاحسان اليها ، ومن ثمّ الاستفادة من قدراتها وتمائمها الخاصة .
وقد ارتبطت الرسومات السحرية بديانة الشمس كثيراً كما الاثار المكتشفة ، وبالتأكيد لم تكن هذه الديانة ترى في الشمس – بذاتها – إلهاً ، لكنّ رمزية الشمس ربما كان لها دلالة اخرى تحتاج الى بحث ، لأنّ المعتقدات المصرية كانت معقدة ولم تكن بدائية . حيث انّ ربط الأدوات والوسائل السحرية كان بربّ الشمس لا بالشمس ذاتها كما يبدو ، اذ انّه في رحلته يتعرّض لمخاطر متجددة يوميا .
الامر الذي يثير التساؤل أيضاً هو ربط السحر في مصر القديمة بالرّبات الإناث ، بصورة اكبر من الأرباب الذكور ، كما هي الآلهات ( إيزيس – نفتيس ) والالهات ( سخمت – حقات – سرقت – نيت ) . ومع ذلك ارى انّ الترجمة التي اعتمدها الباحثون الغربيون – بفهمهم الذي يعاني إشكالاً فلسفيا – هي السبب في هذا التصوير ، ففي حين كانت إيزيس ونفتيس آلهة بالمعنى الفلسفي المصري ، لم تكن الآلهات ( سخمت – حقات – سرقت – نيت ) سوى قوى ووسائل او ظواهر فيزيائية حملت اللفظ المؤنث ، وربما كانت ( نيت ) أيضاً لها أصل فلسفي كإيزيس .
قد يعتقد البعض – تساهلا – ان السحر لا يعدو الممارسات والصور الخادعة لاعين واذهان الناس , لكن هذا ليس هو الواقع بكل تأكيد . ان الوقائع والحوادث التي تسبب بها الممارسون للسحر على الارض تدحض كل الدعاوى الفقيرة لمن يعيشون ما تزقه عليهم دعوى التحضر والعصرنة . اما الاديان فقد اثبتت وجوده بكل تأكيد , دون استثناء , في اطار انتقاده واظهار مساوئ اللجوء اليه , وكذلك شرحت الشرائع سبل مقاومة آثاره .
( قالَ ألقوا فلمّا ألقَوا سحَروا أعيُنَ الناسِ واسترهبوهم وجاءوا بسِحْرٍ عظيم ) ، وكما نلاحظ فالآية قسمت السحر الى انواع ومراتب ثلاث – وهي ذات المراتب التي اشار اليها الشهيد محمد محمد صادق الصدر في كتابه ما وراء الفقه – :
1 – سحر الاعين
2 – الاسترهاب
3 – السحر العظيم
وتتدرج المراتب تصاعديا , كما تتدرج معها تأثيراتها , فالاول ربما يكتفي بالخداع البصري , والثاني ينشأ في داخل الانسان الهدف شيئا من الخوف .
اما الثالث فهو تحكم فيزيائي بالكون , عن طريق مجموعة قواعد , كان القدماء من البشر يجهلون علتها , رغم انهم يعلمون استخدامها , لذلك ادخلوها ضمن العلوم الغريبة وسموها ( السحر الاسود ) , بينما اتخذتها اقوام اخرى كشرائع , فيما هي فيزياء وفق توصيفنا المعاصر , لكننا كاي طفل في الطبيعة لازلنا في بداية معارفنا . ولكن تم زق هذه القواعد الفيزيائية من قبل مخلوقات سبقتنا بحضارتها لآلاف السنين , وهي الجن .
لو عثر شخص ما في الالف الثالثة قبل الميلاد مثلا على جهاز هاتف يعمل بنظام الاندرويد ماذا ستكون ردة فعله , او انه حصل على كاميرا سوني ؟ , فهو سيدخل كل ما وجده ضمن منظومة السحر , فيما ندخلها نحن اليوم ضمن نطاق التقنية القائمة على الفيزياء , وكذلك قواعد السحر التي نجهل علتها اليوم , فربما تكون علما وتقنية في المستقبل .
ويمكننا الإحاطة ببعض أشكال وطقوس السحر إجمالاً ، وهو في كثير من الأحيان اتفاق بين الساحر وشيطان ، في معظم الحالات يتم تعيين ما يصل الى اتفاق بين الساحر والشيطان , والتي تتطلب من الأول ارتكاب بعض الطقوس الوثنية، سواء سرا أو علانية , والثاني يقوم بتوفير الخدمات التي يحتاجها الساحر أو إرسال شخص ما للقيام بهذه المهمة عادة . يتم تعيين اتفاق يصل بين الساحر وواحد من رؤساء قبيلة من الجن والشياطين .
ظلمات الكفر تغطي وجهه الساحر مثل سحابة سوداء. إذا كنت تتصل بالمقربين منه، سوف تكتشف أنه يعيش في البؤس النفسي مع زوجته وأولاده، وحتى مع نفسه. انه غير قادر على النوم بسلام في الليل بضمير مرتاح. يستيقظ في كثير من الأحيان حتى في حالة الهلع عدة مرات في الليل، وقد تقوم الشياطين بإيذائه شخصيا او عائلته .
لكن الملاحظ ان على الساحر دائما القيام بطقوس وثنية ولا اخلاقية او مخالفة للشرائع السماوية , مما يؤكد ان الهدف منها والذي ترتضيه الشياطين كثمن هو انحراف الانسان وتلبسه ثوب المعصية , فكثيرا ما يقوم ساحر بكتابة بعض الآيات القرآنية مع القذارة، وبعض الكتابة عليها باستخدام الحيض أداء بعض كتابتها تحت أقدامهم .
يؤكد الخبراء المختصون بالممارسات السحرية ان من أقواها السحر الفرعوني , ويليه أسهل نسبيا من الأول، ويمارس هذا في الهند على نحو مفرط. , وفي مثل هذا النوع تتم الدعوة إلى التضحية بالأشياء لآلهة مختلفة مثل bhuwani، chumari، luuna، bheron وغيرهم متفرقات. أيضا بواسطة الجواهر والإضاءة، ووضع عطور في أماكنهم .
وهناك انواع تتعلق بالسيطرة على ارواح معينة , لاهداف خاصة , سيما ما يتعلق بالارواح القوية , او يقوم السحرة احيانا بالتعاون مع الشياطين بالهجوم على بلدان محددة لاسباب دينية , كما اكد حدوث مثل ذلك بعض العارفين والروحانيين ضد العراق اليوم .
كما ان هناك انواعا سحرية تستخدم الشياطين من الجن لخلق الخمول في اشخاص معينين , ومن شأن الساحر ارسال الجن الى الشخص المستهدف، أوعز له ليستقر في دماغه وجعله منطويا على ذاته وحداني. والجن يبذل قصارى جهده لتنفيذ المهمة، وأعراض هذا السحر سوف تظهر، وفقا لنقاط القوة والضعف .
فيما هناك سحرا يستخدم الجن لغزو احلام الاشخاص , الساحر يرشد من الجن أن يظهر لشخص في كل من الحلم والواقع، في شكل حيوانات وحشية والهجوم عليه , او يسمع اصواتا لايسمعها القريبون منه . الأعراض وفقا للغاية القوة والضعف من السحر. فإنها قد تزيد إلى حد الوصول إلى الجنون، وربما يقلل أيضا إلى حد كونه مجرد الوسوسة. بعض أعراض هذا السحر الضحية تعاني كوابيس , والمريض يسمع أصواتا تتحدث اليه عندما يستيقظ، ولكن غير قادر على رؤية من أين هذه الأصوات قادمة . المريض يسمع همسا كثيرا .
وهناك سحر الفودو يأتي من القارة الافريقية وهو قاتل للغاية , يتم باستخدام الدمى والابر .
ان للسحر شرائعه وقواعده , وهي ترتبط بمنظومات الشياطين ومراتبها ومحافلها , وكل ذلك يستند ويعتمد على المسافة الحضارية الطويلة للجن وتقنياتهم العالية , والتي سبقت وجودنا بآلاف السنين , والنتيجة ان السحر علم , لكننا لازلنا نجهل الكثير من طرق الوصول اليه , ونحتاج الى عمر حضاري كعمر اقوام الجن .
ان الملفت في عالم السحر والحضارات التي تستخدمه ارتباطه بصورة الآلهة الحيوانية والرموز الهجينة ، كما في حضارة مصر الفرعونية وحضارات الهند الباطنية . فيما نلاحظ انّ سحر ( الفودو ) الأفريقي الذي يستخدم الدمى والإبر والسكاكين للطعن هو ذاته الموجود في الرسومات المنقوشة على الاثار الفرعونية المصرية .
لقد اقرّ القران الكريم بصورة واضحة انّ القدرات الخاصة لكهنة الفراعنة كانت سحراً [ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨١] .

 

 

إيزيس

هذه الآلهة كانت – بحسب الأساطير المصرية – اخت وزوجة الاله اوزيريس في الوقت عينه ، وهذا ما يفسّر ظاهرة زواج المحارم داخل العائلة المالكة الفرعونية ، والتي كانت معتادة للحفاظ على نقاء الدم الملكي . كذلك تمتعت هذه الآلهة بقدرات سحرية خاصة وكبيرة ، كانت مهمة في احياء روح زوجها اوزيريس ، ومن ثمّ حملها منه بابنهما الاله حورس ، الذي قاد معركة العرش ضد عمه ست ، وانتصر عليه بمساعدة أمه إيزيس .
كما يبدو انّ أصل اسمها في اللغة المصرية القديمة ( سيّدة العرش ) ، وهذا ما يشير اليه ايضا بحسب الظاهر التاج الشبيه بالعرش على رأسها . وقد رمز المصريون لها بامرأة ذات قرنين بينهما قرص الشمس ، وهي رمزية عالية في الأدب الديني المصري القديم . لكنّ الملفت انها أخذت أيضاً اشكالاً مختلفة تمظهرت من خلالها حسب الاثار المصرية . أمّا الظاهرة الاغرب فهي انتشار عبادتها في الحضارتين اليونانية والرومانية ، ومن خلالهما داخل القارّة الأوربية .
وقد كانت تتمتع بقوى ( سخمت ) و ( سرقت ) الخاصتين بالسحر والاحياء . وكانت أيضاً متحالفة مع الآلهة ( نفتيس ) زوجة ست ، ويحرسون معاً أركان التوابيت ، وهما من جمعتا اشلاء اوزيريس بعد قتله من قبل أخيه ست . وتمّ لاحقاً ربط الاله ( أنوبيس ) الذي له وجه الكلب بالآلهة إيزيس ، وهذا الربط يحتاج الى تأمل في حقيقة دوره وماهيته ، لأنّ هذا المظهر يُستخدم عادة للدلالة على الكائنات التي تتواصل مع الانسان من العالم الاخر لدى الجماعات الباطنية ، وقد افترضت الأسطورة المصرية انّ أنوبيس ساعد إيزيس في العثور على اشلاء الاله اوزيريس .
ويبدو انّ الآلهة ( إيزيس ) مع زوجها – اللاموجود – الاله ( اوزيريس ) وولدها الخارق وصاحب المعجزات ( حورس ) – الذي حمل الصفة الإلهية صغيراً وولد من أب من عالم اخر – هما الأساس في الثالوث المسيحي الروماني واقانيمه ، والذي شقّ عصا المسيحية في العالم ، بسبب اصرار روما على تقنينه ، رغماً على إرادة مهد المسيحية في الشرق ! . فكلّ الأيقونات المسيحية لمريم العذراء وهي ترضع المسيح ما هي الا نسخة مطابقة لايقونات إيزيس وهي ترضع ابنها حورس ، والتي تركها الفنّان المصري القديم . وكذلك لازال لايزيس مجموعة من التماثيل المهمة في العالم المعاصر ، منها تمثال روماني في معرض بيوكليمنتينو في الفاتيكان .

 

 

العصا السحرية

وهي عادة مصنوعة من العاج ، ويوجد في احدى جهتيها صوراً لمَرَدة ومخلوقات غريبة تمثّل الآلهة ، وفي الجهة الاخرى كتابات هي اقرب للتمائم . ويصل طولها الى خمسين سنتمتراً ، تكون هلالية تقريباً . وقد وجد انّ أكثرها يعود لعصر الدولة الوسطى . وهي بذلك تذكّرنا بالصولجان الملكي الذي يحمله الفرعون ، حتى انّ الاله اوزيريس كان يُمثِّل بالصولجان ، الذي يحمل صفة ( سخم ) او ( القوة ) . وكان يحفظ في محراب المعبد بصولجان عظيم ، وكان الاحتفال به يتم من خلال استعراض مهيب ، حيث يحمل الصولجان رأس ذهبي لانسان .. ومازالت بعض الجماعات العالمية السرية تستخدم الصولجان اثناء اجتماعاتها الاحتفالية كالحركة الماسونية .
ومن الواضح انّ هذه العصا كانت تختزن السرّ المادي الرابط بين العالمين الطبيعي والماورائي ، رغم انها كانت تحتاج الى طقس شفهي مرافق . وهي ليست تُقاس على رؤيتنا المعاصرة عن بدائية ذلك المجتمع ، بل يجب ان نفتح افقاً جديداً للتفكير في كنهها . وهنا ربما يساعدنا الطرح القراني في معرفة بعض ابعادها ، حيث الارتباط بالعالم الاخر تسبقه مرحلة الاهتزاز . ومن تلك الآيات القرانية (( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّۭ وَلَّىٰ مُدْبِرًۭا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ ٱلْمُرْسَلُونَ [الجزء: ١٩ | النمل (٢٧)| الآية: ١٠] )) و (( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّۭ وَلَّىٰ مُدْبِرًۭا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَٰمُوسَىٰٓ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلْءَامِنِينَ [الجزء: ٢٠ | القصص (٢٨)| الآية: ٣١] )) ، ونرى انّ القاعدة الأساس للتعامل بهذه العصا هي ( عدم الخوف ) ، وبالتالي يمكن ان نفهم ارتباط ذلك بما يعيشه الانسان من طاقة سلبية او إيجابية . كما كان لهذه العصا استخدامات اخرى (( وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًۭا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍۢ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٦٠] )) و (( فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٦٣] )) و (( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌۭ مُّبِينٌۭ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٣٢] )) و (( فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٤٥] )) . رغم انّ الآيات القرانية كانت تتحدث عن عصا موسى التي هي من عالم اخر غير عالم الفراعنة إِلَّا انها تكشف حقيقة وجود هذه والغاية منها في المجتمع الفرعوني .

والخلاصة انّ العقيدة الدينية المصرية عند اكتمال ملامحها امتزجت بالسحر حد التطابق ، وانّ الكهنة كانت وظيفتهم تقوم على استدعاء الكائنات الخارقة القوى من العالم الاخر ، فيما يقوم نظام حماية الموتى السحري على استنقاذ الأرواح من الشباك المنصوبة ليصدها بين السماء والأرض ، ولا يبدو واضحاً ماهية هذه الشباك ، إِلَّا انها ليست بالمعنى البشري الاعتيادي لشبكات الصيد ، لكنّها ربما ترتبط بمفهوم شبكات الطاقة في الفيزياء . وتضمنت فصول من كتاب ( الموتى ) المصرية نصوصاً خاصة لاستنقاذ ارواح الأموات من تلك الشباك ، ونحن نعلم انّ العقيدة المصرية ترتبط كثيراً وتركَّز على الموتى وعالمهم .
وبالتالي فإ انتقال الديانة المصرية ومعبوداتها يستلزم انتقال طقوسها وسحرها جميعاً الى الشعوب المستوردة ، ومن ثمّ يتم تطويرها ، لإنتاج منظومة سحرية دينية معقدة ، يحاول اتباعها الدفاع عنها وحمايتها كأيّ دين يقوم اتباعه بالدفاع عنه ، لكن مع خطورة الوسائل المستخدمة من قبل الديانات الوثنية السحرية على النحوين الطبيعي والماورائي .
لذلك رأينا ظاهرة خطيرة وكبيرة تفشّت في المجتمعات المصرية واليونانية والرومانية واليهودية – بعد الاستعباد – تمثّلت في انتشار التمائم واللوحات والتعاويذ السحرية المؤذية والحامية . ومن هذه الظواهر كانت ( لوحات حورس ) ، التي كانت صغيرة الحجم ومزوّدة بحمّالة ، تحمل صورة للاله حورس ، وقد كانت متداولة شعبيا ، لا سيما منذ الاسرة التاسعة عشر . وهناك أيضاً تماثيل ( أمنحوتب بن حابو ) ، التي كانت توضع في المعابد وتمارس عندها الشعائر ، كما كان الناس يقرأون أمامها صيغ التمنّي ، للتبرك والشفاء والحاجات . وهناك أيضاً تمثال ( چد حور ) ، في عصر البطالمة اليونان ، الذي كان يغطّى بالكتابات السحرية ، ومن ثمّ يسكب الماء عليه ، لينزل للحوض الاول ومن ثمّ الحوض الثاني ، ليتمّ استخدام هذا الماء من قبل الناس ، وهذا شبيه بما يُعمل مع لوحات حورس السحرية كما يُنقل .
انّ هذا الانتشار الخطير أنتج في تلك الازمان شبكة من الظواهر الغريبة والتأثيرات النفسية والعقائدية التي لعبت دوراً كبيراً في تفشي ممارسات تعتمد على تأثير السحرة ومعبوداتهم ، كما انّ اعتمادها في عدة شعوب ودول مثل مصر واليونان والرومان وكهنة اليهود دليل على الحاجة آنذاك لمنفذ يوقف هذه السلسة ، وبالتالي يحلّ الشبكة الغريبة ، فكان ظهور النبي سليمان وقدراته أمراً منطقيا . (( فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ [الجزء: ١٧ | الأنبياء (٢١)| الآية: ٧٩] )) ، (( وَوَرِثَ سُلَيْمَٰنُ دَاوُۥدَ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ [الجزء: ١٩ | النمل (٢٧)| الآية: ١٦] )) ، (( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [الجزء: ١٩ | النمل (٢٧)| الآية: ١٧] )) ، (( وَلِسُلَيْمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌۭ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌۭ وَأَسَلْنَا لَهُۥ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِۦ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ [الجزء: ٢٢ | سبأ (٣٤)| الآية: ١٢] )) .
ولمعرفة مدى انتشار هذه الممارسات وعقيدتها نقرأ النص القراني (( وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتْلُوا۟ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌۭ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٍۢ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚلَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ١٠٢] )) .

 

 

الاهرامات

في مقابر الملكية القديمة كانت الاجساد تدفن في غرف مركزية تحت البناء ، تحيط بها غرف اصغر . لكن في عهد الاسرة الثالثة حدثت انتقالة غريبة لطريقة بناء المقابر الملكية ، حيث استحدث في زمن ( زوسر ) بناء الهرم المدرّج ، حيث كان عبارة عن مقبرة حجرية تعلوها خمسة مصاطب ، تتناقص في حجمها كلّما ارتفعت نحو الأعلى . وفي الاسرة الرابعة تمّ بناء الهرم الكامل ، حيث الارض مربعة والجوانب مسطحة والقمة مدببة . يُضاف في اعلى الهرم هريم صغير ، يحتوي رسومات لإله الشمس ، كما كانت هذه الرسومات موجودة في لوحات فضية في وسط الهرم . ويتحدث الكثير من الخبراء انّ الاهرامات تضمنت هندسة عالية في إنشائها ، كما انها تحاول محاكاة الحركة الفلكية للأجرام السماوية . ويبدو انّ ذلك كان مرتبطاً بالهدف من أقامتها ، حيث لا يمكن استساغة اقتصار وجودها كمقبرة فقط ، لما تمّ إنفاقه عليها من جهد ووقت وثروة ، كما انّ الشعب المصري لن يكون بهذا العزم في البناء لمجرّد رغبة ملكية في الدفن ، بل انّ الشعوب عادة تشارك بعزيمة فيما يرتبط بعقيدتها فقط . ومن هنا ربما كان حديث النص القراني عن رغبة فرعون في معرفة خصائص اله موسى النبي ملمّحا اليها (( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًۭا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ [الجزء: ٢٠ | القصص (٢٨)| الآية: ٣٨] )) و (( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰهَٰمَٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحًۭا لَّعَلِّىٓ أَبْلُغُ ٱلْأَسْبَٰبَ [الجزء: ٢٤ | غافر (٤٠)| الآية: ٣٦] )) . وحديث فرعون هنا لم يكن ساذجاً فقيراً ، بل كان يريد الاعتماد على ذات الاليات التي يتواصل خلالها مع آلهة عالم الشياطين ، فهو كان متسائلاً فعلاً ، لكنّ غروره واستكباره جعلاه يرى طريقاً واحداً للمعرفة .
يُرجع ( تشيرني ) هذا التغيّر نحو البناء الهرمي الى انتصار عقيدة الشمس الهليوبوليسية ، وهذا ما يتناسب مع ما بيّناه من صراع عقائدي سابق بين حضارتين مختلفتين . حيث يتم في هليوبوليس تقديس ( البنين ) ، وهو هرم مخروطي يرتبط بآلهة الشمس . فيما يرى رئيس المجلس الأعلى للآثار في مصر ( زاهي حواس ) انّ هناك سبباً آخراً لبناء الاهرامات غير الغرض السابق – من حيث موافقة مخروط هليوبوليس – وهو القدرة الخاصة التي يتمتع بها الشكل الهرمي في حفظ الأشياء ، تحت تأثيرات فيزيائية خاصة .
وارتفاعات الأهرام مختلفة ، فهناك الصغيرة ، فيما هرم زوسر يصل الى ٤٣ متراً ، بينما هرم خوفو الكبير يصل الى ١٤٦ متراً . ويبلغ عدد الاهرامات في مصر نحو ١١٩ هرما . لكن الغريب انّ هناك اهرامات مشابهة في عدة أقاليم خارج مصر ، ففي المكسيك وفي أمريكا اللاتينية وفي اسيا هناك العديد منها ، واليوم هناك أهرام اخرى معاصرة تحت عناوين تمويهية كثيرة ، كالهرم في لاس فيغاس الامريكية . ولذلك فإنّ القول بكونها مجرّد مقابر للملوك المصريين حديث ساذج ، وربما يستهدف عن عمد تضييع حقيقة وجودها ، فهي صروح عالمية ، وجدت في حضارات مختلفة متقاربة زمانية ومتباعدة حد الانقطاع مكانيا ، مما يلزمنا بأنها بنيت لغايات ترتبط بقضية التواصل مع الآلهة ، وما يعضد هذا الاعتقاد انّ الكهنة كانوا يتعبدون عند قمتها او في داخلها او الى جوارها .
لقد كان الكهنة القائمون على طقوس الاهرامات قسمين ، احدهما ( خدم الآلهة ) ، والقسم الثاني هم ( وعب ) بمعنى المتطهّر . انّ المتطهّرين فئة من الكهنة ظهرت ضمن ديانة هليوبوليس ، ولهم طقوس خاصة بهم ، انتقلوا لأدائها في أنحاء مصر ، وقد ارتبطوا – كما ارتبطت ديانة هليوبوليس – باله الشمس ( رع ) . وقد اشرت سابقاً انّ رمزية الشمس او القمر كانت – حسب قرائتي للآثار المصرية المنشورة – تشير الى العالم السماوي او الفضاء .ومعبد الشمس في ابو صير في هليوبوليس يشكّل صورة جليَّة لفكرة الأجسام الهرمية والمخروطية ، مما يعني نشئة هذه العقيدة على أسس هندسية باطنية .
ومن خلال الاطّلاع على احتفالية تأسيس معبد للآلهة نستطيع معرفة انّ هذه الديانة ترتكز الى أسس غير بشرية ، حيث يسير الملك يتبعه كبير الكهنة وكاتب الأسرار المقدسة تعاونه الآلهة ( سشات ) لتحديد ابعاد المعبد ، والتي تعتمد على الرؤية الفلكية في الليلة السابقة ، عبر تحديد المحور القصير للمعبد من الشمال للجنوب بالاعتماد على مجموعتي الدب القطبي ( الاوريون ) او كوكب الجوزاء ، فيما يرش الملك الأركان بالماء من انائين يحملان رسومات سماوية .
وظلّت قدسية واهمية هذه الاهرامات قائمة حتى ظهور الاسرة الثامنة عشر ، حيث توّقف بناء المقابر الملكية على هذه الهيئة ، وتحوّل ملوك هذه الاسرة للدفن في وادي الملوك ، وكان الى جانبه وادي الملكات أيضاً . وهذا التوقف يبدو غريباً للوهلة الاولى ، لكننا حين نقرأ تاريخ تلك الفترة بالتحديد سنحدد الأسباب الواقعية لهذا التغيّر المفاجئ . ومن اهم ملامح تلك الفترة كان ظهور الهكسوس كحكّام جدد لمصر .

 

 

الملأ والعامّة

ليس كل بلاد مصر كانت تدين بعقيدة الفراعنة ، كما انّ ليس كل بلاد الرومان كانت تدين بعبادة الإمبراطور ، لكنهما كانا يخضعان للفراعنة والأباطرة . انّ الحديث عن الديانة الرسمية لبلد ما لا يعني وصم كل الشعوب القاطنة هناك بما فيها . ففي مصر وفي اليونان وبلاد الرومان كانت هناك ديانة رسمية ، وعقلية حكومية ، ضمن مجموعة من الاعتقادات الكبرى المحيطة .
لذلك حين يريد القران الكريم الحديث عن الجهة التي آذت موسى وبني اسرائيل لم يكن يعمّم الإشارة الى بلاد مصر ، بل كان يختصّ بالفرعون وملأه ، اي من الساسة والعسكر ، [ وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌۭ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌۭ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٤٩] ، [ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٥٠] ، [ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٣٠] ، [ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ فَظَلَمُوا۟ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٠٣] .
اما اذا أراد الإشارة الى البلاد دون القضية السياسية او الدينية فكان يعبّر عنها بمصر فقط ، [ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًۭا وَٱجْعَلُوا۟ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةًۭ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨٧] ، [ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍۢ وَٰحِدٍۢ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلْأَرْضُ مِنۢ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَى بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُوا۟ مِصْرًۭا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا۟ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۦنَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٦١] ، [ وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَىٰهُ مِن مِّصْرَ لِٱمْرَأَتِهِۦٓ أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًۭا وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمْرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الجزء: ١٢ | يوسف (١٢)| الآية: ٢١] .
ومن هنا يمكننا القول انّ البحث في الديانة الفرعونية لا يعني اننا نبحث في الديانة المصرية ، فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين ديانات الكبّاليين والديانة اليهودية او الإبراهيمية . ولا يشير الكتاب الى كون مصر هي أمّ لشرور الارض ، بل على العكس كانت مصر من اوّل البلدان التي انتشرت فيها المسيحية الموحّدة ، والتي قاومت مختلف الضغوط الوثنية . لذلك هناك مصر اخرى ، غير مصر الفرعونية ، هي التي قصدها يوسف النبي [ فَلَمَّا دَخَلُوا۟ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُوا۟ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ [الجزء: ١٣ | يوسف (١٢)| الآية: ٩٩] .

 

 

الهكسوس

عرفهم المصريون باسم ( منيوساتي ) اي رعاة اسيا ، وكذلك باسم ( شاسو ) اي البدو ، ويبدو انّ الاسمين كانا يخضعان للطريقة التي يريدون من خلالها توصيفهم . فيما سمَّاهم اليونانيون ( الهكسوس ) اي الملوك الرعاة ، وبين الاسمين يبدو الفرق واضحا ، حيث تخضع التسميات للاسقاطات النفسية .
انّ الهكسوس – الذين اطلق عليهم العرب اسم العمالقة – كانوا خليطاً من العموريين ( الأموريين ) والكنعانيين ، وكانوا على الأرجح تحالفاً عسكرياً ، تربط بين شعبيه الأواصر العراقية الأصل ، لكنهما كانا ربما يختلفان في العقيدة ، ففي حين كان العموريون موحدين كان الكنعانيون – حسب بعض المصادر – يتخذون آلهة .
وكما هو واضح من آثارهم كان العموريون يعبدون ( ايل ) ، الذي فهمه الباحثون الغربيون – كعادة فهمهم القائم على فكرة مسبقة – على انه اله ( صنمي ) ، فيما هو لم يكن سوى لفظ قديم للاله الواحد ( الله ) . ولا نحتاج في إثبات ذلك الى جهد وعناء كثير ، حيث لازالت الأسماء الواردة في النصوص الإبراهيمية تحمل – الحاقاً – هذه المفردة ، في اسماء مثل ( اسرائيل ) و( ميكائيل ) و( عزرائيل ) و ( إسرافيل ) و ( جبرائيل ) ، الذين هم من خلق الله الصالحين من بشر وملائكة ، والمقدّسين في العقيدة الإبراهيمية التوحيدية . وقد ورد في اسماء ملوك الهكسوس العموريين الملك ( يعقوب ايل ) ، وكما هو واضح فقد جمع بين نتيجتين يفيدان كدلائل لما نريد ، حيث الاسم ( يعقوب ) الذي هو من اسماء العراقيين القدماء في الفترة الإبراهيمية ، وكذلك لفظ ( ايل ) الدالّ على الاله الواحد . وقد ورد أيضاً في كتاب مفاتيح الجنان الذي ينقل الادعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما نصّه في دعاء السمات ( وبمجدك الذي تجلّيتَ به لموسى كليمك عليه السلام في طور سيناء ، ولابراهيم عليه السلام خليلك من قبل في مسجد الخيف ، ولاسحاق صفيّك عليه السلام في بئر شيع ، وليعقوب نبيّك عليه السلام في بيت ايل ) . وقد ورد أيضاً في حضارة مدينة ( سمأل ) كاله للآراميين أيضاً ، مما يدلّ على انتشار هذه العقيدة الإبراهيمية بين العراقيين بقوة ، وهو ما سيكون الطرف الاخر في صراع الحضارتين ، ومنه نعرف سبب الهستيريا التي اصابت الجيش الفرعوني وجعلته يلاحق الهكسوس حتى حدود العراق ، رغم انّ هذا الجيش لم يسبق له فعل ذلك .
والعموريون هم الذين اسسوا حضارات ( ماري ) و ( عمورو ) في سوريا ، وهم ذاتهم من أسس الامبراطورية البابلية القديمة . وقد وقعت دويلاتهم السابقة في سوريا تحت حكم الملك سرجون الاكدي ، الا انهم أقاموا الحضارة البابلية بعد انهيار السلالة الاكدية ، وهذا ما يجعلنا نرفض توصيف بعض المؤرخين القدماء وبعض الباحثين المعاصرين لحضارة الهكسوس بأنها بدوية ، فهم قد أقاموا عدة حضارات قبل قيام دولتهم في مصر ، كما انهم من ادخل الصناعة التعدينية والفنون والآداب والعربة والفنون الحربية الى مصر ، حيث هال المصريين رؤية تلك العربات الحربية التي لم يشاهدوها سابقا ، وبسبب العربات هذه ذاتها تمكّن المصريون لاحقاً من انشاء اول امبراطورية لهم .
وقد انتقل الهكسوس الى مصر في بداية الامر على شكل موجات مهاجرة بصورة طبيعية ، ثمّ استغلوا الصراع بين مصر السفلى ( الدلتا ) وبين مصر العليا ( الصعيد ) فاحتلوا الدلتا وأقاموا هناك دولتهم . الا انّ الفراعنة ظلوا يحكمون الصعيد وعاصمته طيبة ، ومن هناك بدأوا حربهم ضد الهكسوس ، لأسباب دينية كما يبدو من قساوة الصراع ، وكذلك من خلال ما تركه المصريون وشركائهم اليونانيون من توصيف سيّء للهكسوس .
وقد رأى بعض الباحثين انّ هجرة النبي التوحيدي الكبير ( ابراهيم ) الى مصر كانت خلال حكم الاسرة الفرعونية الثانية عشر ، لتقاربها مع زمن حكم الهكسوس لمصر ، حيث اعتقد الباحثون انها حكمت في حدود ١٨٩٧ الى ١٨٤٠ ، فيما حكم الهكسوس منذ ١٧٨٥ الى ١٥٨٠ . لكننا نرفض ذلك مطلقاً ، حيث هو مخالف للمنطق التاريخي للحدث ، كما انه لا يقوم على أسس اثرية دقيقة . من هنا ارى انّ هجرة ابراهيم كانت في ظلّ اول ملوك الهكسوس ، وهي فترة متقاربة جدا مع التاريخ الذي يراه معظم الباحثين . كما انّ ظهور أبناء يعقوب في مصر ، واعزازهم ، ومن ثمّ استعبادهم بعد انهيار الهكسوس من قبل الاسرة الفرعونية الثامنة عشر يكشف عن منطقية رأينا . ويمكننا ملاحظة انّ مؤرخين اخرين لهم تواريخ غير التي رآها غيرهم ، فمثلا ( ماسبيرو ) في كتابه ( تاريخ المشرق ) يرى انّ احتلال الهكسوس لمصر كان في حدود ٢٣٠٠ ق م ، فيما خروجهم كان بين ١٧٠٠ الى ١٦٥٠ ، ويرى انهم حكموا اكثر من خمسة قرون .
حكم الهكسوس مصر قروناً عديدة ، وخلالها استقبلوا موجات من المهاجرين الساميين العراقيين والسوريين ، ومن أولئك المهاجرين كان بنو اسرائيل احفاد نبي الله ابراهيم ، حيث أكرمهم الهكسوس – لاعتبارات دينية واجتماعية – ومنحوهم بعض الاراضي الخصبة . وقد وصل ( يوسف ) حفيد ابراهيم الى منصب نائب الملك الهكسوسي .
ومن لطيف التعبير القراني لتمييز هذه الفترة من تاريخ مصر عن الفترة الفرعونية السابقة والفترة الفرعونية اللاحقة انه لم يذكر لفظ ( الفرعون ) كلقب للحكام ، بل استخدم لفظ ( الملك ) ، بما يتناسب والطريقة العراقية في الحكم . حيث اراد ان يثبت حقيقة الاختلاف بين الحضارتين ، {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }يوسف43 ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }يوسف50 ، {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }يوسف72 .
وصل يوسف الى مصر عبر احدى القوافل ليُباع هناك , فاشتراه عزيز مصر , وحدث له مع امرأة العزيز ما حدث , وشهد شاهد من اهلها بان يوسف مفترى عليه , لكنهم رأوا ان يسجنوه , فاظهر صنوف العفة والصبر , وكان سببا لصلاح السجناء الذين خالطوه عندما سجنه العزيز . وكان ان رأى الحاكم رؤيا افزعته , لم يفسرها بصورة مقنعة الّا يوسف , فارسل الحاكم من يأتيه بيوسف , وهو لم يزل في السجن , فاصرّ يوسف على التحقيق لاظهار برائته , وفعلا اثبت الله تعالى لهم براءة يوسف من كل التهم , فاثار ذلك اعجاب الحاكم واختص يوسفَ لنفسه ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ }يوسف54 . ان المجتمع الفرعوني السابق على الهكسوس – أي من المصريين – كان يؤمن بزواج المحارم , لذلك هو لم يكن ليتأثر بعفة يوسف , وكذلك كان المجتمع المصري الفرعوني يعتمد كليا على نبوءات السحرة عبر شريعة ( الكابالا ) , فهو لن يقتنع بتأويلات يوسف , وهو ايضا مجتمع هرمي عائلي لا يسمح بدخول عناصر غريبة الى السلطة , ولم يكن يوسف حينها سيستطيع ان يكون عزيز مصر . لكن الله جل وعلا مهّد لبني اسرائيل دخول مصر عبر الغزو ( الهكسوسي ) . فقد آمن احد ملوكهم السابقين بابراهيم , وأهداه الصالحة ( هاجر ) ، لتكون امّاً لابنه النبي ( اسماعيل ) ، ومن ثم آمن احد آخر ملوكهم بيوسف ويعقوب . وقد كان ملوك الهكسوس بين الملكين في صراع طويل مع كهنة الديانة الفرعونية المصرية ( الكابالا ) , ومع معتنقيها من عامة الشعب المصري , وكذلك كانوا في حرب دائمة مع السلالات الفرعونية في الجنوب . وقد تحالف الهكسوس مع ملوك ( النوبة ) , ضد الفراعنة .
وقد اعتقد المؤرخ المصري ( مانيتون ) ان الانبياء ابراهيم ويعقوب ويوسف هم من نفس عنصر الهكسوس , وهو الصحيح لانهم جميعا عراقيون ساميون في الاصل .
ثمّ بعد ذلك انهار الهكسوس امام الفرعون المصري ( احمس ) مؤسس السلالة الثامنة عشر ، والذي طاردهم حتى بلاد الشام ، حيث قضى عليهم في معركة ( مجدّو ) الفاصلة في حدود عام ١٤٧٩ ق م .
وبدأ الفراعنة حينها مرحلة استبداد واستعباد للعنصر السامي ، الذي كان ممثّلاً ببني اسرائيل في الغالب ، حيث هم ذرية الأنبياء ، والتي تكون مناسبة جداً للمرحلة الاولى في إبادة الأديان التوحيدية الإبراهيمية المخالفة للديانة المشفّرة الباطنية الفرعونية . فصاروا يذبّحون ابنائهم ويستحيون نسائهم ، واستخدموهم في الاعمال الشاقّة ، واتخذوا منهم لاعمال السخرة ونظام العبودية ، في مرحلة ثانية لكسر النفس التوحيدية السامية ، ومن ثمّ إبهارها بالمادية الفرعونية .
لذلك استخدم القران الكريم في هذه المرحلة – التي ترافق قصة موسى النبي – لفظ ( الفرعون ) للتعبير عن حكّام مصر ، [ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ فَظَلَمُوا۟ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٠٣] ، [ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ بِـَٔايَٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوْمًۭا مُّجْرِمِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٧٥] ، [ فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٌۭ مِّن قَوْمِهِۦ عَلَىٰ خَوْفٍۢ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨٣] .
ورغم انّ الاسرة الطيبية الفرعونية التي قاتلت الهكسوس هي السابعة عشر الا انّ الاسرة التي تولت الحكم تماما بعد خروج الهكسوس هي الثامنة عشر التي أسسها ( تحوتمس ) . و المثير ان يختفي البناء الهرمي في هذه المرحلة ، وهو عصر الاسرة الثامنة عشر ، كما انّ احد ملوك هذه الاسرة ترك عبادة الفراعنة وتوَّجه لدين توحيدي هجين ، والالتزام باله واحد ، هو اله الشمس ( اتون ) ، وأطلق على نفسه لقب ( اخناتون ) . وهذا يكشف عن مدى الأثر العقائدي والفكري الذي تركه الساميون الهكسوس ومن رافقهم من الأنبياء والمفكرين ، رغم خروجهم مهزومين عسكريا .
لكن عاد كهنة الديانة المصرية القديمة للثورة على ديانة اخناتون ، وحرّكوا الجمهور والقادة ، لتعود الديانة الامونية المصرية القديمة رغما على خلفاء اخناتون . الا انّ مصر لم تستقر فكريا او عقائديا بعد ذلك ، رغم قيام اول امبراطورية في تاريخ مصر .
الا انّ المصريين من الفراعنة في الاسرة الثامنة عشر الذين أبادوا كل الذي وجدوا من اثر للهكسوس أبقوا على المعابد الوثنية لبعض الساميين في منف وفي حيّ ( الحيثيين ) ، بل انهم اعتبروا الآلهة الوثنية الكنعانية ( عشتارت ) ابنة للاله ( بتاح ) ، فيما قرروا انّ ( عنات ) من بنات الاله الكبير لديهم ( رع ) . وذلك يكشف بوضوح عن حقيقة الصراع الذي دار بين الفراعنة وبين الهكسوس ، حيث هو صراع ديني ، بين عقيدة التوحيد والعقيدة الوثنية الشيطانية ، الى جانب كونه صراعاً حضاريا ، خصوصاً انّ المصريين أبقوا على كل المعابد الوثنية في سوريا بعد احتلالها حين طاردوا الهكسوس ، بل انهم قد احترموا تلك الآلهة وقدّسوها كجزء من منظومة الآلهة المصرية ! . ومن الغريب ان نرى ملكا منتصراً منتقماً هو ( رمسيس الثاني ) يسمّي ابنته باسم آلهة العدو ! ، حيث اطلق عليه ( ابنة عنات ) .
ويبدو واضحاً من الشغف الذي عاشه الامير ( خع ام واست ) ابن الفرعون الشهير ( رعمسيس الثاني ) اهم ملوك الاسرة الثامنة عشر التي طاردت الهكسوس وارادت ابادتهم انّ البعد الديني لدى هذه الاسرة الفرعونية المنتصرة كان مركزياً وحاكماً على ما سواه . فهذا الامير الذي اشتهر بعلمه الغزير بالديانة المصرية القديمة قد أعاد ترميم اغلب اثار الاجداد من الفراعنة القدماء . فيما كان الأخ الذي خلف ( خع ام واست ) في ولاية العهد وهو الامير ( ومرنبتاح ) قد وصل الى مرتبة ( الكاهن الأعظم ) للاله ( بتاح ) ، وكان يقوم على طقوس الاله العجل ( أبيس ) .

 

 

العقدة العراقية الشرقية للدولة الفرعونية

لقد انتقلت العقيدة المصرية من التأثير الآدمي الشرقي الإدريسي الى الفرعونية الممتزجة بالسحر ، وفيما حافظت على بعض العناوين مشتركة بين الديانتين الا انها اختطت قصصاً واحداثاً جديدة تماماً ، ادخلت من خلالها تأثير العالم الذي تسميه الديانة الإبراهيمية عالم ( الشياطين ) . لذلك بدأت الأوراق بالاختلاط على المصري القديم ، ثمّ ظهرت قوى السحر وتأثيراتها ، وبدأ المصري ينتفع من وجودها بنحو ما ، لا سيما الملوك – والنَّاس على دين ملوكها – ووجدت طبقة من الكهنة تحققت لها أرباح من خلال العالم السحري هذا ، كما انّ الانتقال نحو هذا العالم الباطني الغريب تم تدريجيا وببطئ ، واختلطت فيه الأحداث بمرور الزمن ، وعلى مراحل .
لاحقاً تمّ سرقة العناوين الآدمية – التي سارت ضمن الديانات الإبراهيمية كما هي – من قبل الفكر الفرعوني الجديد ، وتمّ افراغ العنوان من محتواه وملأه بشخصيات شيطانية بحتة ، يمكن التعرّف عليها من خلال المكتشفات الآثارية المصرية ، وكذلك من خلال الجماعات السرية المنتسبة للدين الفرعوني في العصر الحديث .
وفي خضّم المواجهة بين الحضارتين الشيتية والقابيلية كانت هناك مواجهة فكرية تسير نحو التعقيد أيضاً ، حيث رأت الحضارة الآدمية الشيتية انّ سلوك أفراد الحضارة القابيلية السيء سيخضع لحساب الهي تفرضه الحياة الابدية في عالم الآخرة ، فيما ابتكرت الديانة الفرعونية رؤية لاستنقاذ الحضارة القابيلية وأفرادها من ذلك المآل عبر افتراض مجمع الهي خاص هو من سيقود عملية محاسبة الموتى ، وابتكرت مجموعة من الطقوس لحماية الموتى من اخطار العالم الابدي ، بادعاء انها ستكون تحت حماية الآلهة .
وبدأت فلسفة اخرى تشرح حقيقة علاقة الانسان بالإله الخالق ، تقوم على أساس الافتراض القائل انّ الانسان ابن الآلهة ويمكنه العودة للاندماج معها من خلال حلقة من الطقوس والمعارف . وبالتالي تمت ازاحة ذلك الفكر التوحيدي البسيط الذي اعتقدت به الحضارة الآدمية الشيتية وإيجاد فكر معقد غير مفهوم لا يقوم على البساطة في تفسير مفاهيم الآلهة والإنسان .
ويبدو انّ هذا التعقيد والانقلاب الفكري كان مستمراً في مواجهة الحضارة الآدمية خلال الدولة القديمة في مصر ، الا انه بدا واضحا في فترة الانتقال الغامضة – كما يصفها الباحثون – التي سبقت الدولة الوسطى . ومن ثمّ خلال الدولة الوسطى كان مفهوم الآلهة قد أخذ بعداً اخر ، يختلف تماماً في مؤداه عن الفكر الشيتي الآدمي الأوّل . يقول عالم المصريات ( جاردنر ) وهو يصف نظرة المصريين للأحياء والآلهة والموتى : ( ثلاثة انواع من نفس الجنس البشري ، تخضع لعين المتطلبات المادية ، ولنفس العادات والرغبات ) . وقد اعتقد المصري حينذاك انّ روح الميّت لها قدرة ال ( با ba’a ) التي تمنحها الشكل الذي تريد تقمصه ، حتى وان كان حيواناً معيناً تختاره هي ، باعتبارها ( آخ ikh ) بمعنى ( روح مشعة ) ، رغم أني حين أدمج معنى الأخ كما تم استخدامه في العصور المتأخرة بمعنى ( المارد / الشبح ) اجد انّ هذا الفهم للروح وتشكّلها ومآلها هكذا مأخوذ فقط عن ظاهرة الآلهة المتشكّلة التي كانت تظهر للكهنة المصريين حين قدومها من عالم الشياطين .
ولعلّ النص التشاؤمي الذي تمت كتابته في عصر الانتقال الأوّل يبيّن لنا حقيقة ما جرى تلك الفترة ، حيث ورد فيه ( ليس ثمة ما هو حقّ ، لقد انتقلت مقاليد العالم الى أيدي من يرتكبون الشرّ مقترفي الاثم ) .
ورغم انّ فكرة الثواب والعقاب الأخروي كانت راسخة بفعل تعاليم آدم ومن ثمّ ادريس الا انّ الديانة المصرية الفرعونية غيّرت ملامح تلك الفكرة ، وأصبحت هناك صورة معدّلة عنها ، فمثلاً تمّ استبدال ملائكة الحساب في القبر – الذين يهتمون فقط لعمل الميّت – بفكرة القرين ، والقرين كان له كهنة يخدمونه مقابل ان يساعد الميّت ، رغم انّ الفكرة كلها ربما أتت من موضوع بذل الثواب الدنيوي لمساعدة روح ميّت ما ، والتي لا تزال مقبولة في الديانات الإبراهيمية .
بل انّ العزل الذي يعتمد الواقع الذي آمنت به الديانات الإبراهيمية للتفريق بين الملائكة والشياطين لم يعد موجوداً في الديانة الفرعونية ، والتي خلطت بين المفهومين ، حيث اصبح للشياطين ذات التأثير المفترض للملائكة ، ومن هنا تمّ التلاعب بجميع القصص التي تتناول فكرة ابليس ولعنته ، وأصبح له لاحقاً مظهراً اخر .
انّ تقمّص مصر للديانة الفرعونية هذه جعلها تنسلخ عن دينها الآدمي الأوّل عمليا ، رغم عدم احساس شعبها بذلك ، حيث سرت الفرعونية ببطئ وعبر سرقة العناوين والتعديل عليها . ولمّا ظلّت الارض العراقية تحتضن النبوات ودينها التوحيدي الذي يظهر الأسماء والاحداث الحقيقية صارت المواجهة محتمة بين الحضارتين ، اذ انّ التصوُّر لعالم الآلهة والاخرة وحتى الملائكة والشياطين بينهما صار متناقضا تماما ، وصار القبول بعقيدة احدهما يعني تجريم العقيدة الاخرى . ولم يكن من السهل على الدولة الفرعونية التغلغل الى الارض العراقية ، كما تغلغلت الى الارض اليونانية والأرض الرومانية ، لامتلاك العراقيين عقلاً فلسفيا ، صنعته الاثار التي أوجدها ادريس ومن ثمّ نوح ، لتصل لاحقاً للحركة الإبراهيمية الكبرى .
وفيما ذهب الفراعنة بعيداً في مطاردة الهكسوس حتى دخلوا الحدود العراقية ، رغم انهم لم يفعلوا ذلك مع حضارة اخرى ، وأرادوا جاهدين ازالة الأثر الهكسوسي ، إِلَّا انهم في عملية موازية تأثروا بالآلهة الخاصة بشعوب العراق والشام الوثنية . فنرى أنّهم احترموا تلك الآلهة الأجنبية حدّ التقديس ، مثل ( بعل ، عشتارت ، عنات ، قادش ، ارشوب ، كسرت ) ، وتمّ ادخال الأسماء الرافدينية ضمن الاستخدام المحلي المصري . ولم يكن هذا الامر ظاهرة شعبية ، بل كان قائماً على مستوى الملوك الفراعنة ، فلقد صار ( أمنحوتب الثاني محبوب ارشوب ) ، و ( رمسيس الثاني رضيع عنات ) ، و ( عنات وعشتارت دروع رمسيس الثالث ) ، و ( تحوتمس الرابع الفارس القوي مثل عشتارت ) ، فيما يجلس ( رمسيس الثاني ) الى يمين ( عنات ) وهي تخاطبه ( انني أنا أُمَّك ) . فيما شيّد احد بنّائي ( تحوتمس الثالث ) المدعو ( امينموبي ) لوحة ل ( ميكال سيد بيت شان ) ، وكما نعلم انّ ( ميكال ) قريب جداً من اللفظ الرافديني السامي للملاك ( ميكائيل ) .
ولا يمكن تفسير هذا التناقض في سلوك حضارة منغلقة اجتماعيا ودينيا الا بوجه واحد ، هي انها كانت ترى في عقيدة الهكسوس الساميين خطرا مباشرا على ديانتها ووجودها ، فيما كانت ترى تطابقا مع عقائد الأقوام الوثنية الباطنية من الساميين ، ولا تختلف معها الا في تسمية الآلهة فقط .
وَمِمَّا يعضد انّ هناك عالماً دينياً مشتركاً اكبر من الحدود الدولية والشعور الوطني كان يجمع من يتعبّد بالديانة المصرية انّ الاثيوبيين الناباتيين حين احتلّوا مصر اعتبروا انّ ملوكها – من المصريين – قد انحرفوا عن الديانة القديمة ولم يعودوا مخلصين للاله ( آمون ) ، الذي أقام له الإثيوبيون المعابد والطقوس وأخلصوا لديانته حين كوَّنوا الاسرة الخامسة والعشرين . فيما اعتبر اليونانيون انّ الاثيوبيين اكثر الشعوب تدريبا وحكمة ، نتيجة اخلاصهم لآمون .
لكنّ العراق كان على الدوام مصدر قلق للديانة الفرعونية ، وقد رأينا كيف أصبحت مصر مختلفة بعد حكم الهكسوس لها ، وبالتالي كانت نهاية مدينة ( آمون ) طيبة تبدو منطقية على يد الملك الاشوري ( اشوربانيبال ) ، عام ٦٦٣ ق م ، بعد حروبهم مع ( تانوت آمون ) .
انّ ظهور النبوات التوحيدية – لا سيما الكبرى – من ارض الرافدين وكونها مركز ومحور الحركة التوحيدية جعل العراق مصدر قلق دائم للفرعونية المصرية ، كما انّ المجتمع العراقي او الرافديني بتفرعاته عموماً كان على نقيض مع المجتمع الفرعوني السحري ، حيث كانت السلسلة الآدمية الشيتية الاولى تسكن الارض العراقية ، كما انّ ارض الكوفة ومدينة ( شوروباك ) خصوصاً المهد الاول لنوح ، ومن رافقه من السومريين التوحيديين الأوائل ، فقد جاء في ( ثبت الملوك السومري ) ما مضمونه (( في ( سيبار ) حكم ( اينميدورانا ) … ثم هُجرت سيبار ونقلت ملكيتها الى ( شوروباك ) . في ( شوروباك ) حكم ( اوبارتوتو ) … كملك – ملك واحد … ( المجموع ) خمس مدن , ثمانية ملوك حكموا … ثم اغرق ( الطوفان ) ( البلاد ) , وبعد ان اغرق الطوفان البلاد وهبطت الملكية من السماء ( مرة ثانية ) اصبحت ( كيش ) مقر الملكية . في كيش حكم ( جا اور ) … , وحكم ( جولا – نيدابا انا ياد ) …. )) . وهذا الاعتقاد مترسخ في الوجدان العراقي ، وقد اثبته الاسلام ، حيث جاء في كتاب مفاتيح الجنان في زيارة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( السلام على الشجرة النبوية ، والدوحة الهاشمية المضيئة ، المثمرة بالنبوة ، المؤنقة بالإمامة ، وعلى ضجيعيك آدم ونوح عليهما السلام … ) . لذلك كان من الطبيعي ان يتجه النبي ( موسى ) شرقاً في رحلته نحو الاكتمال .
حين كان للمصريين تأثيرهم في الفترة الكريتية لليونان كان للعراق وسوريا أثرهما المهم في الفترة المايسينية النقية لليونان ، حيث ثبت وجود علاقات وتواصل بين الجزر اليونانية والمناطق الفراتية ، على نحو أنتج مجموعة من الرؤى التي ساهمت في نمو العقلية الإغريقية للفترة ما بعد الدورية ، اي في عهد الدولة المدينة .

 

 

العولمة المقدونية

تقع مقدونيا جنوب شرق أوربا في شبه جزيرة البلقان استطاعت أسرة ارجيد أن تتربع على عرش مقدونيا في القرن السابع قبل الميلاد , ثم أصبحت خاضعة للسيطرة الفارسية في القرن الخامس قبل الميلاد , وفي منتصف القرن الرابع قبل الميلاد تولى عرش مقدونيا الملك فيليب الثاني الذي استطاع أن يوحّد بلاد اليونان في وحدة سياسية واحدة .
استغل الملك فيليب الثاني المقومات الإقتصادية التي تمتلكها مقدونيا وموقعها الجغرافي في شمال بلاد اليونان والضعف الذي أصاب دويلات المدن اليونانية نتيجة الحروب الأهلية اليونانية ونجح في توسيع رقعة مملكة مقدونيا فاستولى على المدن اليونانية الواحدة تلو الأخرى , وتمكن في عام 338 ق.م . من هزيمة أثينا واسبرطة في موقعة تعرف بإسم (خايرونا) فتم بذلك سيطرته على كل بلاد اليونان وبذلك انتهى نظام دويلات المدن اليونانية فعليا في هذا التاريخ وتوحد اليونان في وحدة سياسية ودولة واحدة لأول مرة في تاريخهم الطويل هي مملكة مقدونيا وكانت هي حجر الأساس لإمبراطورية الاسكندر .
اغتيل الملك فيليب الثاني في صيف 336 ق.م ، فخلفه على العرش ابنه الاسكندر المقدوني . ولد الإسكندر في صيف 356 ق.م ، وفي الثالثة عشر من عمره استقدم له أبوه العالم والفيلسوف أرسطو الى مقدونيا ليتولى تعليم وتثقيف ولده الأمير الشاب الاسكندر وعاش أرسطو مدة ثلاث سنوات في تعليم الإسكندر في القصر الملكي فعلمه فنون الحكم والسياسة والجغرافية والفلسفة والأدب اليوناني وأشعار هوميروس وقد تأثر الاسكندر في سلوكه وثقافته وتشبع بأفكار معلمه أرسطو , كما تعلم فنون الحرب وأساليب القتال من والده الملك فيليب الثاني وخاض معه عدة معارك وهو في السادسة عشرة من عمره وعندما بلغ العشرين من عمره تولى عرش مقدونيا بعد مقتل والده .
توجه الاسكندر من آسيا الصغرى وسيطر على سوريه بعد معركة سهل (ايسوس) عام 333 ق.م . وهزيمة الفرس, فاتجه جنوباً نحو فينيقيا وسيطر على صيدا وصور بعد حصارها 6 أشهر حتى استسلمت مدينة صور ثم اتجه الى فلسطين وسقطت غزة في عام 332 ق.م. فأصبحت مفتوحة .
دخل الاسكندر المقدوني مصر وحرر مصر من الإحتلال الفارسي ورحب به المصريون وأعجب الإسكندر المقدوني بالحضارة المصرية وقضى فيها عدة شهور أسس فيها مدينة الإسكندرية ثم غادر مصر نحو بلاد الرافدين . كان أول صدام لجيش الاسكندر المقدوني في العراق مع الجيش الفارسي عن (سهل كاوكا ميلا) وانتهت بهزيمة للفرس في عام 331 ق.م. وفرّ الملك الفارسي دارا الثالث فلاحقه الاسكندر المقدوني باتجاه الجنوب وظل يحرز انتصاراته على الفرس حتى وصل الى مدينة بابل وسط العراق وكانت مشهورة بتحصيناتها وقلاعها وأسوارها ولكن استقبل بالترحيب فأحسن معاملته للبابليين , بعد ذلك اتجه نحو إيران واستولى على عاصمة الإمبراطورية الفارسية مدينة برسيبولس وفر الملك الفارسي الى إقليم بقطريا وهناك قتل الملك الفارسي دارا الثالث على يد حاكم بقطريا الفارسي عام 330 ق.م. فكانت نهاية الإمبراطورية الفارسية.
بعد أن حقق الاسكندر المقدوني هدفه من القضاء على الإمبراطورية الفارسية , استمر في حملته العسكرية نحو آسيا الوسطى والهند وأخضعها في عام 327 ق.م. ووصل أقصى ما وصل إليه نهر السند شرقاً قرر بعدها العودة وعاد عن طريق البر حتى وصل عائداً الى بابل في عام 323 ق.م. واستغرق في حملته العسكرية 12 عاماً.
توفي الاسكندر المقدوني في بابل عام 323 ق.م . بعد أن حكم 12عاماً وثمانية شهور ولم يتم الثالثة والثلاثين , وترك إمبراطورية تمتد في ثلاثة قارات من بلاد اليونان غرباً الى نهر السند شرقاً وما بين جبال القوقاز وبحر قزوين شمالاً حتى شمال الجزيرة العربية جنوباً بما فيها مصر وضمت إمبراطوريته شعوب وثقافات وحضارات مختلفة.
عقد قواد جيش الاسكندر المقدوني بعد وفاه مؤتمراً في مدينة بابل واتخذ المجتمعون القرارات التالية :
– المحافظة على وحدة الإمبراطورية وتحت حكم أسرة فيليب الثاني .
– تقسم الإمبراطورية الى 24 وحدة سياسية يتولى إدارتها قواده العسكريين .
– يصبح القائد كراتيروس وصيا على العرش والقائد برديكاس قائداً عاماً للجيش.
لم تستقر الأمور حسب قرارات مؤتمر بابل فسرعان ما بدأت الصدامات العسكرية والصراع بين قواد الاسكندر المقدوني أدى إلى تقسم الإمبراطورية الى ثلاث دول يونانية هي:
أ- دولة البطالمة في مصر .
ب- الدولة السلوقية في سوريه وآسيا الصغرى والعراق وإيران والهند .
ج- دولة مقدونيا (الانتيجونية) في بلاد اليونان .
وبعد هذا السرد للحركة العسكرية والديموغرافية اليونانية المقدونية يمكننا ان نلاحظ :
خضوع الإسكندر لأستاذ ( موّحد ) هو ( أرسطو ) ، والذي كان احد ثمار الفلسفة الرافدينية .
ترحيب البابليين بقدوم الإسكندر وتخليهم عن الفرس يذكّرنا بترحيبهم في المستقبل بالجيوش الموحدة الاسلامية وتخليهم عن الفرس .
رغم ترحيب المصريين بالإسكندر الا انه فضّل انشاء مدينة جديدة يقيم فيها عسكره وحشوده ، بعيداً عن الاختلاط بالجنوب المصري ، الذي كان ربما لازال يخضع لتأثيرات الفكر الطيبي – النوبي الوثني .
اختيار الإسكندر لبابل كمدينة مركزية – او ربما عاصمة – لإمبراطوريته الجديدة يكشف عن اثر واضح للفكر الأرسطي داخله ، حتى انه توفي فيها .
يبدو واضحاً انّ هناك اندماج فكري سمح بتقارب الإسكندر مع البابليين الذين سمحوا له بالتواجد بينهم كحاكم ، رغم شراستهم وأنفتهم وتحسسهم للوجود الأجنبي ، حتى انّ الفرس لم يستطيعوا لا في القرون الاولى ولا اللاحقة التواجد – كحكّام – الا خارج المدن البابلية .
ويمكننا بوضوح ان نستشف مساهمة هذه الحركة المقدونية في عولمة الفكر التوحيدي ، او على الأقل في إيجاد الأجواء المناسبة عالمياً للنقاش الديني الحرّ ، او حتى الفكر الحر عموما .

 

 

الحلقة اليونانية

هناك من يقول انّ ( سيكروبس ) المصري هو اوّل من ادخل التمدّن لليونان ، أعقبه الفينيقيون ، فيما يرى المؤرخ ( هيرودوت ) انّ مجمل هويات الآلهة اليونانية وطقوسها مصرية ، وانّ عقيدة تناسخ الأرواح كذلك ، لكن من المؤكد ان العصر المبكر ( الفترة الكريتية ) شهد علاقات وصلات واضحة مع مصر . غير انّ امتزاج الحضارتين المصرية الفرعونية واليونانية الوثنية شكّل حلقة انتقال نحو الاخطبوط الوثني الروماني . حيث نلاحظ انّ الفن المصري حمل الأثر الإغريقي بعد فترة الاحتلال اليوناني لمصر ، لكنّه ظلّ محتفظاً بشخوص الآلهة ذاتها . ففي معبد ( بيتوزيرس ) المقام من اجل ( تحوت ) كان للذائقة اليونانية اثر واضح ، وفي المنازل الجنائزية اجتمعت أساطير ( اجاممنون ) و ( اوديب ) اليونانية مع أساطير ( تحوت ) و ( حورس ) الفرعونية . فيما قدّست المستعمرة اليونانية في ( منف ) الاله الهجين ( أوزير – حابي ) الذي يجمع بين ( اوزيريس ) والعجل ( أبيس ) ، تحت اسم ( اوزورابيس ) . حيث استشار ( بطليموس الاول ) اللاهوتي الإغريقي ( تيموثاوس ) واللاهوتي الفرعوني ( مانيتون ) من اجل عقيدة مشتركة بين الشعبين ، فكانت عقيدة ( أوزورابيس ) هي ما ارتضاه اللاهوتيان ، وتمت تسميته الاله ( سرابيس ) ، الذي كان مصريا في الأصل والاسم واغريقيا في المظهر . وتمّ انشاء معبد ( السرابيوم ) الكبير من اجل عبادته ، والذي استبدل لاحقاً – في عهد بطليموس الثالث – بمعبد اكبر وأفخم . وتمّ فرض عبادته بارادة ملكية ، لتبلغ ( السرابيومات ) بعد ذلك نحو أربعين .
وفي أصبحت لغة الخدمة الدينية هي اليونانية الا انّ المصريين استمروا في إطلاق الاسم القديم للاله الجديد ( أوزير – حابي ) . وصار الاله الجديد – حسب الباحثين – ذَا شعبية كبيرة في الجمهورين اليوناني والمصري .
وفيما كان اوزيريس حاكماً على عالم الموتى صار في العهد اليوناني حاكماً في عالم الأحياء ايضا ، وهي انتقالة كبيرة في العقيدة واللاهوت ، رافقت تلك الانتقالة في التسميات الخاصة بالاشخاص ، التي صارت للمرة الاولى تضيف اسم اله الموتى اليها ، مثل ( بيتوزيرس ) اي ( عطية أوزوريس ) . لكنّ هذه الانتقالات لم تكن باهمية اختزال الاله الأكبر ( رع ) في شخص ( أوزوريس ) منذ الاسرة العشرين ، حيث لم يعد ( رع ) يُستخدم كثيرا ، بل صار هو عينه ( أوزوريس ) ، وصار يشار له بعين الشمس . وقد أكّد احد نصوص الاسرة الثامنة والعشرين ذلك بشكل صريح وواضح ، حيث جاء فيه ( أوزوريس … الحاكم الذي احتلّ مقعد رع ) .
فيما تقدمت الآلهة ( إيزيس ) كما تقدّم زوجها ( أوزوريس ) الى المقدمة ، يرافقهما ابنهما حورس . وقد أصبحت ( إيزيس ) تُعبد في كل حواضر اليونان ، ومنها اثينا وايوبيا ، ولم تعد عبادتها وعبادة ( سرابيس ) وباقي الآلهة المصرية الفرعونية تُمارس سراً على يد الجماعات فقط ، بل صارت عامّة وشعبية ، كما انها رسمية ايضا .
ولم يكن انتشار هذه العبادة بصفة رسمية فقط ، لكنها كانت تسري بفعل انتقال الموظفين اليونانيين ، وبالتالي جلبهم تلك العقائد الى مدنهم ، كما في ثيرا وكنيدوس . ولم يمنع فقدان البطالمة اليونانيين لجزر بحر ايجة وباقي بلاد اليونان من استمرار انتشار عبادة ( سرابيس ) و ( إيزيس ) ، حتى انّ ( إيزيس ) بدأت تظهر على العملة المعدنية في اثينا . وقد وصلت هذه العقيدة الى ديونيسيوبوليس على البحر الأسود ، والى صقلية في البحر المتوسط . بينما نرى اليونان قد مزجوا بين الاله المصري ( تحوت ) وبين ألههم ( هرمس ) ، ومن هنا أطلقوا على واحدة من اهم المدن المصرية دينيا وهي مدينة ( الاشمونين ) اسم ( هرموبوليس ماجنا ) . وقد بقي الثالوث المصري المقدس ( أوزوريس – إيزيس – حورس ) في العهد اليوناني البطلمي معبوداً له طابع خاص ، سوى انّ حورس قد تمّ تصويره كطفل بين يدي أمه .
ويبدو انّ المصريين كانت لهم هجرة تجارية او ادارية في زمن اليونان او قبله ساهمت في بداية انتشار العقائد المصرية الفرعونية . فنلاحظ انّ عقائد ( إيزيس ) و ( آمون ) تواجدت في ( بيريوس) بين التجار المصريين ، ومنذ ( بطليموس الاول ) و ( بطليموس الثاني ) بدأ انتشار المصريين في جزر اليونان وجزر بحر ايجة . وقد ساهم الموظفون المصريون الذين ارسلهم البطالمة لهذه الجزر في سرعة انتشار تلك العقائد ، وقد بنيت ل ( سرابيس ) المعابد في ( ميليتوس ) و ( هاليكارناسوس ) ، رغم انّ عبادته وصلت الى ( ديلوس ) في وقت اسبق . ومن خلال هذه الجزر اليونانية عبرت العقيدة المصرية – بثيابها الجديدة – حتى وصلت الى قلب ( اثينا ) .
ويرى الباحث ( سلامة موسى ) في كتابه ( مصر أصل الحضارة ) انّ الهجرات المصرية نحو اليونان وجزرها كانت على ثلاث مراحل ، الاولى في عصر الدولة القديمة ، والثانية في ايام الدولة الوسطى ، والثالثة وهي الأهم ايام الاسرة السادسة والعشرين . وينقل سلامة موسى انّ أسطورة إغريقية تتحدث عن ( أسرة ملوكية مصرية ) كانت تحكم بلاد اليونان ، أنشأها ( دانوس ) ، لذلك هو يرى وجود أصل مشترك بين الشعبين . فيما ينقل انّ المصريين في الوقت الذي يرسمون أشكال الشعوب الاخرى مثل الزنوج والحيثيين بنحو من الاستهزاء فانهم كانوا يرسمون اليونان بالشكل الذي يتطابق مع هيئة المصريين . فيما تزوجت ( كليوباترا ) أخاها ( بطليموس الثالث عشر ) ، في واحدة من الممارسات الخاصة بالعوائل الملكية الفرعونية .
وقد ورثت روما مجمل الحضارة اليونانية ، بحكم الواقع او المخالطة او التأثر ، وفيها ومن خلالها بدأ الانتشار المكثف للديانة الفرعونية الوثنية ، حيث لعبت روما لاحقاً دوراً خطيراً في عولمة هذه العبادات والعقائد ، وبفعلها صار للديانة الفرعونية طريق جديد ، وتزاوجت لاحقاً مع الديانات الإبراهيمية التي تمت سرقتها ، وهذا ما سيأتي لاحقاً باْذن الله .
فرغم انّ معابد الآلهة القديمة ( حتحور ) ترجع الى العصور الفرعونية الاولى الا انّ اهم معابدها الحديثة بناها ( بطليموس التاسع ) في نحو نهاية القرن الثاني قبل الميلاد ، فيما استكمل بنائه خلفائه من البطالمة اليونان ، ومن ثمّ الرومان في عهد تراجان عند القرن الاول الميلادي .
الإغريق مجموعة إنسانية اجتمعت تحت ظلّ الظروف الصعبة ، وارتضت بعض المدن اجواء التمدن القريبة اليها ، وتوفرت لها عوامل ثقافية رافدينية وفينيقية مناسبة ، امتزجت برغبة في تطوير الذات الوطنية ، وشيء من السلام ، وطبيعة خلّابة وفَّرت السماء الصافية لعقلية متفتحة ، فيما اختلطت فيها أيضاً مجموعة من التأثيرات المجاورة والوافدة المهاجرة .
ولم يكن الإغريق مناسبين لعولمة الديانة المصرية بقدر ما كان الرومان مناسبين لذلك ، فالاغريق في مصر وحدها هم من اعتنق تلك الديانة وحاولوا نشرها في محيطهم اليوناني القريب ، فيما كان باقي الإغريق ممتزجين بعقائد اخرى . انّ ارتباط تأسيس الحضارة العقلية اليونانية ببلاد الرافدين وسوريا جعلها أقلّ استقراراً امام العقائد الوثنية ، لذلك جاء في نقش يوناني يعود للقرن الميلادي الاول ما نصه ( انهم بنحتهم تماثيل لاوزيريس وإيزيس ولالهة ذات وجوه حيوانية او بشرية من مادة فانية فانهم يخاطبونهم جميعا كآلهة . انه لمن الغباء ان تخلقه هو ذلك الذي خلقك . وانه لمن المحال على مثّال ان يعبّر عن الجوهر غير المتجسد واللامدرك والذي لا تحيط به الابصار واللامادي . وفي الحقيقة انه بالعقل وليس بالايدي يمكن فقط ان يُحتفظ بالسرّ المقدس . وهناك معبد واحد للاله هو الملكوت بأسره ) .

 

 

بنو إسرائيل

بنو اسرائيل هم الاسباط من ذرية يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام جميعا . وهم اثنا عشرة سبط ( يوسف او منسى – ابنه – , بنيامين , لاوي , روبين , يهودا , شمعون , زبولون , ياساكر , دان , نفتالي , جاد , عشير ) .
ان مجتمع بني اسرائيل كان مجتمعا موحدا لله , خاضعا لتعاليم دين ابراهيم الخليل . لكن القرآن الكريم يكشف لنا ضعف النفس الانسانية في ذلك المجتمع – مع ايمانها – , وكان الداء الاول الذي تسبب في انهيار هذا المجتمع لاحقا هو ( الانا ) . حيث تنافس ابناء النبي يعقوب في التقرب الى ابيهم والحظوة عنده , فسوّلت لهم نفسهم قتل اخيهم النبي ( يوسف الصدّيق ) . وهذا الامر يثير فينا تساؤلا اكبر : كيف كان تعاملهم مع الاخرين من بني اسرائيل الذين لم يكونوا من ذرية يعقوب النبي ؟!، {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ }يوسف9 ، {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }يوسف10 ، وكما هو واضح لم تكن نفوسهم خالية من الايمان ابداً , بل نراهم خلف هذه الآيات قوما مؤمنين تدغدغهم ( الانا ) .
ان ( الانا ) التي توّلدت في ذلك اليوم جعلت من بني اسرائيل مجتمعا ( مغلقا ) في الغالب , وهذا ما يتعارض مع مبدأ هجرة الهداية الابراهيمية . ومع ذلك كان ليوسف ان يصل الى مراتب دنيوية عالية بالاضافة لمقامه في الاولياء ، وقد كاد الله له من خلال وصوله الى ارض مصر في زمن الهكسوس ، (( وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
[الجزء: ١٢ | يوسف (١٢)| الآية: ٢١] ، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
[الجزء: ١٣ | يوسف (١٢)| الآية: ٥٤] ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
[الجزء: ١٣ | يوسف (١٢)| الآية: ٥٥] .
لكن رغم ذلك كان لوجود اسحق ومن بعده يعقوب دورا هاما في التأثير الاخلاقي والسلوكي على المجتمعات المحيطة , التي رأت في المجتمع الاسرائيلي الاول مجتمعا صالحا , يختلف عمّا رأته من مهاجرين سابقين .
ان مساهمة اسحق في حفر الكثير من الآبار في الارض الكنعانية , وفتحها امام كل الاقوام اوجد تصورا آخر لدى الاقوام المحيطة بالمجتمع الابراهيمي , يقوم على اساس المقارنة بين الصالحين والطالحين من قادة الاقوام المتجاورة , وشكّل سهما مهما في نظرية تولي الصالحين للقيادة .
ان المجتمع الفرعوني المصري كان يشكل اخطر العقبات التي تواجه نشر العقيدة الايمانية الابراهيمية , لان ذلك المجتمع كان في الواقع يتعبد بالشريعة السحرية , ويمارس طقوس السحر الاسود ، لذلك كان بحاجة ( الهجرة الايمانية ) , التي تزيل عنه الدنس وغبار الاوثان , وتوقظه من غفلة الجهل بالرب الحقيقي . لذلك كان على بني اسرائيل ان يهاجروا , وسنة الهجرة البلاء , فحدث القحط في كنعان , وتوجه اخوة يوسف الى ارض مصر كباقي الاقوام المحيطة , فعرفهم يوسف , وخطط لتنفيذ مهمة الرب , ونجح عبر استغلال ( دين الملك ) ان يثبت حقوقه التي صادرها القريب قبل البعيد , وتاب اخوته , فطلب الى الملك الهكسوسي ان يستقدم بني اسرائيل الى مصر , فرحب الملك باولياء الله من آل يعقوب , واسكنهم احسن ارضه , واكرم مثواهم .
كان يعقوب النبي يستشرف المستقبل ويدرك القادم , وهو يعلم مقدار تأثير سحر المعتقدات الفرعونية في حال انهار الهكسوس وعاد الفراعنة للحكم , لذلك جمع بنية واوصاهم وبيّن حقيقة الرب الخالق , لماذا ؟ , فهي خطوة قلّما فعلها احد الانبياء , ذلك انه ادرك مقدار الشبهة التي سيوجدها مفهوم الرب الفرعوني على العقل الاسرائيلي .
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( القرآن الكريم : البقرة ، 127 – 134 )
لكن من الطبيعي ان يدفع المجتمع الاسرائيلي ضريبتين عند انتصار الفراعنة على الهكسوس ، الاولى لأنهم كانوا موحدين يدينون بعقيدة تجرّم عقيدة الفراعنة ، والثانية لأنهم كانوا جزءاً من المجتمع الهكسوسي ذاته .
كان الفراعنة هذه المرة اقوى لسببين انهم عرفوا العربة الحربية من الهكسوس وانهم اسقطوا اهم القوى المنافسة في المنطقة, فكان على بني اسرائيل ( يعقوب ) ان يدفعوا ثمن علاقتهم بالهكسوس ,فاستعبدهم الفراعنة واذلوهم .
توفرت في بني اسرائيل صفتان مهمتان يحبهما الشيطان هما : ( الانا ) و ( امراض الاستعباد النفسية ) , فتأثروا كثيرا بالمجتمع الفرعوني المصري ووجد البعض فيه ضالتهم ,وكذلك وجد الشيطان جنودا ورجالا كان يبحث بجهد عن مثلهم .
ان العالم الجديد الذي يخدم رغبات الشياطين هو القائم على تحالف الفرعون وهامان وقارون , وهو ثلاثي كان فيه فرعون هو السلطة المتواصلة مع العالم الآخر , وهامان هو الاداة التنفيذية والعلمية , وقارون هو الكيان المادي الشره للمال والثروة واللذات . لقد تم اختيار قارون لهذه المهمة لاسباب ذاتية وموضوعية , فهو يحمل خصائص ( الانا ) التي انحدرت بالمجتمع الاسرائيلي , كما انه عنصر داخل المجتمع الايماني المعادي للمجتمع الفرعوني , وهو ايضا قريب من العائلة الابرز والاهم في مجتمع بني اسرائيل الموحد , هو اذاً ابن المجتمع الديني والمرجعية الدينية لمجتمع بني اسرائيل .
قال تعالى : ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ( 76 ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ( 77 ) )
( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ( 79 ) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ( 80 ) ) ( القصص ).
لقد كان قارون احد اهم الاسباب لاختراق المجتمع الايماني الاسرائيلي , وقد كان تملكه من قبل الشيطان هو الباب الذي خرج منه المئات بل الآف الذين يحملون صفة قارون في المجتمع اليهودي المعاصر , والذين يؤدون ذات الدور .
من لطيف الروايات التي تربط اساليب القارونيين قديما باساليبهم حديثا هي : (عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : لما أتى موسى قومه أمرهم بالزكاة ، فجمعهم قارون فقال لهم : جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها ، فتحملوا أن تعطوه أموالكم . فقالوا : لا نحتمل أن نعطيه أموالنا فما ترى ؟ فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغي بني إسرائيل فنرسلها إليه ، فترميه بأنه أرادها على نفسها ، فدعا الله موسى عليهم فأمر الله الأرض أن تطيعه ، فقال موسى للأرض : خذيهم . فأخذتهم إلى أعقابهم , … ) ( المستدرك على الصحيحين ) .
وكانت الفترة بين نزول يعقوب مصر وظهور موسى عدة قرون , تغير خلال ذلك المجتمع الاسرائيلي بصورة كبيرة و انحرف , الا انهم لازال فيهم الكثير من المؤمنين , ولازالوا المجتمع الايماني الاكبر في العالم , فكان من الضروري ان يستنقذهم الله من براثن فرعون وهامان وجنودهما ويريهم ويري بني اسرائيل من آياته ,فبعث فيهم موسى عليه السلام ,الا ان مهمة موسى كانت صعبة ومضاعفة , لانه سيواجه فرعون ومن خلفه الشياطين , وكذلك عليه ان يبين لبني اسرائيل حقيقة ما يجري ، لأنّ العقائد المصرية الفرعونية اقترنت بالسحر وكانت معقدة جدا ، لذلك انبهر لها طائفة كبيرة من بني اسرائيل في ظلّ غياب الجو الاجتماعي المناسب .
كتب الباحث محمد حسن المبارك ما نصه : ( لا شك أن بني اسرائيل خلال وجودهم في مصر تأثَّروا كثيرا بالثقافة الوثنية التي كانت سائدةً هنالك ، إلاَّ أنهم و بعد خروجهم من مصر استرفدوا الكثير من المعطيات الوثنية لدى المصريين القدماء ، محاولين بذلك إدخاله على دينهم اليهودي الذي اختلطت به وثنيات و أساطير كثيرة، فقد عرفوا تقاليد كابالا المصرية القديمة ونقلوها من جيل إلى جيل كتعاليم شفوية .
فالحضارة الفرعونية المصرية تعد من أقدم الحضارات الإنسانية، وكان الفراعنة على رأس السلطة،حيث يحكمونها بمطلق القسوة و الدكتاتورية ، ثم يأتي فريقان مهمان كانا يحيطان بفرعون ، وهذان الفريقان هما “الملأ” المذكور في القرآن الكريم . و هما:
ـ الجيش والذي يمثل القوة المادية لفرعون.
ـ السحرة أو الكهان، و الذين كانوا يمثلون الفكر والفلسفة التي يعتمد عليها فرعون، مع اشتغالهم بالسحر أيضاً و تأديتهم لطقوس سحرية معينة من السحر الأسود ، بالإضافة إلى اشتغالهم ببعض العلوم الطبيعية كعلم الفلك والرياضيات والهندسة .
و قد تكونت خلال هذه الحضارة الطوطمائية قاعدة هائلة من الثقافة السحرية السوداء ، وقد انتقلت تلك الثقافة تدريجياً الى بني اسرائيل من خلال إقامتهم عدة قرون في مصر ، و تشكَّلت في تعاليم كهنوتية و فلسفية و سحرية عُرفت في التاريخ اليهودي فيما بعد بثقافة الكابالا ، و التي قاموا من خلالها بنقل التراث الوثني لمصر القديمة إلى الأجيال الأخرى … ) .
لقد كانت بعثة موسى ضرورة تحتمها الحاجة الواقعية المركبّة ، حيث الطغيان الفرعوني وشريعته المعقدة السحرية ، وكذلك الانبهار الذي عاشه المجتمع الاسرائيلي امام هذه القدرات المادية الخارقة لهذه الشريعة . فالمجتمع الاسرائيلي عانى ضغطاً نفسياً وفاقة للمادة ، بسبب الاستعباد والاستغلال الفرعوني ، لذلك صار معيئاً في جزء واسع منه للدخول في عالم المادية الظلموتية .
بعث الله تعالى موسى كسفينة يركبها من يريد النجاة من بني اسرائيل ، وكذلك كدليل يري فرعون وجنوده وملأه وشعبه انّ القدرات الخارقة لشريعة الفراعنة ليست حكراً عليهم ، ولا تعني انّ المنتج لها اله ، لكنها تلاعب بفيزياء الطبيعة ، التي أوجدها الخالق الأكبر ، وهو الله جلّ شأنه .
من هنا كان لموسى مهمة كبيرة ، تدعمها المعجزات الكبرى ، الموافقة لما عليه ذلك المجتمع من اعتقادات وممارسات ، لكنها في الطرف الاخر الصالح . وقبل خروج موسى بشعب بني اسرائيل ومن معهم اظهر امام الملأ الحقيقة كاملة .
[ وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٥٣] ، [ ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتابَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْء وَهُدى وَرَحْمَة لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الجزء: ٨ | الأنعام (٦)| الآية: ١٥٤] ، [ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بآياتنا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الجزء: ٣ | آل عمران (٣)| الآية: ١١] .
وفي سورة يونس : (( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِين )) .
وفي سورة الاعراف : (( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُون )) .
وهذه الآيات من سورة الاعراف القرانية كاشفة عن عدة نقاط :
١ – جهل فرعون بحقيقة اله موسى ، واختلاط اللاهوت في ذهنه ، نتيجة للتلاعب التاريخي الكبير الذي اصاب عقيدة التوحيد والخلق في مصر .
٢ – إيمان المصريين بالسحر تماما ، لذلك جعلوا كلّ أية خارقة يرونها فرعاً عن السحر ، وبالتالي استخدموا لمواجهة موسى كبار السحرة في مجتمعهم .
٣ – انّ السحرة لم يكونوا يمارسون طقوسهم دجلا ، بل كانوا يَرَوْن ما يفعلون جزءاً من شريعة صادقة تربطهم بالإله ، لذلك آمنوا عند اللحظة الاولى التي اكتشفوا فيهم انهم كانوا مخدوعين ، وحين عرفوا حقيقة وجود عوالم كانت تؤثر فيهم ، وانّ الله الخالق اكبر من ذلك كله .
٤ – انّ المادية وحبّ الملك والدنيا طغت في نفس فرعون ، ما جعله في هستيريا منعته من اتبّاع رأي المختصين – السحرة – ، وصار يتوعد بالقتل والابادة .
٥ – انّ المنتفعين من ملأ فرعون واصحاب رأس المال والنفوذ كانوا يريدون إبادة كل الذي يتعلق بموسى قبل انهيار منظومتهم النفعية .
٦ – كان على المجتمع المؤمن ان يمرّ بابتلاءات وامتحانات متعددة ، تستلزم الصبر والاستعانة بالله الخالق .
٧ – وهي نقطة مفصلية ، حيث كشفت الآيات انهيار النفس الإسرائيلية في بعض جوانبها ، نتيجة الضغط والمادية ، وبالتالي تذمّرها ، وبداية الانشقاق داخل المجتمع الإيماني التوحيدي . لذلك جائت الآيات اللاحقة من سورة الاعراف لتعرّفنا مدى المادية والتشوه الفكري والعقائدي الذي اصاب هذا المجتمع : (( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِين )) الأعراف .
ولسنا بحاجة الان لمعرفة حقيقة عقيدة ( العجل ) ومن أين جاء بها بنو اسرائيل ، بعد ان عرفنا عمق هذه العقيدة في الديانة الفرعونية القديمة . ومن هنا وَمِمَّا سبق نعرف مدى تأثير الحضارتين السامية والفرعونية إحديهما في الاخرى ، وبالاتجاه المعاكس .
لكن مع ذلك فالمجتمع الاسرائيلي تضعضع وانشقّ ، لكنّه لم ينحرف بالكامل ، بل ربما بقيت الأغلبية على ايمانها في الجملة . الا انّ الملاحظة المهمة هو انّ الانحراف دبَّ في الكهنوت الرجالي الاسرائيلي ، حيث كان صاحب بدعة ( العجل ) احد مساعدي موسى ذاته ، وهو ( السامريّ ) ، (( قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ )) كما في سورة طه . لكنّ موسى مع ذلك لم يكن شديداً في مخاطبة السامريّ ، ربما لانه من اصحاب التاريخ الكبير في حركة بني اسرائيل (( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)) كما في نفس السورة السابقة .

 

 

المرحلة اليونانية

وحّد الإغريق بين الآلهة المصرية ( نخبت ) وآلهتهم ( اليثيا ) تحت اسم ( اليثياسبوليس ) ، وهو الاسم الذي أطلقوه على مدينتها ( نخب ) ، وكذلك كانت سجيتهم مع باقي الآلهة المصرية ، حيث ورثوا تقريبا تلك الديانة ، لكن بمسمّيات تناسب اللغة اليونانية . ويرى بعض الباحثين ان العصر اليوناني أراد الامتزاج بمصر القديمة ، لا بمصر التي سبقته مباشرة ، لذلك حاول تقليد الاولى في رسوماتها ونحتها وفي مقابرها . ولقد ولدت أشهر الملكات المصريات – مع حشبسوت – وهي ( كليوباترا ) في مقدونيا اليونانية ، وتلقت تعليما رفيعا هناك ، لكنّها حكمت مصر . انّ المثير في ذلك التداخل بين الإغريق والمصريين هو القبول اليوناني لعقائد المصريين الدينية ، في مقابل انهيار الفلسفة الاخلاقية المشهورة لليونانيين . حيث انّ اليونان قبيل الميلاد لم تعد تحمل من سمات الفلاسفة الكبار الا الذكرى ، حتى انها صارت مطمعاً للغاليين البرابرة . فيما أصبحت في فوضى سياسية ضخمة .
انّ تغلغل الديانة الفرعونية داخل الكيان البطليموسي اليوناني في مصر والذي ترافق مع التغلغل البطليموسي فكرياً في ارض اليونان خلق فيما يبدو جليًّا فوضى اجتماعية ، ساعدت في نموها الفوضى المحيطة ببلاد اليونان ذاتها . لكنّ هذه المرحلة كانت المقدمة لميراث جديد هو الأمّة الرومانية .
انّ النفوذ والممازجة اليونانية لم تكن وليدة العهد البطلمي وحسب ، بل ابتدأت من قرون اسبق ، ربما كانت ابعد من القرن السابع قبل الميلاد ، منذ عهد الاسرة السادسة والعشرين . حيث اعتمدت القيادات المصرية المتنافسة على الجنود المرتزقة ، وكان اليونانيون من اهمهم .
فيما يرى ( هيرودوت ) انّ المصريين هم اوّل من استخدم اسماء الآلهة الاثني عشر الذين قدّسهم الإغريق ، وهم اوّل من تنبّأ بطالع ميلاد الشخص كذلك ، وأوّل من استحدث لقاءات ومسيرات احتفالية وعلَّم الإغريق إياها . وبذلك فهيرودوت يرى انّ كلّ مقدّس يوناني يرتبط بأصل مصري . ولا حاجة لبيان انّ تلك المقدسات المصرية ربما لم تكن في جذورها وثنية ، كما انها لم تكن دائماً مصرية ، وربما لم يعي هيرودوت انّ الكثير منها ربما دخل بلاد الإغريق من طريق اخر .