لا يمكن إخفاء الحقيقة. إن في العراق اليوم شعبين. الأول شعب المرجعية، مدعومةً بحكومة إيران الدينية الطائفية، وتحت إمرتها أحزاب دينية شيعية تحكم باسمها وبفتاواها، متحالفة مع أحزاب وتجمعات سنية عربية وكوردية قبلت العمل تحت إمرتها، وبهيمنتها لقاء حصص مقننة تُعطى لها من جسد الوطن المنهوب.
والشعب الثاني شعب الوطن الآخر الذي لا ينتمي لمرجعية، لا طائفية ولا دينية ولا قبلية، ولا تمثله أحزاب السلطة، بكل تشكيلاتها وتنظيماتها المتعددة. شعبُ الغضب المشتعل من أعماقه، وقد كفر بجوعه وخوفه من غده المجهول، ضحيةُ الغش والخداع والفساد والاختلاس، وأسيرُ داعش وعزة الدوري وعلي حاتم سليمان والأخوين نجيفي والأخوين كربولي ونوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وقاسم سليماني.
والذي أقدم عليه السيد حيدر العبادي، وأثيرت حوله كل هذه الضجة الصاخبة، خطوة تبدو، في ظاهرها، جيدة، وقد أرضت شعب المرجعية وشعب أحزابـِها الحاكمة، وقد تعيده إلى داره راضيا مرضيا، يدعو لممثل السيد السيستاني بالعمر الطويل. ولكنها، بالمؤكد، ليست هي ما أراده ويريده الشعب العراقي الآخر الذي لا يعترف بالعملية السياسية كلها، من رأسها إلى كعبها، وكل ما خرج من رحمها غير الكريم.
فإقالة نواب رئيس جمهورية، ونواب رئيس وزراء، وتخفيض حمايات، وإحالة متهم واحد بالفساد إلى التحقيق، كبشَ فداء، ليس هو المطلوب، وليس هو الذي يشفي غليل المتظاهرين المحترقين بنار الطائفية والعنصرية والاختلالات والاحتلالات والاختلاسات المتعاقبة.
بصراحة إن المطلوب هو رأس النظام نفسه الذي أنتجه الطاقم الحاكم الذي لم يتسلق ظهر الدولة العراقية بكفاءته ونزاهته وخبراته ونضاله، بل بكرم الاحتلال الأمريكي وعنايته وتدبيره، وبقوة الذراع الإيراني الديني الطائفي في العراق، والذي أنتج للعراقيين، بدوره، كل هذا الخراب.
إن الوطن اليوم على طريق مسدود، ولم تعد تنفع معه تنقيحات حيدر العبادي، ولا دعوات المرجعية وتوجيهاتها، ولا جميع فرسان السلطة الفاسدين المطلوبين للعدالة الذين باركوا قرارات رئيس الوزراء، وتظاهروا، كذبا ونفاقا، بدعمها وتأييدها.
فليس هناك من وسيلة لإرضاء الجموع الشعبية المنتفضة، وإصلاح الخلل، سوى الاعتراف بفشل نظام المحاصصة الطائفية والعنصرية والمناطقية الحالي، والبدء بترتيبات البحث عن نظام آخر، أفضل، وأرحم، وأصلح، وأكثر آدمية، قبل فوات الأوان.
ولكي يتحقق ذلك لابد من منع رجال الدين، جميعِهم، منعا باتا ونهائيا وحاسما، من أي شكل من أشكال الوصاية على الدولة، ومن التدخل في تقرير مسارها، وصياغة دستورها وقوانينها.
وحين يتحقق ذلك يصبح من اللازم إلغاءُ الدستور المعمم الحالي الذي أنتجه السيستاني وبريمر، معا، والذي جعله العقل الديني المتطرف، والقومي العنصري المتشدد، (شرعنةً) لنظام المحاصصة، تحت غطاء تحقيق ما أسمياه بـ (توافق المكونات).
وهذا يستدعي، بالتالي، حل مجلس النواب الحالي القائم على المحاصصة، والذي وصل كثيرٌ من نوابه بترشيحٍ شخصي من زعيم الحزب أو رئيس القائمة، لا بأصوات الناخبين، وبالتالي فدورُهم في البرلمان ليس أكثر من تمثيل الزعيم، والحفاظ على مصالحه، وتنفيذ أوامره وتعليماته، وليس للدفاع عن حقوق المواطنين وأرزاقهم وكراماتهم. وبرلمانٌ من هذا النوع لن يَنتخب رئيسَ جمهورية، ولا رئيس وزراء، ولا يعين وزراء، إلا بتوافق مصالح رؤساء الكتل النيابية، وزعماء الأحزاب التي تملك تلك الكتل.
ولذلك، وفي نظام حكمٍ من هذا النوع الهزلي العجيب الغريب، صار ممكنا وعاديا ومقبولا أن يجلس صالح المطلق وبهاء الأعرجي أهدهما عن يمين حيدر العبادي، والآخر عن شماله، نائبين لدولة الرئيس، وأن يصعد نوري المالكي وأسامة النجيفي وأياد علاوي نوابا لفخامة رئيس الجمهورية، وأن يُعين فؤاد معصوم رئيسا لجمهورية العراق، بالترضية وتطييب الخواطر، وليس بإرادة العراقيين الحرة الحقيقية المؤكدة. ويشاع الكثير عن عمليات بيع المناصب وشرائها بالملايين، أو بعشرات الملايين.
وبالتتابع، لابد من استقالة الحكومة الحالية (المبعثرة) (المتشاكسة مع نفسها)، وتشكيل حكومة خبراء (تكنوقراط) انتقالية، مستقلة، تقود العمل السياسي الجديد، لفترة محددة، تشرف خلالها على صياغة دستور دولة، لا نظام داخلي لعصابة، وإعداد قانون انتخاب جديد عصري نزيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يسمح لأحد بدخول مقر مجلس نواب الشعب إلا بإرادة الناخبين، وليس سماسرة الطوائف والعشائر والمليشيات السائبة.
هذه هي مطالب الشعب العراقي الآخر الذي لا يمثله شعبُ المرجعية، ولا شعبُ الأحزابِ المتحاصصة، هل يستطيع حيدر العبادي تحقيقها؟!. أشك في ذلك. فالرجل أعلن، بثقة ووضوح، أنه يعمل بتوصيات مرجعه الأعلى السيد علي السيستاني. وهذا يعني أنه قد يضطر لضرب (مجاهد) شقيق، بحكم الضرورة والحاجة لامتصاص غضب الجماهير، ولكن بحبات زبيب. هذا مع التذكير بكونه قياديا بارزا وفاعلا قضى عمرا طويلا في أحضان حزب الدعوة
الطائفي الرجعي المتخلف. كما أن سلوكه، من يوم توزيره وإلى اليوم، لا يدل على أنه مختلف كثيرا عن أمين عام حزبه نوري المالكي.
وليس غريبا ولا مُفاجئا أن يخرج وزراء ورؤساء أحزاب وقادة كتل ومليشيات، وهم الفاسدون المطلوبون للعدالة، لينافقوا الجماهير المتظاهرة، ويصفقوا، رياءا ونفاقا، لقرارات حيدر العبادي. فهم يَحنوُن رؤوسهم للعاصفة، لاعتقادهم بأنها عابرة، وبأنها مزحة ولن تطول !!.
ومخطيء من يظن أن هؤلاء الذين ظلوا يسرقون السلطة والمال، كل هذه السنين، سيرتفعون إلى مستوى المرحلة، ويتخلون عن مواقعهم ومكاسبهم، ويسمحون لحيدر العبادي، أو لغيره، بأن يغلق عليهم أبواب الجنة التي دخلوها متسللين وطارئين، وأن يسلبهم أسباب القوة والسلطة والعمولة والاختلاس.
ومن غير المعقول وغير المسموح أن يجرؤ السيد العبادي على تشكيل حكومة ليس فيها حصة لدولة القانون، وكتلة المواطن، والأحرار والفضيلة وبدر، أو من الحزبين الكورديين، وأتباع الأخويْن نجيفي، والأخويْن كربولي، ورعايا صالح المطلق وسليم الجبوري.
قد تكون هذه نظرة متشائمة إلى حد كبير، ولكن المقدمات لا تعطي إلا هذه النتائج، ولا تسمح بغيرها.
سامحوني. إن العراق بوضعه الحالي، بجيرته الحالية، وداعشه المتجبر القوي، وتماسيح أحزابه وتنظيماته ومليشياته الحاكمة، بحاجة إلى زعيم حقيقي ثوري وطني عراقي من طراز فريد وجديد وعنيد. ولا أظن حيدر العبادي ذلك الزعين ولا صاحب تلك المؤهلات، ولا هذه المواصفات.