قبل أيام، توفي معتمرون أردنيون وأصيب آخرون في حادث سير في السعودية. وتقول الروايات إن سائق الحافلة قرر في لحظة التقاط هاتفه الخلوي الذي سقط منه، فانحرفت الحافلة عن الطريق وانقلبت. وفي هذه الحادثة، كمثال، ألغى قرار شخص آخر –السائق- التقاط هاتفه، قرارات كل الآخرين المتعلقة بقضاء رحلة سلمية وممتعة، وتغيرت مصائر ووجهات عدد منهم ممن لم يكن في حسبانهم فقدان الحياة أو خسارة أحد الأطراف.
غالباً، يغادر كثير من الناس منازلهم صباحاً بقرار بتجنب المشاكل: السير على جانب الطريق وبهدوء، والابتعاد عن الاحتكاك ما أمكن. ويحدث كثيراً أن تفشل هذه الخطط الشخصية، إذا اتخذ شخص آخر على الجانب الآخر من الطريق قراراً جعله يقفز عليه من هناك ويصيبه أو يقتله ببساطة. وبالمثل أيضاً، على المواطن البريطاني الذي لا يجد مصلحة في “بريكست” أن يتعايش مع تداعيات القرار الذي اتخذه غيره من مواطنيه بالخروج؛ وكذلك حال الرافض لترامب، المضطر لقبول الظروف المختلفة التي جلبها اختيار مواطنيه للرئيس. وأصعب من ذلك حال المواطنين العرب الذين لم يريدوا أن تتحول انتفاضاتهم إلى اشتباكات دموية، أو الجندي الذي يخوض حرباً يعرف أنها ليست حربه، تنفيذاً لقرار ليس له. والفتاة التي زوجها أبوها غصباً لشخص لا تريده. ومليارات الحالات.
هذا الشعور بأن كثيراً من التفاصيل المهمة في حياة الفرد ليست من اختياره ولا تتعلق بقراره، هو أمر محبط، بقدر ما هو واقعي. وهو الضريبة التي يترتب على البشر دفعها لقاء العيش غير الاختياري في مجتمعات بأعداد كبيرة من الآخرين ذوي الخيارات والقرارات المختلفة. وهكذا، لا يكفي أن يتسلح المرء بالمعرفة، والمنطقية والعقلانية، وإرادة السلام حتى تكون حياته سلمية ومنطقية وعقلانية. وفي بلادنا، يتهرب الناس من إرجاع الأمور إلى أصولها الدنيوية، فيسمّون هذا الجزء الكبير من القرارات المفروضة على الفرد، والتي تمارس “الفيتو” على قراراته، “القدر” و”النصيب” والكثير من الأسماء. وفي الواقع، يمكن تعقبها عملياً إلى مصدرها البشري المتمثل ببساطة في قرار اتخذه شخص آخر، فحسب.
وإذن، ليست كل مسارات حياة الفرد حصيلة لقراراته الشخصية. لكنّ هناك مع ذلك تفاوتاً في مدى انسجام الرغبة الذاتية مع نواتج القرارات الجمعية. هناك أحياناً منظومات سلوكية وعقلية يكون قد تم التوصل إليها بالاختبار والتوافق بين أغلبية واضحة في البيئة الاجتماعية، وربما السياسية أيضاً. ويمكن التحدث عن أماكن يتمتع فيها الفرد بدرجة أكبر كثيراً من الأمان الشخصي، والسلم والحرية، بحيث تتسع مساحة اختياراته ضمن إطار جامع وراسخ أيضاً من التفاهم الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، لن تتزوج فتاة غصباً في النرويج. ولن ينطوي قرارك الالتزام بقانون السير على القلق من عِظَم احتمال أن يقطع شخص آخر الإشارة حمراء ليغير خطط حياتك، إذا احتفظت بالحياة أساساً.
النقيض التام حاضر بكثافة في المجتمعات القبَلية، أو ذات المنظومات الفوقية المتعصبة، أو حيث تنعدم مشاركة الأفراد في القرار الذي ينعكس أخيراً عليه -أي المنظومات الاستبدادية. وفي هذه التكوينات التي نعرفها جيداً، يقوم بتحديد معظم وجهات حياة الأفراد فرد واحد، أو مجموعة أفراد صغيرة جداً، ممن يمتلكون الأدوات والسلطة لجعل حيز القرار الشخصي للأفراد ضيقاً للغاية. ويُعدِم هؤلاء خيار إجراء الحوار الاجتماعي المستنير الكفيل بالتوصل إلى تفاهم يرضي أكبر عدد من الأطراف، بحيث يشعرون معه بدرجة من انسجام القرار الفردي مع القرار الجماعي، إذا جاز التعبير.
في المجتمعات المتخلفة المحرومة من حس التعددية في إطار الانسجام، تطغى الفردية موضوعياً، بحيث لا يقيم الفرد اختياراته على أساس أخذ مصلحة الآخرين بعين الاعتبار. وبقدر ما يبدو ذلك –ظاهرياً- شكلاً من الحرية، فإنه يتعارض جوهرياً مع الحرية، على قاعدة مقولة “تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين”. ولا بد أن تكون حصيلة مجموعة القرارات الفردية الأنانية -أو المضطرة إلى أن تكون كذلك بسبب انقطاع التواصل والاتفاق على المصلحة- هي مجتمع غير حر على الإطلاق، قوامه أفراد بلا إرادة أو اختيار.
عندما تكون المنظومة السياسية-الاجتماعية-الثقافية السائدة استبدادية، رجعية وسكونية، تنعدم إلى أقصى حد إمكانية جني فوائد القرار الشخصي بعيش حياة سلمية وتقدمية وإبداعية، ويسود مشهد القطيع القاتم!
نقلا عن الغد الأردنية