عنما أمسكت بقلمي لأسطر واكتب عن موضوع الإبادة الجماعية لقرية كوريمى بعد تفكير طويل وعميق وشعور بالحياء تجاه دماء ضحايا الإبادات الجماعية برمتهم وخاصة ضحايا الشعب الكوردستانى، وجدت قلمي حائراً ، ثائرا، غاضبا، حزينا، خاشعا، ومبعث ذلك كله ان موضوع البحث والدراسة تحيط به الدماء والدموع والصراخ والالام والآهات بالظلم والاعتداء والقلوب المتحجرة ،القاسية ، ليفرغ جل غيظه على الابرياء والعزل ، بأختصارلأنها قضية شعب ووطن.
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وضم القسم الجنوبي من كوردستان اليها مارست الحكومات العراقية المتعاقبة في ظل الحكم الملكي سياسات تتسم بالتمييز و عدم المساواة بين المواطنين العراقيين ولا شك ان النظام الجمهوري الاول بقيادة (عبدالكريم قاسم) لم يتخلص من بعض مظاهر التمييز القومي و الخشية على وحدة الجمهورية غير المبرر في ممارسة سياسات عنيفة و عدوانية ضد حقوق الشعب الكوردي، على الرغم ان الكورد من القوميات العرقية التي عاشت في منطقة الشرق الاوسط و امتازت بحسن شيمها و دماثة اخلاقها و حبها للحرية والحياة .
وبهدف اضطهاد والقضاء على الحركة السياسية الكوردستانية قام النظام العراقي في مرات عديدة بحملات لا انسانية وخاصة في العقد الثماني من القرن الماضي سواء مع البارزانيين او الكورد الفيليين او عمليات الانفال السيئة الصيت لأبادة الجنس البشري للكورد او القضاء على وجودهم و تهجيرهم و تدمير قراهم في اسوء حملة قادها النظام للابادة الجماعية .
بدأ النظام العراقي عام 1988 حملة عسكرية سميت (بالانفال) و كلمة (انفال) اسم لسورة قرأنية استخدمها المسلمون في غزواتهم ضد الكفار في بداية ظهور الاسلام إلا انها تكررت في العراق لتنفذ ضد الكورد ، فقد نفذت عمليات الانفال طوال سنة 1988 حيث تعددت العمليات لتسمى بحملة الانفال من (1 الى 8) و اختفى من على الارض اكثر من (182000) كوردي خلال عمليات الانفال في قبور جماعية ودمرت حوالي اربعة الاف قرية وسويت مع الارض وكذلك (18) مدينة متوسطة الحجم وأزيلت ارياف بحجم مساحة دولة لبنان واستعملت في عمليات الانفال السلاح الكيمياوي ودمرت الابار والمدارس والمستشفيات ودور العبادة من المساجد والكنائس وتحولت بفعل هذه العمليات ثلث مساحة كوردستان الجنوبية الى ارض قفراء وبقي حوالي مليون بشر بدون مأوى وفي مقدمتهم منطقة بهدينان.
احدى هذه القرى التي لم تسلم من حملات الانفال بل و كانت لها النصيب الاكبر من المأسي و التضحيات هي قرية (كوريمي) التي تقع في شمال محافظة دهوك على بعد حوالي اربع كيلومترات من الشمال لناحية (مانكيش) حيث تقع في وادي صغير و يتألف سكانها من عرق واحد او متجانس من الكورد المسلمين، كانت في القرية قبل عام 1988 (150) عائلة ، وعند بدء عمليات الانفال الثامنة كانت غالبية سكانها قد غادروها الى المناطق الآمنة في الوديان الوعرة الصعبة بمساحة عدة كيلومترات بعيداً عنها.
حاول سكانها الفرار الى تركيا، ولكن سيطرت الجيوش العراقية على الطريق الرئيسي الرابط بين ناحية كاني ماسي الحدودية التابعة لقضاء العمادية و قرية باتوفة التابعة لقضاء زاخو حالت دون تمكنهم من العبور مما اضطروا الى العودة الى قريتهم في وقت اشتدت العمليات وكانوا حوالي (300) شخص بعدما التحق بهم مجموعة من سكان قرية (جلكي) من عشيرة البرواري التي كانت تربطهم علاقات اجتماعية ومصاهرة و استسلموا للقوات العراقية المتواجدة في قريتهم وبعد فرز النساء و الاطفال من الرجال بقي (33) رجلاً وتم تنفيذ حكم الاعدام رمياً بالرصاص ضدهم بعد تلقي الاوامر من المراجع و لكن قضاء الله وقدره شاء ان ينجوا منهم ستة اشخاص و استشهد (27) شخص ليتم دفنهم في مقبرة جماعية.
بعد الانتفاضة الشعبية الكوردستانية عام 1991 تمكن فريق من الاطباء والمختصين التابعين لمنظمة (ميديل ايست ووج) وهو فرع مراقبة حقوق الانسان و اطباء من اجل حقوق الانسان من القيام بحفر المقبرة واخراج الجثث ليتم دفنهم في مراسيم شعبية ضمن مقبرة خاصة بهؤلاء الشهداء مع بناء نصب تذكاري لهم من قبل حكومة الاقليم للتعبير عن تضحياتهم ممثلاً عن تضحيات الشعب الكوردستاني.
لا تكمن اهمية الكشف عن الممارسات الوحشية ضد قرية (كوريمى) فقط بل ايضاً تكشف بوضوح عن نمط تلك الاعمال الوحشية ضد ابناء القرى الكوردستانية الاخرى المتمثلة بعمليات القتل الجماعي على نطاق واسع وأختفاء الاشخاص والترحيل القسري وتدمير القرى بهدف ابادة سكانها.
المقال مقتبس من كتابنا (الابادة الجماعية في قرية كوريمى)