18 ديسمبر، 2024 7:42 م

قرارات الاجتثاث . . وتداعياتها

قرارات الاجتثاث . . وتداعياتها

ان موضوع اجتثاث البعث والمسائلة والعدالة ومارافقها من استثناءات غامضة غير مبنية على اسس وشروط موضوعية واضحة ، قد اثار تسائلات كثيرة عما اذا كان يعود اليها السبب في كثير من الازمات السياسية ، او المشاكل الاجتماعية التي يمر بها العراق . . ونحاول هنا تسليط الضوء على بعض الاشكالات التي سببها قرار اجتثاث البعث الذي حول فيما بعد الى قانون المسائلة والعدالة
منذ بدء الاحتلال الامريكي للعراق طرح موضوع اجتثاث حزب البعث ، لمنع الحزبيين والمسؤولين في النظام السابق من تبوء اية مناصب في العملية السياسية بعد الاحتلال . وقد انشأت لهذا الغرض هيئة سميت بالهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث ، بموجب القرار الصادر عن سلطة الائتلاف التي رأسها الحاكم المدني بريمر بتاريخ 16 نيسان 2003 . . كما تم وفق هذا القرار حل الجيش العراقي ايضا . لقد اختلف مفهوم اجتثاث البعث عند الامريكان عن مفهومه لدى الاحزاب والشخصيات الحاكمة في العراق . وبقي هذا الموضوع يكتنفه الكثير من الغموض
في البداية اراد الامريكان اصدار قرار بحل حزب البعث ، او حظر نشاطه . . الا انه تطور الى مفهوم اكثر شمولية وعمقا . وهو اجتثاث حزب البعث الصدامي . وقد حدد نطاق سريان الاجتثاث هذا على اعضاء قيادات الشعب فما فوق ، بادئ الامر . الا انه تحول فيما بعد الى شمول اعضاء قيادات الفرق ( الادنى مرتبة) فما فوق . وقد نص قرار تشكيل هيئة اجتثاث البعث وما بعده من القوانين ذات العلاقة على بعض الاستثناءات من تطبيق نصوصه . . ولم يكن معروفا بصورة جلية الاساس الذي يتم بموجبه استثناء بعض الشخصيات في النظام السابق من هذا القرار او القانون فيما بعد
لقد استفاد من هذه الاستثناءات ابتداء الحاكم المدني الامريكي ، ثم رؤساء الوزارات المتعاقبة بعد ذلك ، حيث ان الامريكان حاولواالاستفادة من خبرات بعض ضباط الجيش السابق عند اعادة تشكيل وحدات الجيش والشرطة . وقد شملت هذه الاستثناءات عدد من القيادات العسكرية ذات الخبرة والكفاءة . . وفي وقت لاحق وبعد تشكيل الحكومات المتعاقبة دخل في هذا الاستثناء كثير من العناصر الانتهازية والوصولية للتبرؤ من النظام السابق ، وللاستفادة من عطايا ومنح النظام الجديد . . ولذلك فان العناصر التي تم استثنائها سواء العسكرية او قوى الامن او الاعلاميين ، او موظفي الدولة الاخرين ، كانت عناصر هزيلة غير كفوءة ، ولم تستفد منها الدولة ، بل اصبحت وبالا عليها . . اما الاشخاص الذين لم يجر استثنائهم ، فقد تفرقوا بين معاد للامريكان ، والنظام الجديد . وحمل السلاح . او من هرب الى خارج العراق . . والذين بقوا في ديارهم تم تصفية اغلبهم ، او اعتقالهم . ابتداء” من ضباط الجيش السابق ثم السياسيين وموظفي الدولة الآخرين
ان موضوع الاجتثاث لم يتم الاتفاق عليه بين الرغبة في الابعاد عن العمل السياسي ، او الثأر والانتقام . . كما جرى على نطاق واسع التثقيف باجتثاث فكر الحزب . ولم يجر التفريق بين فكر البعث كمفهوم قومي عربي ، والمفهوم التسلطي لبعض عناصر النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم بحق الانسانية ، او جرائم الفساد الاداري والسياسي . . وقد حاولت الاحزاب الدينيةالحاكمة احلال المفاهيم الدينية والمذهبية الضيقة محل المفهوم القومي او الوطني ، الذي كان سائدا طوال عقود طويلة . واتسعت الافكار الشعوبية المناهضة لكل ماهو عربي ، تحت مظلة الاجتثاث
ان رئيس الوزراء السابق قد استغل هيئة الاجتثاث او المسائلة والعدالة بشكل يخدم سلطته ورغبته بالاستفراد بالحكم ، فقرب العسكريين الذين يدينون له بالولاء الشخصي من السنة والشيعة والكورد ، دون النظر الى مدى كفائتهم او وطنيتهم . . وقد ادى ذلك الى الكوارث التي حصلت فيما بعد بتسليم مدن عديدة الى مايسمى بتنظيم الدولة اللااسلامية. داعش . كما تم استغلال قانون المسائلة والعدالة لاستثناء بعض الاشخاص ، مثل رئيس مجلس القضاء الاعلى . فسخره لتسييس القضاء وتحريف الدستور ، وتمرير قرارات الاستبعاد من الترشيح لمجلس النواب بناء على اوامر صادرة من رئيس الوزراء السابق . كما جرى ربط الهيئات المستقلة برئيس الوزراء . مثل هيئة الاعلام ، والمفوضية العليا للانتخابات ، وهيئة النزاهة ، وغيرها . مما جرد العملية السياسية من اي محتوى ديموقراطي حقيقي
لقد شمل الاجتثاث كثير من موظفي الدوائر والوزارات من ذوي الاختصاص والخبرات المهنية مما جردها من العناصر الكفوءة والمخلصة . وحلت محلها عناصر حزبية دينية شبه امية ، قادت البلد الى هذا الخراب الذي وصل اليه الآن ، وليس هذا فقط بل شمل الاجتثاث منظمات المجتمع المدني من اتحادات ونقابات مهنية . ولم يسلم قطاع الثقافة والفنون من سطوة الاجتثاث ، حيث تم ابعاد كثير من العناصر الفنية والادبية والثقافية من العمل . مما دعاهم للهجرة الى عمان ودبي وباريس . واصبحوا يعرضون اعمالهم الفنية والثقافية هناك . وقد غابت قيم الثقافة والفنون العصرية ، لتحل محلها قيم دينية ضيقة
من كل ذلك يضهر التدمير الكبير والانهيار التام للبنى التحتية لكل مرافق الدولة والمجتمع بلا استثناء . ولم يتعرض اي قانون لمثل هذا التشويه والابتزاز وسوء التطبيق مثل قانون اجتثاث البعث
وفي هذا المجال يحضرني تصريح وزير الخارجية البريطاني السابق فيليب هاموند الذي نشر في الغارديان بتاريخ 7/7/2016 حيث اعتبر ان العديد من القضايا التي نراها اليوم ، جاءت بسبب القرار المأساوي لتفكيك الجيش العراقي واطلاق برنامج اجتثاث البعث . واعتبر ذلك خطأ في التخطيط لما بعد النزاع المسلح
ان قرارات اجتثاث البعث والتخبط في تطبيقها ، واستخدامها كوسيلة من وسائل الضغط والابتزاز والتهديد . اضافة الى دافع الانتقام والثأر الذي رافقها . والخلط بين الفكر القومي العربي مع الممارسات المستبدة للنظام السابق ، قد الحق الضرر البالغ بالدولة والمجتمع . . وربما كان من الافضل الاستناد الى العدالة الانتقالية في محاكمة الاشخاص الذين ارتكبوا جرائم في النظام السابق ، والاستفادة من العناصر الكفوءة الاخرى
ومازال في الوقت متسع لاعادة النظر بكل الاجراءات الخاطئة التي رافقت تطبيق قرار الاجتثاث . والبدء بمرحلة جديدة من التفهم البعيد عن الانتقام او الابتزاز . . حيث ان التسامح يعبر عن احترام الذات ، وهو الحل الامثل للتعايش السلمي ، والبديل الانساني السليم عن الصراعات والنزاعات التي لا يمكن ان تؤدي الى حلول مرضية مهما طال الزمن