19 ديسمبر، 2024 8:07 ص

قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية – الحرف والغراب للشاعر اديب كمال الدين / نبوءة اليقظة

قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية – الحرف والغراب للشاعر اديب كمال الدين / نبوءة اليقظة

((واما الغراب الكاهن , المنبىء الانباء فهو ذاك الشخص اللابس السواد , المتوقي الحذر , المذكر بالأسماء , الطواف في الديار , المتتبع الاثار , الشديد الطيران , الكثير الاشعار , الذاهب في الاقطار , المخبر بالكائنات , المحذر وهو القائل في نعيقه وانذاره : أين المفر والخلاص ))

                                           اخوان الصفا
                                  رسالة الحيوان والانسان

يعتمد ثراء النص الشعري على وفرة المحمولات الدلالية والعلاماتية التي تؤثر بنحو , او بآخر على العملية التأويلية اللاحقة والمؤثرة في الكشف عن مجموعة العلامات التي يتبناها النص عبر فعل التنقيب , الكشف والاكتشاف الذي يفرزه المعنى الظاهر , او الباطن . والشعرية الحديثة تحاول جاهدة المكوث لفترة طويلة في مثابة التخفي , والانتهاك , انتهاك المتداول , وانسنة الاشياء , وقلب علاقات الظاهر وجعل ما يستحيل واقعيا لا يستحيل شعريا , بمعنى جعل ما هو غير منطقي منطقيا , بواسطة اشاعة فعل النشاز العلاماتي الذي يربط بين ما تخفيه الدلالات من بعد غير مرئي وما ينبغي معالجته من فائض الرؤية . ولعل محموعة الشاعر اديب كمال الدين آنفا تمنحنا لذة  في كشف المستور بواسطة مجموعة من الاجراءات السيميائية التي تركز على بنية السؤال والاحتمالات المتوقعة لما ينتجه النص من معان ودلالات متنوعة .
ان البنية العلاماتية – في الدراسات الحديثة – تذهب الى ان العلامة اللغوية ما هي الا كلمة يبتدعها ويبتكرها صاحبها , لهذا ذهب كوين الى ان الشاعر (( مبدع كلمات لا مبدع افكار )) .اذن عملية ابتداع , او ابتكار الكلمة ووضعها في سياقات جديدة تكسر تابوات قديمة , وتقيم علاقات نسقية جديدة داخل السياق العام , والخاص , هو ما ترمي اليه الحداثة الشعرية بواسطة توجيه المسارات الدلالية بنحو لولبي , مبتعدة عن المسار الخطي المعتاد من اجل احداث خلخلة مشروعة في تلقي الخطاب الشعري , والتي تقود – حتما – الى مجموعة من التصورات المتساوقة وبنية القول الشعري الجديد .
في العنونة التي اعتمدتها المجموعة , ثمة مقصدية مسبقة تنشد تفعيل مجموعة من الوظائف غير النسقية التي منها – على سبيل المثال لا الحصر – الاغراء , الايحاء , الوصف , التعين  والمفارقة . فـ الحرف والغراب بنية ذات مرجعية ترتكز على حقلين دلاليين متناقضين في الظاهر , اذ ان حقل الغراب ليس مما هو موجود من مواصفات في حقل الحرف الا في المشترك اللفظي المتمثل في الجامع الحرفي المتمثل في حرف الراء . اذن التأويل ينبغي ان يتخذ مسارا موازيا للسعة التي تحققها الكلمة في تعاضدها مع الكلمة الاخرى حتى يستقيم التأويل منطقيا . لهذا علينا ان نبحث عن القاسم المشترك الاعظم بين هذين الحقلين بواسطة  الكشف عن مكنونات الكلمة والا ما الذي يربط الحرف بالغراب ؟ ! ان من معاني الحرف الكشف والاضطراب , وهذا المعنى هو الذي نبحث عنه لأمتلاكه ما هو مشترك مع الغراب لأن الغراب   يلعب دور الكاشف لمكنون العلم والمعرفة اللدنية عند الانسان , اذ انه مرتبط بالماء السفلي  , لهذا نرى ان الاله ( أنكي ) السومري اله الماء السفلي يصطحب دائما طائرا يبدو انه الغراب لأن المتصور ان الغراب قادر على رؤية الماء تحت الارض لهذا عندما اراد عبد المطلب حفر بئر زمزم لم يستدل على مكانها الا عن طريق نقرة الغراب . لهذا نجح الشاعر ايما نجاح في عملية التداخل الحقلي الحاصل بين الحرف والغراب في بنية دقيقة ورصينة تتمظهر وتتجلى في اكثر من دلالة موحية وتنجح في اسباغ روح  البحث والكشف والمشاركة في النص فيما يخص المتلقي , اذ استطاعت العنونة من سحب المتلقي بقوتها الذاتية من رواق النص العنونى الى المتن بنحو غير تقليدي . واذا ما تركنا العنونة واتجهنا الى ما يمهد الطريق الى المتن فسنكون بمواجهة سيطرة اخرى وهي آية من القران . و نرى فيما ذهبت اليه الاية الكثير من التصورات التي يبتعها النص ., اذ ان الاية تعتمد ثلاثة اشياء : مرسل وهو الخضر ومرسل اليه وهو نبي الله موسى ورسالة تبين العلم اللدني لدى الخضر , ولعل  المرسل والمرسل اليه والرسالة متحققة فعلا الا ان مجيئها هنا يتحدد بالطلب المتيقن منه بداءة وهو ان المتلقي سيلقى عناء من الذي بين يديه الرسالة – المتن مما يستدعي التبصر والصبر على ما سيواجهه من باطنية جوانية بها حاجة الى المعرفة الدقيقة والصبر الطويل . وبهذا تحصل المطابقة بين الاية وما يريد الشاعر ابلاغه الى المتلقي انى كانت خانته الفكرية والمعرفية .فالاية (( نفي مؤكد لصبرموسى على شيء مما يشاهده منه في طريق التعلم والدليل عليه توكيد الكلام بـ ان . وان ايراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على ارادة العموم , ونفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو آكد من ان يقال : لن تصبر , وايراد النفي بـ لن ولم يقل : لا تصبر وللفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي احد اسبابه ثم نفي الصبر بنفي سبب القدرة عليه وهو احاطة الخبر والعلم بحقيقة الةاقعة وتأويلها حتى يعلم انها يجب ان تجري على ما جرت عليه , وقد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث اذ قال لن تستطيع معي ولم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل : لن تصبر على ما اعلمه ولن تتحمله ولم يتغير عليه موسى حينما اخبره بتأويل ما رأى منه وانما تغير عليه عند مشاهدة الفعاله نفسها التي اراه اياها في طريق التعلم .)) 1
في قصيدة الغراب والحمامة   يؤكد النص على مفردتين متباينتين في اصل الحكاية القرآنية الغراب والحمامة , الايتان تقعان في حقلي دلالة مختلفين , فالغراب يشير الى الشؤم والخراب والدمار , والحمامة تشير الى السلام والوداعة والنقاء .  انبنى النص على مثلث علاماتي قاعدته الاساس  الغراب والحمامة وساقاه السفينة  , ونوح , ونقطة تلاقي الساقين ( رأس المثلث ) الخلاص , اما العلامات الفرعية فتأثيرها ثانوي لأنها خارج مدار البؤرة الرئيسة . اذن الغراب + الحمامة هما المرجع الذي استندت عليه الرؤية البصرية في معرفة النتائج النهاية , لهذا نرى عمق التوكيد على بنية السواد  التي هي اللب الذي يهز مضجع الرائي بدليل القرينة النصية

لماذا كنت وحدي  الذي رأى
سواد الغراب

لاحظ ان النص يحاول زيادة الضغط النفسي علينا بواسطة البنية الدلالية اللونية لكلمة السواد بغض النظر عن التصاقها بالغراب من اجل ان تصبح هي العلامة المميزة التي تمتد على مساحة واسعة من حياة الرائي المليئة بالغموض والاسرار والتي يريد منها ان تتحول الى حقيقة يتقبلها المتلقي بسبب من عرفيتها ومرجعيتها المجتمعية والتي يشدد عليها بقوله

اقتريت الحمامة مني
ووضعت على رأسي حفنة رماد :
حفنة صغيرة
مليئة بالغموض والاسرار

هنا يستلهم الشاعر من العهد القديم  وضع الرماد على الرأس , اذ  يستمد الرماد رمزيته من رواسب ما تخلفه النار او ما يتبقى من الانسان بعد الموت . اذن الرماد هو الهشاشة الروحية , وهو كذلك بنية التحول من مسرى الى آخر  , لهذا قرنه الشاعر بالغموض والاسرار لأن فعل التحول فعل لا يمكن قراءته بنحو آني , اذ يكتنفه الغموض , غموض المسرى وآفاقه غير المعلومة في اقل تقدير . وعلى الرغم مما للحمامة من تجليات سعيدة ومفرحة على كل المستويات الا  اننا نرى ان الغراب مستمر في عملية النقر على جمجمة الرائي من اجل الوصول الى لب الحقيقة غير العيانية , فهو اي الغراب والرائي متمازجان في نفس واحدة . كلاهما يبحث عن حقيقة لم يبينها النص  , فحيثما يغيب الرائي عن المشهد المسرحي , يظهر الغراب بسمة الباحث عن الحقيقة , وحيثما يغيب الغراب , يظهر الرائي باحثا عنها في جوانب كثيرة اولها نفسه التواقة للوصول الى مقتربات تلك الحقيقة التي هزت مضجعه منذ الصيرورة الاولى كونه جنسا بشريا باحثا عن حقيقة الاشياء وصولا الى المبتغى الذي ينشده

منذ الف عام
الغراب ينقر جمجمتي
فينبثق الدم عنيفا كشلال .والحمامة تضع فوق جمجمتي ,
دون جدوى
حفنة رماد !

لاحظ االاستعمال الدقيق للفعل ينبثق ولم يقل يسيل لأن الانبثاق  يحمل اندفاعا  بسبب استمرار عملية النقر . الغراب –هنا – هو الزمن المر , الاسود , الباحث عن مخلفات عفنة من التصرف الانساني , انها سرمدية الازمنة اللعينة المغلفة بسلطان الوحشية والطغيان واستلاب ارادة الانسان , والحمامة هي المقابل الموضوعي لهذا الطغيان الجارف الذي لا يبقي ولا يذر , فماذا تنفع حفنة من الافعال الحسنة حيال سيل عرم من النفاق والطغيان واللافضيلة . اذن هذا المنهج الاستبدالي قد نجح ايما نجاح في خلق عملية تفخيخ دلالي من اجل توسيع  الفضاء الايحائي الذي يزيد من درامية النص .
وتتشظى مجموعة من الدوال الثانوية من البؤرة الرئيسة بواسطة حزمة من الثيمات التي لا تخرج عن دلالة العنونة والمتمثلة بالأرق مما سيحدث نتيجة بزوغ هاجس يسيطر على الذاكراتي بنحو مهيمن حتى تصبح تلك الدوال قناعات راسخة

سيقتلك فرانكو
او اتباع فرانكو
او رصاص فرانكو
وستموت
بل ستشبع موتا
انت الذي لم تشبع من الحياة
مثلما الحياة
لم تشبع منك

في نصوص هذه المجموعة ثمة غائب يهيمن على كل المشاهد , انه الانسان المثقف , الواعي , المستقيم , النقي , الطاهر , نعم انه الاوتوبي المطلوب , لهذا كان اختيار فرانكو دقيقا لسببين اولهما : ان فرانكو اعتمد في تثبيت حكمه بداية على الفلاحين المغاربة بقيادة ( محمد أمزيان ) الذي بقى صديقا وحاميا لفرانكو , والسبب الثاني يكمن في ان فرانكو كان من الد اعداء الثقافة والمثقفين حتى انه قتل المبدع الكبير لوركا . اذن فرانكو قناع للكثير ممن يمتلكون السلطة ويدمرون الحرث والنسل , ولوركا قناع للمثقف العربي الذي لم يستطع ان يرى الحياة وزينتها بنحو جيد , او لم يسمح القدر له ان يضفي على الحياة لمساته النوعية وبذلك خسر الطرفان كل ما من شأنه ادامة النقاء والجمال . , الا ان هذا كله لم يثن الرائي في السير حثيثا نحو مرافىء القيم النبيلة

لكن لا يهم ايها الغرناطي الجميل
لا يهم يامن يسير الدم العربي
في عروقه المضيئة بالشوق
لا يهم ايها القتيل دون قبر او شاهدة

ان لوركا بقى راسخ المبادىء , جرىء الكلمة وهو يسير الى الموت متوافقا مع نفسه التي استنبطت ابداعها من عوالم الانسان الخفية  وبقيت علامة مضيئة في صدر التاريخ . ان المبدع لا يحتاج الى شاهدة , او قبر وصدق ابو تمام حين قال:
مضى طاهر الاثواب لم تبق روضة
                                   غداة ثوى الا أشتهت انها قبرُ

ان هذه المجموعة بل ان شعر اديب كمال الدين به حاجة الى تأمل طويل ووقفات نقدية مستفيضة واشتغال نقدي متفحص في كل صغيرة وكبيرة , اذ ان شعره يحمل محمولات تتقلب على اكثر من وجه وتستبطن امورا لا حصر لها  , وهو بعد هذا كله يبحث في المنجيات مما علق بالذات الانسانية  من ادران فانية .

1- الميزان في تفسير القران محمد حسين الطباطبائي ج16 ص338

أحدث المقالات

أحدث المقالات