22 ديسمبر، 2024 7:39 م

قريبًا مع بيزوس: كوكب الأرض “راحت عليه”

قريبًا مع بيزوس: كوكب الأرض “راحت عليه”

“بشرية مثالية” هي حلم يُراوِد البشر منذ بدء الخليقة على كوكب الأرض، التي أعطت الكثير لسُكَّانها ، ولم تجني منهم سوى الخراب والدمار. ومع تناقص موارد الأرض، وثقلب مناخها لدرجة جعلت سكان كندا يموت منهم المئات من جراء ارتفاع درجات الحرارة إلى ما يربو على الأربعين، وكذلك حدوث فيضانات غير مسبوقة في دول أوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا فيما يشبه التسونامي – يتأكد الإنسان يومًا تلو الآخر أن الأرض قد ضاقت بهمجية سكانها، وقررت أن تنتقم ممن يخربونها.
كوكب الأرض يقم بتخريب نفسه، بل أن ما يحدث هو مجرد رد فعل إزاء تصرفات سكانه الذين لا ينفكون عن نهبه وتخريبه. لكن، لا يزال يدهشنا الإنسان بتصرفاته الغير مبررة والصعبة الفهم؛ مع مستهل التسعينات وجدنا دعوات للحفاظ على الأرض ودرجة حرارتها، ومن ناحية أخرى هناك أطراف تُحاول الدعوة للتعايش السَلمي بين جميع أطياف البشر؛ سواء من خلال نشر قيم المحبة والإيخاء، أو من خلال فرض قوانين تُلزم البشر باتباع السلوك الحضاري. ومع كل هذا لا تزال الهمجية سمة البشر، لدرجة قيام ناك معركة طاحنة بين كوكب الأرض وسكانها، وبين الدول بعضها البعض، وبين الأمراض والفيروسات والبشر، وجميعها مشكلات تُنذر بمشكلات وكوارث آدمية وبيئية.
وعلى النقيض الآخر، وعلى هامش كل هذه المعارك الطاحنة، ظهرت فئة تجعل من الترفيه غاية، وعشق الجمال والكمال غواية. فبينما يسكن أغلب البشر في مناطق مُزدحمة، هناك من يعيش على أطراف المدن في بيوت فارهة شديدة الرفاهية، يرتاد سكانها مراكز التجميل لدرجة جعلتهم شديدي الجمال يتمتعون بأجساد مثالية. وأما النشاط الأساسي لسكان تلك البقاع المرفهة هو الاستمتاع، ثم الاستمتاع لأن ثرواتهم تلد ثروات، كما يعتقدون. ولقد فضلوا العيش على هامش الحياة في عالمهم الخاص لحين خلق عالم ومناخ يليق بهم وبتوجهاتهم. وفيما يبدو أن تقسيم عالم اليوم بتلك الطريقة لم يأتِ من فراغ، فعند وجود طرف موبوء يجب عزله تمامًا حتى يتم الحصول على عالم مثالي يحاكي ما يحلم به الشعراء والفلاسفة.
وبعيدًا عن المشاهد الدامية والحزينة والمتناقضة، فهناك مهندسي العالم الجديد الذين يخططون له وفق نظرية الانتخاب الطبيعي للعالم داروين، ولا يزال مصير سكان الأرض غير واضح ، خلا من بعض التغييرات الجوهرية التي تفاجئنا بحدوثها كل يوم، لتنقل العالم معها لأجواء غير مسبوقة من التقدم والحلم بعالم جديد سعيد.
وبعد أن أدهش العالم سكانه بهبوط أمريكيين وروس على ظهر القمر في نهاية ستينات القرن الماضي، مع مستهل التسعينات بدت أحلام الوصول للفضاء بعيدة مرة أخرى بسبب تكلفنها الغير مسبوقة التي تثقل كاهل أغنى حكومات العالم – وأخص بالذكر هنا الولايات المتحدة الأمريكية – وأنه من الأحرى توجيه التمويل المخصص لأبحاث الفضاء إلى إغاثة البشرية التي تعاني. بيد أن، علمنا اقتصاد عالمنا المعاصر أن ما لا تقدر الحكومات على تنفيذه، يبرع القطاع الخاص في تمويله. وبما أن البرمجيات هي سمة العالم الجديد، فلقد احترف مساراتها إثنين من أبرز رجال الأعمال في العالم وأكثرهم تنافسًا؛ لتحقيق اكتشافات وانجازات لا تستطيع الحكومات ممارتها. ففي حين يمثل العالم والملياردير الأمريكي إيلون ماسك Elon Musk قطب العلوم والاكتشافات الحديثة، يمثل جيف بيزوس Jeff Bezos أغنى رجل في العالم – قطب العالم الجديد الذي جعل من العلم صناعة تدر أموال طائلة، ويتصارع على زعامة العالم الجديد الذي قوامه الكيانات وليس الحكومات. وفي حين قام إيلون ماسك بتكوين شركة سبيس إكس Space X لأبحاث الفضاء والتي تجد أسهم مشروعاتها رواجًا كبيرًا في البورصات العالمية، قام جيف بيزوس من أجل توفير وسائل نجاح شركة أمازون بإنشاء شركة لتصنيع الطائرات عام 2000 وأطلق عليها اسم بلو أوريجين Blue Origin وهي شركة يقوم بتمويلها القطاع الخاص. وحين وجد أن أبحاث الفضاء وأسهم مشروعاتها تجني المليارات في البورصات العالمية، قام بافتتاح قسم كبير بالشركة لأبحاث ومشروعات الفضاء والتخطيط لنقل المشروعات العملاقة لكوكب المشترى القريب، في حين يسعى إيلون ماسك للمريخ البعيد. ولحين تنفيذ ما يرمي له، قام جيف بيزوس بخطوة غير مسبوقة، ألا وهي افتتاح قسم لسياحة الفضاء، حيث يوجد بالشركة قسم لرحلات الفضاء شبه المدارية.
وفي إطار التميُّز وخلق عالم آخر للصفوة المرفهة، قام بيزوس يوم الثلاثاء الموافق 20 يوليو 2021 بأطلاق أول صاروخ سياحي والمسمي ب”الراعي الجديد” New Shepherd في رحلة شبه مدارية للفضاء. والرحلة التي استغرقت عشر دقائق وعشر ثواني تمامًا كانت في مركبة سياحية مريحة، لها نوافذ بانورامية تتيح للراكب رؤية الفضاء من جميع الاتجاهات. وتخطت الرحلة خط كارامان Karaman Line الذي يفصل الأرض عن المدار الفضائي، وهو يقع على بُعد 62 ميل فوق مستوى الأرض، في حين وصلت الرحلة إلى بُعد 66 ميل. وروَّاد الرحلة جماعة فريدة تشكلت من جيف بيزوس وأخيه مارك بيزوس Mark Bezos، وكذلك أكبر رائدة فضاء والي فانك Wally Funk البالغة من العمر 82 عامًا والتي قامت في الماضي بإجراء جميع اختبارات الفضاء، لكن لم يختارونها للسفر للفضاء، وكذلك الطالب الهولندي أوليفر دايمن Oliver Daemen البالغ من العمر 18 عامًا والذي أختير للرحلة بعد أن رسى على تذكرته المزاد وبلغت قيمتها 28 مليون دولار. وكان أول ما أدلى به بيزوس بعد الرجوع: “أنا سعيد، سعيد، سعيد … ولم أكن أبدًا سعيدًا لهذه الدرجة.” ولقد تلقى بيزوس بعد هذه الرحلة عروضًا بمليارات الدولارات من أثرياء العالم للقيام برحلات مماثلة.
وبالرغم من الاحتفاء العالمي بالرحلة، واجِه بيزوس انتقادات واسعة أهمها أن النقود التي تم استخدامها لتمويل تلك الرحلة الترفيهية لربما كان من الأحرى توجيهها لمشروعات تخدم المجتمع والبيئة وأبحاث المناخ، وليس لزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لكن دافع بيزوس عن نفسه بالتأكيد أن هدفه نبيل ويسعى إلى نقل الصناعات الكبرى للفضاء. وبالفعل، ذلك هو الهدف المُعلن من قبل بيزوس منذ بداية تكريس تمويله لأبحاث الفضاء.
ما يثير الحفيظة هو أن نقل الحياة والصناعات ومعهم الأثرياء لكواكب أخرى لا يبشر بالخير لأهل الأرض المنكوبين الذين تطحنهم الصراعات والأمراض وغضب البيئة ونفاذ الموارد، وما خفيَ أعظم. المستقبل محتوم، وتم التخطيط له منذ أمد بعيد. فهل مصير الأرض التحوُّل لكوكب مريخ جديد على الأمد البعيد؟