19 ديسمبر، 2024 10:25 ص

قصائد تتعلم المشي

قصائد تتعلم المشي

بصفتي من المهتمين بادب الاطفال والعاملين بحقله الجميل منذ ما يقارب الثلاثين عاما فقد وفرت لي الطفلة الموهبة نور ليث اكرم متعة بأمس الحاجة لها لانني مفتقد لها منذ سنين لا بل اجزم بانها قد بددت خوفا ويأسا كادا ان يسيطران على عقلي وروحي ودواخلي من ان ادب الاطفال يشكو قلة المواهب الواعدة ان لم اقل قرب جفاف نهرها الذي لم تكن امواجه تعرف الهدوء ذات يوم.
وبحكم تجربتي كفاحص للنصوص الشعرية في دار ثقافة الاطفال منذ سنوات فانني اقف منحنيا ورافعا قبعتي  لابصم لها بالعشرين وليس بالعشرة كما يقولون لانها شاعرة واعدة قادمة وهي تحمل جواز المرور وتأشيرة الدخول الى القلب بكل يسر ورقة وشفافية.. بل تستحق الانتباه والاحترام والقراءة لسببين اولهما الموهبة المعززة بالجرأة العالية وامتلاكها لقاموس لغوي يمنحها القدرة على التفوق على الكاميرا التي تصور كل ما حولها دون ان توفر للعين متعة توقع المفاجأة لان قصائدها لوحات تجبر القارئ على الانبهار بما هو غير متوقع وهي لاتزال في عمر الزهور اما السبب الثاني فهو ان الشعر العربي بصورة عامة يشكو قلة الشواعر اما شعر الاطفال فانا اجزم بانه يكاد ان يكون ذكوريا بامتياز وهذا ليس انحيازا للذكورية بل انه واقع معاش في حياتنا الثقافية التي تشهد ولادة شاعرة تميزت في الكتابة لشعر الاطفال.
ان يكتب الكبار في السن شعرا للاطفال فهذا يتطلب منهم قدرة عالية على تقمص  الطفولة بكل ما تحمله من براءة وعفوية دون افتعال او تصنع ممل فان افلحوا في تقمص هذا الدور فمن المؤكد انهم سيشار لهم بالبنان بالنجاح والتميز اي انهم يكتبون للطفولة لا عنها وهذا هو الحد الفاصل بين ادباء الاطفال الناجحين ممن كتبوا وسخروا اقلامهم للإبداع في مختلف مجالات الادب المخصص للأطفال وبين من كتبوا عن الطفولة وليس لها دون ان يكون لهم اية علاقة مع الطفولة سوى  استخدام مفردات من قاموس الطفولة مستسهلين الكتابة للاطفال ومتصورين ان الكتابة لهم تعني النزول الى مستوى صغر اعمارهم وحجوم اجسامهم لانهم سيستقبلون كل ما يقدم لهم في حين ان العكس هو الصحيح اذ ان على من ينبري لهذه المهمة الشاقة والصعبة ان يرتقي الى مستوى مخيلتهم التي لا تحدها اي حدود لانها مطلقة وتحلق باجنحة في فضاءات مفتوحة وانا هنا استعين باجابة الروائي الشهير صوموئيل بيكيت حين سألوه ذات مرة: لماذا لم تكتب للاطفال؟ فكانت اجابته صريحة وواضحة (لأن تجربتي لم تنضج بعد) ولنا ان نتصور قيمة وحجم مسؤولية الكتابة للاطفال من خلال تلك الاجابة الصريحة للكاتب بحجم ابداع صومئيل بيكيت.
ان قراءتي لقصائد الطفلة الشاعرة نور ليث اكرم  التي تحمل معها نبوءة الشعر بكل صدق وبراعة جعلتني لم اتمالك نفسي وقادني فرح كبير جعلني اشعر مع كل قصيدة ببهجة وسرور وكأنني اعوم بين اسراب من طيور الماء في نهر جميل ولكي لا اغالي في امتداحي لموهبة نور التي لا تزال بحاجة ماسة الى الكثير من الصقل والمران وتجنب التكرار في الموضوع والاسلوب لاكثر من قصيدة ولكنني اكون منصفا لها بان في قصائدها المختلفة الشيء الجديد في الشكل والمضمون والالتصاق الفاعل بالبيئة وبمرور سريع الخص ملاحظات لما وجدته  في قصائدها المثيرة للانتباه ففي قصيدة حكاية تصور الصوت الذي احدثه قلم اختها عند الكتابة والذي سبب لها ازعاجا وايقظها من نومها الهادئ وهي اشارة ذكية الى المحافظة على الهدوء وفي قصيدة هواء بارد تشعر حين تمسح دمعتها بيدها وهي جالسة على كرسي احلامها بهواء بارد يتجمع ليزيح عن قلبها كل ما يحيط  به من احزان وفي قصيدة صديق العمر كله تصور محبتها لجدها الذي علمها الصبر وكل الاشياء الجميلة التي لم تكن تعرضها من قبل ولذا فهي تراه افضل جد في هذا العالم اما في قصيدة الفرحة والضيق فانها تجسد  انعكاس الحالة النفسية على مجمل نشاط وسلوك وتفكير الانسان وهذا ما تؤكده في قصيدة مكان الاحزان بان الاحزان تلاحق الانسان في كل زمان ومكان رغم سعيه الدؤوب في البحث عن الفرح والسعادة في حين انها جعلت من نفسها مرآة تعكس حالة الارتجاف والبرد الذي يمكن لها ان تكون قد شاهدته من خلال معاناة صديقة او صديق وهذا ما تجلى بوضوح في قصيدة مكان بارد وفي قصيدة صديقة الاحلام تقسم العالم الى حديقتين الاولى تمنحها البهجة والسرور اما الثانية فهي التي تجعلها تشعر بالحزن والتعاسة وتلك صورة من صور الصراع الازلي بين الخير والشر بمختلف صورهما.
ان نور ابنة البيئة العراقية بكل ما تحمله من الم وطيبة وبراءة جسدت من خلال قصيدة اخي الصغير بكل براعة محبتها لاخيها رغم انه طفل مزعج يتسبب في ازعاجها في اكثر الاحيان وهذه اضاءة بامتياز للقلب الذي لا يعرف معنى الكراهية وفي قصيدتي  نشيد المدرسة والام فانها تصف حبها لهما لانهما افضل من منحها الحب والعلم والتربية والرعاية وفي قصيدة ندى التي بدأتها بداية جميلة وبنفس حكائي الا ان المفاجأة في نهاية القصيدة التي ظلت  غامضة يكتنفها اللا وضوح وتأكيدا لالتصاقها بالبيئة التي لم تفارقها في اغلب قصائدها ان لم اقل  جميعها فانها تخيلت في قصيدة اماكن ان بطلتها اميرة تجلس على عرش جميل في مكان عال والناس يحيطون بها من كل جانب.. وتستلهم نور ببراعة كل اجواء الطفولة في قصيدة السؤال حين تسأل البطة بعبارة بك باك؟ لتجد ان الاجابة على سؤالها بالسؤال ذاته بك باك ويتجلى التعاطف والنفس الانساني بكل وضوح في قصيدة الفقراء الذين تتعاطف معهم حين تراهم في السوق وتسعى لمساعدتهم بما تستطيع.
وخلاصة القول ان تجربة نور ان لم تكن بمساعدة من احد فانها تجربة جديرة بالرعاية والاهتمام وان كانت بمساعدة وتوجيه فان هذا الامر لا ينتقص من ابداعها لانها برعم غض لا يزال بامس الحاجة  الى من يشذبه ويسقيه ويوليه الرعاية التامة والاهتمام المطلوب.
اتمنى ان تتواصل نور مع موهبتها بالكتابة وان نراها بقصائد جديدة قد تجاوزت تعلم المشي الى مرحلة العدو السريع لعداءة ماهرة تمتلك الثقة بالنفس على تحقيق ارقام قياسية مثلما اتمنى لها ان لا يصيبها الغرور لانه الافة التي قتلت الكثير من المواهب.. وان لا تنقطع عن القراءة لانها نهر المعرفة الذي لا يجف.

أحدث المقالات

أحدث المقالات