في احدى سنوات منتصف التسعينات حصلت بعد انتظار طويل على قطعة أرض في احدى مناطق جانب الكرخ من بغداد, والمخصصة لضباط الجيش العراقي, بصفتي أحد مقاتليه منذ عام 1980. كنت أطمح لبناء مسكنا لي ولعائلتي,إذ كنت حينها, أقيم في شقة مستأجرة, ولكن ضعف الإمكانيات المادية وشحة مواد البناء وغلاء أسعارها , حال دون ذلك. ولكن في أواخر العام 2002, وبعد توفر مواد البناء بأسعار مناسبة بموجب مذكرة التفاهم , وإطلاق سلفة القرض العقاري, توكلت على الله وشرعت ببناء (بيت العمر), وأنا في خريف العمر.
في الأشهر القليلة التي سبقت الغزو الأمريكي الغاشم وكارثة الاحتلال , كنت قد أنجزت بناء هيكل من طابق واحد, وبعد الاحتلال بشهر تقريبا تفقدت بيتي فوجدت أن كدس الاسمنت الذي اشتريته قبيل أيام قليلة من العدوان الأمريكي, على أمل استئناف العمل لاحقا, قد تمت سرقته على آخره. فقررت صرف النظر عن إكمال البناء, بسبب الظروف المستجدة, وضيق ذات اليد. ثم اضطررت لمغادرة بغداد , المدينة التي قضيت فيها ثلاثة عقود من عمري, طالبا في مدارسها , ودارسا في كلياتها, والتي كان آخرها استعدادي لمناقشة اطروحة الدكتوراه في الجامعة المستنصرية في الفكر السياسي, ولكن الاحتلال اللعين وحثالاته, قد قضى على كل تلك الأمنيات, غادرت بغداد مكرها, بحثا عن مكان أقل خطرا, ولا أقول أكثر أمنا, في تلك الأيام السوداء التي استبيح بها الوطن وصار مرتعا لشذاذ الآفاق والمجرمين والأوغاد, ليذبحوه من الوريد الى الوريد,بحجج باطلة وشعارات زائفة.
من أوائل القرارات التي اتخذها المحتلون, هو قرار حل الجيش وقذف أفراده الى الشارع وحرمانهم من مستحقاتهم كلها, وليس هذا فقط, بل صار كل ضابط وكل صاحب شهادة, هدفا للمليشيات الطائفية الايرانية الاجرامية التي دخلت العراق برضا وتواطئ المحتلين الامريكان, فقطع الأرزاق لم يشفِ غليل تلك القطعان المجرمة المسعورة, فبدأت بقطع الأعناق.
قضيت سنين مهجّرا داخل وطني المستباح والذي يرزح تحت احتلال همجي مزدوج؛ أمريكي صليبي وفارسي مجوسي, وبعد خمس سنوات صُرفت لنا رواتب تقاعدية بائسة لا تتناسب أبدا مع ما قدمناه لهذا الوطن من تضحيات على مدى ربع قرن من أقسى السنوات التي مرت على العراق, وكانت عبارة عن سلسلة متصلة من الحروب والحصارات, عشنا معظمها ونحن بعيدين عن أهلنا وبيوتنا, فقد كانت المعسكرات والخنادق ومواجهة الموت في أية لحظة, هي السمة الغالبة لتلك المرحلة الصعبة من أعمارنا التي ذهبت سدى.
وكأن تلك المآسي والمصائب لا تكفي, فجاءوا بصنيعتهم(داعش), ليخربوا ماتبقى من شيء قليل في هذا الوطن الذي شيده الأجداد بالدم والدموع والجهد والتضحيات عبر 82 عاما من النضال والكفاح والجهاد,فخرّبت المدن والحواضر وهُجّر أهلها, واستباحت الديار قطعان القرامطة الجدد من المجرمين الطائفيين الحاقدين المتخلفين, الذين دربتهم أيران الشر لمثل هذا اليوم, للانتقام والثأر من الذين أذلّوها ومرّغوا رؤوس الفرس المجوس المليئة بالعنجهية في التراب, وأذاقوا دجالهم الأكبر كأس السم الناقع.كانت الخسائر هذه المرة قاسية للغاية, وأشد من سابقاتها,فقد خرجنا سراعا بأنفسنا للنجاة من شر مستطير تضمره تلك الميليشيات لنا بعد أن جاءتها الفرصة على طبق من ذهب, ف(شيخها) وأكبر زعمائها يحرّض علنا, وهو بموقع رئيس وزراء العراق, على مدن بعينها, ويصفهم بأنهم (أحفاد يزيد)!!,وأنه يجب استئصالهم وتدمير مدنهم, وان ذلك من علامات ظهور المهدي!!!.
البيت البسيط الذي شيدته حوالي سنة 2009,ونقلت اليه بعض أثاث شقتي السابقة في بغداد, كان أول الخسائر,فبما انني من (أحفاد يزيد)!!, حسب توصيفات العقيدة الفاسدة والموغلة في الاجرام التي تدين بها تلك الشراذم, فقد قاموا بسرقة بيتي ,ثم أحرقوا ماتبقى منه, وكان أكثر ماحزّ في نفسي حرق المكتبة الشخصية التي جمعتها خلال أكثر من ثلاثين عاما, بما تحتويه من كتب نادرة ومخطوطات ووثائق وصور وغيرها.
في ظروف كالتي وصفت جانبا يسيرا منها, وكانت تمرعلينا بساعاتها وأيامها الطوال, أثقل من الجبال الرواسي, يغدو الاهتمام بالأمور المادية في أدنى قائمة الاهتمامات, ويصبح الحفاظ على الدين والكرامة وأبسط مستلزمات البقاء هو الشغل الشاغل, ولكن ماحصل في أحد أيام سنة 2016, كان صادما لي بحق, فقد تلقيت نداءا هاتفيا من شقيقي الكبير المقيم في بغداد, وهو يطلب مني الإسراع بإرسال سند قطعة الأرض التي أشرت اليها,ومعها توكيل من كاتب العدل وبقية الوثائق الشخصية, ولم يفصح عن السبب, كما انه لم يتح لي المجال للاستفسار عن سبب ذلك, ولكني حدست إن أمرا غير سار قد وقع . وعلى أية حال أرسلت ماطلبه مني, وبعد يوم أو يومين, عرفت السبب, فقد أخبرني أخي بأنه عند ذهابه لبيتي(الهيكل), وكنت قد كلفته ببيعه بعد أن تم رفع اشارة الحجز عنه, بعد سنوات طويلة من فرضه ظلما وعدوانا, فوجد أخي أن هيكل البيت قد أزيل تماما من على وجه الأرض وتم تنظيف القطعة من الأنقاض والمخلفات, والأدهى من ذلك أن صاحب الآلة التي هدمت البناء وضع رقم هاتفه على السياج كنوع من الدعاية أو لسبب آخر أجهله, وكما علمت لاحقا من بعض الجيران الذين حاولوا منعه من هذه الفعلة الآثمة والشنيعة, فأنه لم يمتثل وتعامل معهم بتحدٍ , مما يدل انه شخص مسنود من جهة متحكمة. بعد أن رأى أخي ما رأى, وأن الهيكل صار قاعا صفصفا, اتجه في اليوم التالي بعد أن استلم الوثائق التي أرسلتها له, الى دائرة التسجيل العقاري المعنية, لأنه توقع أن المافيا التي هدمت البيت,ستقوم, أو قامت بتزوير أوراقه الثبوتية, وهناك انفجر بهم غاضبا, ووجد العجب العجاب, فاكتشف أن عصابة برأسها المعاون المدعو(م . ج), وبالتعاون مع بعض ضعاف النفوس من الموظفين ومعهم بعض الدلالين, تقوم بتزوير سندات قطع الأراضي والبيوت وبيعها دون علم أصحابها الشرعيين.
وبعد جهد جهيد ومراجعات كثيرة , تمكنت من استعادة قطعة الأرض بدون البناء الذي هدمه الفجرة الفاسدين المجرمين, هدم الله مايملكون على رؤوسهم, جزاءا وفاقا. وقمت ببيعها بسعر بخس ودون ثمنها الحقيقي, خشية من أن يعيد الكرّة محتال باغٍ آخر, فليس كل مرة تسلم الجرة,كما يقولون, ففي زمن حكم الأوغاد والسفلة والحثالات, لم يعد هنالك حرمة لشيء, فالسلطة تتحكم بها الميليشيات المنفلته بلا قانون يردعهم ولا ضابط يضبطهم, وهكذا عندما يتسلط الأوغاد والساقطين ويوسد لهم أمر البلاد والعباد, يكون باطن الأرض خير من ظاهرها, والله المستعان وإليه المشتكى وعلى الباغي تدور الدوائر.