أعطني شارة لتساعد هذا الغريب
أعطني وردة كي أحل الطلاسم
قبل المغيب
أعطني نجمة واحدة
دلني كيف أمسك بالقلب ليلا
وأغتصب الرجفة الواعدة
بزق من الخمر والحب والأصدقاء
الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في قصيدة عن مدينة قسنطينة
حين نزلت إلى قسنطينة بعد غياب استطال ثلاثين عاما كانت تترد د في ذهني قصيدة الشاعر عزالدين المناصرة في مدينته الثانية قسنطينة التي عاش بها زمنا ودرس بجامعتها، كنت مثله أسال أين ابن باديس ومالك حداد وكاتب ياسين ؟ وأين ذلك الصخب الذي تفجر زمنا نشوة وشعرا وفنا وفكرا ،وأين القسنطينيات اللائي كن يتماوجن كسنابل القمح على إيقاع فرقة “العيساوة” في المسرح الجهوي في ليالي رمضان؟
كنت كغريب في مدينة غريبة إلا من ذكريات أحاول فرضها على الدنيا الجديدة وانثال على خاطري بيت المتنبي وهو يصف شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيهـــا
غريب الوجه واليد واللسان
ولم تكن غربتي غربة لسان ولا يد ولكنها غربة وجه ،أسير متمليا في وجوه الغادين والغاديات علني أعثر على وجه أعرف تقاسيمه أو أشم عطرا أعرف ماركته وصاحبته ، طوح بي الحنين إلى تلك الأيام التي كانت فيها قسنطينة أو” سيرتا” أو “مدينة الصخر العتيق” أو “مدينة الجسور المعلقة” أو “مدينة العلم والعلماء” سمها ما شئت فهي كبيرة ولها أسماؤها الحسنى مستوحاة من جغرافيتها أو من تاريخها، كانت معادلة لمدن عربية نشيطة عريقة كفاس أو الإسكندرية أو حلب الشهباء تهفو إليها قلوب العرب، تغازلها ،تتذلل إليها تصهل في أرواحهم جياد الحنين فيمتطون صهوة الأشواق إليها ويسابقون الريح حضورا بين يديها، لا بين أقدامها فهذه المدينة التي تتمدد على الصخر في غفوة حالمة ويربط بين تفاصيل جسدها جسور عريقة ويتدلى فستان كبريائها الأخضر موشى بالإباء والمقاومة والعنفوان إلى وادي الرمال السحيق حيث يوقع الماء أعذب النوتات على الصفا وينقل إلى الدنيا أخبار وآثار سيدته التي تغفو فوقه . مثل هذه المدينة لا تفضي بسرها لأي كان ولا يستهويها أي كلام كان ،هي مدينة الكبار .
لا زلت أذكر كيف خفت هذه الحسناء وسحبت طرف فستانها الأخضر من وادي الرمال وهرعت لاستقبال شاعرين كبيرين ثوريين مثلها عصيين على الضيم مثلها، نزار قباني ومحمود درويش على فترة بينهما .
فدرويش المنفي الأبدي وشاعر الأرض ونزار شاعر الحب والثورة والتمرد صدحت المدينة أيامئذ بالشعر والورد والعنفوان وتردد صدى هذه الأماسي الشعرية في ربوع العالم العربي.
أقف في وسط المدينة قبالة البريد المركزي أتأمل المباني الكولونيالية البريد المركزي، المسرح الجهوي الذي صار اسمه على عميد أغنية “المالوف” الحاج محمد الطاهر الفرقاني وأتأمل من هناك المقهيين الكبيرين بتاريخهما ويرد ذكر أحدهما في رواية الزلزال للطاهر وطار أحدهما مغلق والآخر غدا محلا تجاريا! أسير في النهج الكبير بن بولعيد باتجاه المركز الثقافي محمد العيد آل خليفة أمر بمقهى البوسفور مقهى النخبة زمانها والأنتلجنسيا والطبقة الوسطى هنا لا يدخل إلا من تأبط كتابا أو جريدة هو الآخر صار محلا تجاريا كما يدل الإشهار الأجنبي، على حائط المركز الثقافي صورتان كبيرتان لابني قسنطينة مالك بن نبي ومالك حداد مع مقولتين لهما عن الثقافة والحرية ،تذكرت حداد صاحب المقولة المدوية “اللغة الفرنسية منفاي” وأنا كانت الذكريات منفاي مازلت متشبثا بالذكرى كما يتمسك الغريق بالقشة حتى لا أغرق في بحر العالم الجديد تنساب الذكريات بين فروج روحي كما ينساب الرمل بين فروج الأصابع ،يصدح من المركز صوت أغنية للفرقاني من المالوف يزهر القلب ،تنتشي الروح فهذه المدينة وفية لذاكرتها رغم كل شيء كما تتشبث المدينة بصخرتها العتيقة ولا تبارحها. أصعد شارع عبان رمضان “الأركاد” أتذكر الأدباء والفنانين والمشاهير الذين مروا من هنا أو تصعلكوا مطاردة لبسمة أو نظرة أو عطر خاص يوحي ويهرب ، هنا كما في كل شارع تغير كل شيء فلا محلات غير محلات الهواتف والأكل السريع والألبسة المستوردة ،أصل إلى ساحة الهرم” البيراميد” أشرف على الوهاد الفسيحة والجسر العملاق الجديد صالح باي الذي دشن حديثا وأريد له أن ينافس الجسور القديمة سيدي مسيد والقنطرة وسيدي راشد ،إذا انعطفت إلى اليمين أمر بقنصلية فرنسا قديما ومركزها الثقافي الذي كنت أحضر حفلاته الموسيقية الكلاسيكية ليلا وأنعم برفقة صحبة أوروبية وبالإرسالية المسيحية وقد كانت مجهولة للجميع وأذكر أنني دخلتها وتحدثت مع أسقفها وإن واصلت الصعود أمر بالمنظر الجميل حتى أنزل جهة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية التي دشنت عام 1984 وأريد لها أن تكون أزهر الجزائر وزيتونتها .أخاذة بهندستها العربية الإسلامية وبلونها الأبيض اللبني .
شوارعها الكبرى الثلاث العربي بن مهيدي، ديدوش مراد (شارع فرنسا سابقا) وبن بولعيد تحمل هذه الأسماء الكبيرة رائحة الإباء وميسم الكبرياء ورمز التضحية ،ريح الثورة الصرصر التي اجتثت سنوات من الاستعمار وأردته كأعجاز نخل خاوية .هكذا أكدت هذه المدينة انتماءها للإنسان وللوطن وللثورة وللتضحية شأنها منذ فجر التاريخ.
كانت هذه الشوارع عامرة بالمكتبات- فقسنطينة تعرف بكونها مدينة العلم والعلماء- وبضائع الصناعة المحلية واليوم اكتسحتها رياح العولمة واقتصاد التجارة السريعة والربح الأسرع.
أعود إلى القلب كرة أخرى ومن أمام المسرح الجهوي أمرق بسرعة مروق السهم من الرمية إلى “رحبة الجمال” حيث المطاعم الشعبية التي تقدم الشواء والأدمغة المشوية وطبق الحمص ( دوبل زيت) القسنطيني ،ما مر كاتب أو مثقف أو سياسي أو وجيه أو سائح إلا وانعطف إلى هناك وتذوق لذة هذا الطبق واستكنه السر ولكنه لن يظفر بمناه إن سحره وسره هو من سحر وسر المدينة، ألم أقل لك إنها مدينة لا تفضي بسرها لأي كان. يسارا تنعطف إلى الحوانيت القديمة ودكاكين أصحاب الحرف تاريخ عريق في الصناعة التقليدية والمهن الحرفية التي تزود المدينة العتيقة بحاجاتها ولقسنطينة قصبة مثل قصبة كثير من مدن الجزائر فعل الزمن ظاهر، التصدع ،الانهيار ،الهجران، الإقفار هكذا انصاع الناس تحت وطأة الحداثة ودواعي الربح ومغريات العصرنة فأهملت دون ترميم ومصيرها حتما الانهيار. وكثير منها بجانب جسر سيدي راشد غدا أطلالا وكأنها تستجدي شاعرا يقف عليها ، لقد بنيت مدينة جديدة ناحية المطار”علي منجلي” فتكاد تفرغ المدينة من ناسها وتركت العتيقة لمصيرها وتذكرت قول الشاعر القديم على سبيل التشابه في الحالين:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننـا
فلا دين يبقى ولا ما نرقع
طلب الجديد فلم يدرك وأهمل القديم فتقوض!
هكذا هي حالنا نستجيب لدواعي الكثافة السكانية ببناء تجمعات جديدة وكأنها محتشدات وأمكنة عبور ونسلم العتيقة لفعل الزمن فيقوضها حتى يحدثنا محدث عن فساد المدينة الجديدة لأن الأنفس هناك لا تستنبت في مواطن مؤصلة ضاربة الجذور في الخلق والتربية والمؤسسات العلمية والثقافية والفنية الراقية فتنحرف تحت دعاوى الفراغ والتسرب والبطالة إلى العنف والجريمة.
أتأمل المساجد القديمة “سيدي قموش” “الجامع الأخضر”… حيث درس ابن باديس تفسيره وبث روح الوطنية بأناة وهدوء في نفوس الناس وأوجز نضاله في شعار جمعية العلماء الشهير “الجزائر وطننا والعربية لغتنا والإسلام ديننا” ولما أتم التفسير هنأه الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة بقصيدة أبرز فضله وفهمه وأشاد بمدينته:
حكيت( جمال الدين) في نظراتـه
كأن (جمال الدين) فيك مصـــور
وأشبهت في فقه الشريعة (عبده)
فهل كنته آم (عبده) فيك ينشـــــر؟
قسنطينة اعتزت بأن وفودهــــــا
على الخير فيها والهدى تتجمهــر
أواصل إطلاق حمائم الذكرى فتطير وتطير في أجواء قسنطينة وتحط على مبانيها التاريخية هاهنا فندق سيرتا الفخم غير بعيد عنه فندق بانوراميك كانا فندقي المدينة الكبيرين والفخمين واليوم تقوم فنادق أخرى دعت إليها دواعي مواكبة حركة التطور والنماء مثل “إيبيز” و”نوفتيل” في “لابراش” وفندق “ماريوت” على تلة قريبا من الجامعة.
مدينة ينقصها البحر لكن يعمرها الحنين فمن يكتب عن قسنطينة يتحول القلم في يده إلى مصهر يذيب كيانه وتغدو الكلمات نارا ونورا وهجا وحرارة تذيب الكاتب والقارئ معا.
مازلت أذرع شوارع المدينة أتأمل في وجوه الغادين والغاديات علني أشم عطرا،أو أعرف نظرة أو ملمحا خمريا علني أجد في عين نجلاء شاطئا قسنطينيا يستريح على رمال جماله الجسد المكدود والذاكرة المتخمة بالصور والروح النازفة تحنانا لكن المناصرة يهتف في أذني كرة أخرى:
أحاولُ أن أوصلَ القلبَ بالقلبِ، والجسرَ
بالجسرِ، هذي كؤوسي، وهذي دناني
أهذا جزاءُ صريعِ الأماني
قسنطينةُ الجسر لم تستمعْ
لعذبِ الأغاني
وتزعمُ أنَّ ضفائرها اللولبيَّةَ، ما مسَّها أحدٌ في الليالي
وفي السرِّ كانت تراني
شربتُ النبيذَ العتيقَ على ساعديها
لأهربَ منها إليها.
وأفيق من خدر الكلمات وأخيلة الشاعر ورموزه الشعرية وأنا أستدبر المدينة الخالدة على صوت الشاعر العربي الشريف الرضي:
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عنها الطلول تلفت القلب