23 ديسمبر، 2024 1:46 م

قراءة وتأويل  للمجموعة الشعرية إيقاظ البذور للشاعر فوزي السعد – يقظة الحواس والتطواف في حدائق الطفولة

قراءة وتأويل  للمجموعة الشعرية إيقاظ البذور للشاعر فوزي السعد – يقظة الحواس والتطواف في حدائق الطفولة

تستدعي أية قراءة لأي نص سبر أغواره والانفتاح على موجهات قراءته التي تفتح بنحو , أو بآخر مغالق المسكوت عنه , والمحاط باللغزية , لهذا , ينبغي الدخول إجرائيا لفحص مقتربات ذلك النص ضمن ما هو دلالي . ولعل أول المقتربات  التي سنبحثها هو الغلاف الأول .المجموعة برمتها أخذت شكلا مستطيلا , والشكل المستطيل هو الأكثر حضورا في حياتنا لعدم تناسب قياس خطوطه وان كمال وحدته تتجلى في تنوعه ويرتبط المستطيل بما هو دنيوي , ولا ادري هل اختير الشكل المستطيل بقصدية مسبقة أو جاء عشوائيا ؟ يتوسط عنوان المجموعة أعلى المستطيل بخط حاسوبي . يتكون العنوان من فونيمين هما المصدر ( إيقاظ ) + اسم .  كما يتألف دلاليا  من مكان + زمان . أما بلاغيا فيتسم بالإيحاء , إذ انه يستنطق الجماد ويفعًل الثابت . ويحمل العنوان شحنة موسيقية لأن مفردة الإيقاظ تستدعي فعلا حركيا وهي بعد ذلك عملية ذاتية ذات دلالة رغائبية في تجاوز المألوف  وتهشيم جدران الغفلة . والبذور تعني إرادة الحياة والخروج إلى النور وهي تدل على السعة لأنها منتجة لثمار لاحقة . إن ما أريد من عملية الإيقاظ يقع في خانة ما هو بلاغي وإبلاغي معا , فعملية الإيقاظ ما هي إلا عملية احتضان لمقومات تساعد على إكمال دورة الحياة وادامة زخم فعلها فيما هو معتاد عموما .لهذا فأن عملية التأويل  تستدعي القول إن عملية الإيقاظ قد تخطت ما هو قاموسي لأننا سنكتشف لاحقا إن هذه العملية ما هي إلا عملية عيش جديد في حياة الكتابة لأن الشاعر استطاع أن يمتحن الآتي بالخيال وهو بذلك يستدعينا للتحرر مما هو ثابت وبهذا نجح  أيما نجاح في جعل العالم المتخيل يبتلع العالم الواقعي  حتى ولو كان ذلك من باب اليقظة الحالمة لأنه فتح الباب أمام فعالية القراءة وآلية التأويل . . ثريا المجموعة جاءت باللون الأحمر والذي يرمز إلى الحياة في الكثير من الحضارات  وجاء تجنيس الكتاب بلون اصفر دال على الحركة والحيوية والوضوح  وغير خارج عن دائرة العنونة الرئيسية فيما تذهب إليه من تعلق بالحياة والطفولة والنقاء . يقع أسفل التجنيس لوحة الغلاف  وجاءت على هيأة شباك مستطيل مضاء باللون الأبيض وبجانبه امرأة تضع أكليلا على رأسها وتنظر من الشباك ويظهر في الأفق الأبعد من الشباك تل حجري وظل رجل , وللشباك دلالة مكانية ويمكن أن يصور لنا كمتلقين نوعين من العلاقة المتمثلة بالشخصية الداخل – المكان – الخارج , والشخصية الخارج وعلاقتها بالداخل , إذ يحصل تماه داخل حقل اللقاء البصري بواسطة الإضاءة الداخلية والخارجية. أما دلالة الخطوط التي هي أعمدة حديد  فتعد حاجز عزلة بين الداخل والخارج وهي بعد ذلك , أي الشبابيك محطة للانتظار والمشاهدة لما يجري في الخارج معبرة عن قلق البحث فيما هو بعدي . ولا نبتعد كثيرا إذا ما قلنا إن الشبابيك ذات علاقة وطيدة بالمحيط وهي أداة استكشاف البرانى وبها يختلط الرائي والمرئي وتستجلى منها عمليا الغائب وعودته . وعلى غير العادة جاء اسم الشاعر في الأسفل وهو دليل اكتفاء ذاتي له في مضمار العرض . يتشح الغلاف باللون الأسود الذي يتخلله اللون البني الفاتح وهما دليل الانجذاب , والحنين إلى خوالي الأيام والسنين . تظهر في الصفحة الثالثة إشارة مهمة إلى سنوات كتابة القصائد والتي تفيد الدارس في استقراء تلك الفترة وما نتج عنها , ثم هناك المفتتح الذي يصور لنا علاقة الشاعر بالموجودات وعلاقة تلك الموجودات بما يحيطها  وعلاقة الكل بالشاعر وإحساساته وتصوراته .
تنقسم المجموعة إلى ثلاثة أقسام هي : بذور الطفولة , وبذور الصبا وبذور الشباب  وهذا التقسيم تقسيم  مرحلي  وليس زمنيا إذ إن بذور الشباب هي البذور الجنينية الأولى . في بذور الطفولة بل في المجموعة كلها تشرئب القصيدة السيرذاتية  بنحو لافت للنظر  وهي تستدعي ماضيا مكتنزا بالنقاء والصدق والبراءة .
بواسطة تكثيف الرؤى مرة بالتلميح ومرة أخرى بالإشارة , فالذاكرة – هنا – هي المعبر الذي يربط بين الواقعي كحوادث والتخيلي كشعر . هذان العالمان يتواشجان ويتعالقان وان كانا مختلفين : عالم ذو مرجعية تاريخية  لا يخضع للمعالجة بل ينساب كما هو , وعالم خيالي في ضوء المتحصل الآني , وهذا العالم يُجسد بنحو وعيوي ثم يجمع ليتخذ شكلا من الإشكال التي يقررها الشاعر في تجربته الشعرية  بواسطة مجموعة من الدلالات المرئية التي تجسدها لغته الشفيفة والمنسابة انسيابا رقراقا من دون تكلف أو تصنع

كنجمة هوت من السماء
من رحم الأم
هوى …
ما كان في انتظاره
سوى حصيرة من الخوص
وفانوس وصرة
من الزعتر والكمون

الذاكرة –هنا – تخضع للزمان والمكان لأن الحدث يستدعي دائما استمرارية المكان وتدفق الخط السيروري للزمن .فالسماء رحم للنجوم والكواكب الأخرى , وعملية المشابهة بين النجمة والشخص الساقط من رحم أمه متعاضدة في سرعة النزول  من ناحية المكان وسرعته غير المحسوبة من ناحية الزمن , أما الكون الذي ستصير فيه الشخصية النازلة هو كون الناس الفقراء الذين يلتحفون الارض وما تنبت .عناصر الاستقبال عناصر بسيطة لكنها لم تخرج عن المألوف الذي يؤطر حياة الناس في القرية العراقية , ثم يسرد الشاعر ألطاف البيئة القروية إذ إن  هدهدات الأطفال تخرج مموسقة من الطبيعة من دون أن يتدخل الإنسان فيها
كان حفيف السعف الراقص
فوق نخلة قرب سياج الدار
سقسقة العصفور
كان نشيد الماء في ساقية زرقاء
تنويمه أولى …
بكى الطفل
على أنغامها ونام

إن الصورة السردبصرية لم تلغ الفعل الشعري من أن يكون جاذبا وقادرا على دفع المتلقي في الاستمرار  من اجل معرفة اللاحق والمتحقق بعد النوم

حين صحا
ما وجد النخلة والعصفور
وما رأى ساقية
والشمس ما عادت
تصب الضوء
من شباك كوخ جده القديم
وجده قد مات
لكم تمنى لو يظل نائما
نومته الأولى
ولم يصح على
خرابه الأخير

 فاالافعال المضارعة تدل على الحيوية والتجدد والاستمرار حتى الجملة الاسمية ما عادت تدل على الثبوت حين يكون خبرها جملة فعلية فهي تدل أيضا على الاستمرار , استمرار التمني على ما كان من نبض الحياة عبر البساطة والطهارة والنقاء .إن المفارقة الدرامية Dramatic Irony   المتحصلة من خراب الحاضر بواسطة اقتلاع كل ما هو يانع ونضير وتحول الذات الإنسانية من ذات زارعة , منبتة إلى ذات قالعة ومدمرة وساحقة لكل  ما هويانع من اجل قيم إسمنتية لا تبقي ولا تذرتؤسس بعدا ايقونا لأستلاب متحصلات حياتية لا يمكن ان تعود . فهروب الشاعر إلى الينابيع الأول للطفولة ما هو إلا ارتباط حقيقي بالأرض والجذور الراسخة في العقل والضمير لكل ما هو إنساني سامق .
في قصيدة الخجل البصري التي تقع في حقل بذور الصبا أرى أفضلية في استبدال الخجل  بالحياء لأن الخجل نوع من أنواع الرهاب النفسي  إذ يؤدي إلى يقظة كاذبة إما الحياء فهو التزام بالفضيلة لذلك تكون النفس مطمئنة وفي الحياء مراعاة لشعور الآخر إلى ابعد حد ويحضرني قول القائل :
ورب قبيحة ما حال بيني = وبين ركوبها إلا الحياءُ
عود على بدء نقول في الخجل البصري إن بذرة الحياء لدى الإنسان الجنوبي  قد خلقت معه ونمت فيه نماء اللحاء في الشجر ولعل الدراسات البيئية الحديثة تعول على الماء أو ما يسمى الإنسان الهيدروليكي , فكلما كان الإنسان قريبا من الماء لان طبعه وأصبح أكثر عاطفة وحياء وغلب عليه طابع التآلف والمحبة وحب الآخرين والتضحية في سبيلهم إضافة إلى نبله وصدق مواقفه . ونقصد بالكائن على وجه التحديد الذات

منذ ولادتنا
نحن رضعنا الخجل البصري المتوارث
في لبن الأثداء
طرقات مدينتنا تخجل
لو لاح لها مشهد إغراء
وشبابيك منازلنا
الشباك يطأطئ رأسه
من خجل حين يطل على
نافذة الجيران الحسناء
حتى اسماك شواطئنا تخجل
لو يكشف عنها الصياد
من خجل تستر عورتها
بشباك الصيد
ولا تخشى أن تُصطاد

ثمة ملاحظة مهمة وهي إن  الشاعر  يستعمل الجمل الفعلية لأنها ذات دينامكية حركية حبلى بالحركة السردية التي تستدعي مثل هذا الاستعمال . في بذور الشباب نقف امام قصيدة الذي لا مرد له وهي قصيدة شذرية لكنها مهمة تقول :

يا قطار الزمان السريع
… لماذا عبرت الحدود
من يرد الذي لا مرد له
ويعيد الينا الذي
لا يعود ؟

تبدأ القصيدة بالدال اللساني يا المخصوص بالنداء والذي يشير الى التركيز على المنادى وتركيز الاهتمام من حوله اضافة الى ما يكتنزنه النداء من ايجاز وتلوين للكلام و ما يبعثه من الاطمئنان في النفس . وتنبني هذه القصيدة القصيرة والمعبرة على ثنائية القطار – الحدود والذي لا مرد له والذي لا يعود . ان هذه الثنائيات  تستهدف في شقها الاول عملية الوصول , ومن ثم عملية التجاوز على ما هو مقرر سلفا والمتمثل بعملية الاجتياز . ان عملية اللوم الموجهة للقطار الزمن في تخطيه للحدود ما هي الا استهداف للغربة المتحصلة من ذلك الاجتياز .  فعملية تقدم النداء على الاستفهام عملية مقصدية يراد منها تبيان قرب القطار من المتحدث وبُعد الحدود عنه كتحصيل حاصل فعلي على ارض الواقع . فوجود يا النداء تساعد على الامتداد الزمني بيد ان السؤال هو الذي يجعل الزمن زمنا صفريا لا يمكن ارجاعه ولو انه متأصل في الروح لهذا تأخر السؤال حتى لا يصاب المتحدث بخيبة امل من اول الطريق . كما ان تأخر الاستفهام يضعنا في مواجهة اللاعودة وهذا ما يدفعنا الى النكوص , ولهذا كان تأخير الاستفهام ذكيا كي لا يصاب المتلقي منذ البداية بخيبة امل او نكوص روحي . ان هذه القصيدة تخوض  صراعا مع بطل مضاد  هو الزمان ويا له من بطل لا يموت !!! .