29 ديسمبر، 2024 4:00 م

قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية ” أطراس حارس الزمن ” للشاعر كاظم اللايذ / لمسات في قاع الذاكرة

قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية ” أطراس حارس الزمن ” للشاعر كاظم اللايذ / لمسات في قاع الذاكرة

تعد العناصر المحايثة للنص immanente  نصوصا لا يمكن إهمالها بسبب من أنها أضحت  مكونا نصيا له أبعاده ودلالاته الخاصة التي تجعل منه – في بعض الأحيان – متنا لوحده لما له من تأثير معرفي وجمالي على المتلقي . يتكون النصيص في هذه المجموعة  من أربع فونيمات ( كلمات لفظية )  صيغت في إطار جملة اسمية متكونة من : مبتدأ محذوف مقدر باسم إشارة ( هذه ) + خبر مرفوع بالضمة وهو مضاف واسم مضاف إليه  وهو مضاف واسم آخر مضاف إليه , أما البعد التأويلي للنصيص فيثير فينا الكثير من الدلالات , إذ لا يمكن لنا عزل الزمان عما يتبدى لنا من فائض الرؤية  إلى ما وراء الرؤيا في البعد التأملي في اقل تقدير , إذ إن التشبث  بإعادة كتابة ما مكتوب في منطقة الأبدية ( الطرس )  هو في حقيقته قضية تأملية أكثر مما هي واقعية , لهذا يذهب النصيص   في استتارة ما هو ابدي لإظهار ما هو عياني مرئي يقيني بواسطة مجموعة من الملامح التي تزيل الالتباس بين ما هو كائن الطرس وما يشوبه التصور المابعدي للأشياء حارس الزمن .إذن الاطراس هنا  هي البعد التقويمي لما يقع في دائرة الزمان , أو البعد التطهيري الذي ينقي الزمان من الشوائب العالقة فيه  , لأننا  لا يمكن أن نمسك الزمان لكن بإمكاننا أن نمسك طرسه المتغذي من دواخلنا  . إذن عملية التطريس هي فعل كتابة ثانية  ( لغة ثانية ) بحسب دي سوسيرمتحققة بواسطة الطرس المادة الخام في داخل زمن  , هذا الزمن ليس عدما , وان كان غير عياني  لكنه متحقق الوجود في مرحلتين مهمتين هما : الماضي بكينونته وبما يحمل من ذيل شيئي والحاضر وما يكتنف من أدوات . إذن الفجوة الحاصلة بين ما كان والكائن لحظويا  وما سيكون وبين ما هو غير موجود ولا الذي سيوجد هو  المعني بالحراسة لأنه غير موثوق به زمنيا وهذا ما أبدعت فيه العنونة من بعد فلسفي ضم بين دفتيه ذلك التطابق بين التأمل النظري واليقين العيني .
عتبة التجنيس :تقع المجموعة ضمن خانة القصائد المنثورة التي تعتمد على توسيع مديات المعنى  , لهذا نرى النصوص تعتمد على التأثيث الرؤيوي من اجل خلق مجموعة من الإيحاءات الدلالية للوصول إلى المبتغى . كما ركزت المجموعة على الانفعالات الإنسانية الشعورية واللاشعورية بواسطة التقاط الامزجة البشرية في صراعها الذاتي والموضوعي .
لوحة الغلاف : اتشحت اللوحة التي أبدعها الفنان والشاعر هاشم تايه بإطار فستقي والذي يدل على الروح العملية والرغبة في انجاز الأشياء وهي  تشي بملامح عديدة . فاللون البني من الألوان الطينية التي ترمز إلى جذور الأشياء وتأصيلها وهو من الألوان العملية التي تشير إلى البساطة والعزلة أيضا  . تظهر في اللوحة بيوت تراثية  وامرأة متشحة بالسواد ووجوه ثلاثة على هيأة مفاتيح مؤطرة بإطار حديدي وهي تنظر إلى البيوت  . واللوحة تحاول أن  تعمق رؤيتنا بالمرئي والمتخيل في الوقت نفسه عبر علاقة إيحائية . إذ إن التوكيد على الرأس من دون باقي أجزاء الجسم يشي بحضور الأشياء بصورها القديمة التي تقف بمثابة الحارس على الأبواب . إنها إشارة إلى إدراك ما يرجى بواسطة  المحمولات المتحصلة مما يترشح من الواقع وربطها بما كان وما سيكون . حمل الغلاف الأخير مقطعا من قصيدة كوني يا أم شفيعي والتي سنتناولها بالقراءة لاحقا والدائرة في فلك العنونة الرئيسة . سنتناول في قراءتنا المقتربات الآتية بنحو تسلسلي لأنها تمتد على جسد المجموعة كثيمات رئيسة :
1- تسخير الأسماء الأسطورية
2- تبئير الأمكنة
3-  تناوب البنية العطفية
4-  فحص الشخصيات التراثية
5- دوي الصوت البراني

تسخير الأسماء الأسطورية

تعد الأسطورة جزءا مهما من حياة الشعوب ومن دونها تبقى تلك الحياة من دون لذة ودهشة وتقصي وبحث عن المجهول . ولأن مهمة الشعر الحداثوي تأسيس ما هو غير مألوف بواسطة الارتقاء بالعقل إلى مصاف الخصوبة والتأمل الفكري البعيد , فأنها , أي الأسطورة , في الفهم الحداثي ليست مجرد فحص لحظوي لومضة زمنية  , أو لمتراكم معرفي سابق بل إنها عملية استثارة معرفية بمقترب جمالي .

في الحديقة التي أزهارها رؤوس الشياطين
وأوراقها السنة السعالي وماؤها دم الرذيلة الأسود
يخصف الشجر على وجهي
أوراقه الميتة
وتذرف الخفافيش على صلعتي
وأنا عائد مع كلكامش

من رحلته
دون أكسير اليقين.
روحي معلقة
كسروال على حبل غسيل
تعبث به الريح
وأوقاتي شتائم
أكورها ..
ثم أقذف بها على المارة

إن النزوع النفسي السلبي قد ترك أثارا قولية سلبية شكلت النسق النصي بواسطة تصوير ما يعتري النفس مما  هو واقع في المابعدي وان حمل بعضا مما هو في مدى التصور الواقعي .هنا ينبري النص لنقل التجربة من مستواها  المابعدي إلى مستواها الذاتي  بواسطة مجموعة من المدركات الحسية وغير الحسية المجتمعة في دائرة واحدة على الرغم من تناقضها الظاهر والمتمثلة بالمتضادات الآتية :

الأزهار وما يعاكسها……… رؤوس الشياطين
أوراق الأزهار وما يعاكسها ……. ألسنة ألسعالي
ماء الأزهار وما يعاكسه……… دم الرذيلة الأسود

إن هذا الاستعمال المتداخل , والمتناقض  ينم عن انعدام الثقة في القيم المتوافرة وغلبة المادي على الروحي لهذا نرى الشاعر وقد ابتعد عن الإشارة الأسطورية بنحو ذكي من اجل أن يكثف الغناء الذاتي الذي يمثلها من دون أن يخسر من الشعر شيئا , ومن دون أن يخسر أيضا شيئا من خوارق الأشياء التي تدور في فلك ما هو أسطوري بدليل ما قلنا آنفا من متناقضات نصية . ولم يخف الشاعر ولعه بالتراثي بواسطة الملفوظات القرآنية المتمثلة برؤوس الشياطين وعملية خصف الأوراق التي أضفت بعدا روحيا على التصور المابعدي .

تبئير الامكنة

في المنزل
المطل على الظلمات
عند حافة العالم
أتحسس لحمي ….
أحقا
هذا الجسد الذاوي
جسدي ؟

في المقطع آنفا ثمة تصوير تخييلي يغور في أسطورة شخصية لأن الفعل ألذاكراتي فعل يتوق لفض بكارة المكان والارتفاع به من درك المكانية الصلدة إلى الوجود الحضوري المتكور في بنية الجسد من اجل ابتداع واستنهاض تاريخ ذلك الجسد  بواسطة تعطيل المخيلة بغيوم ما هو تاريخي , بل محاولة الغور في دواخل ذلك الجسد لاستجلاء صورته الداخلية بنحو تخييلي غير مسفه .إنها هشاشة الجسد مقابل الوجود المابعدي , إنها المخيال الذي يستقدم الرؤى دون أن يخزن صاحبه , حامله , جسده الثاوي فيه علانية , أو استضمارا لكي يتجوهر في ذات قلقة لا تدرك كنه كينونتها بسبب من وجود سديم روحي يغيب كل الأشياء من اجل أن يبتدع منطقة عازلة بين العماء والإبصار.

تناوب البنية العطفية
يتخذ التكرار الدائري مساحته في هذه المجموعة ويتجلى بنحو واضح في التكرار الحرفي ( واو العطف )  الذي يحقق تنوعا إيقاعيا داخليا من اجل أن يعمق الشعور بالأسى الرابض على جسد الأم التي تمثل الماضي بكل محمولاته  حتى إن الصورة الكلية لها تغور في نفسية المتلقي دون عناء أو تكلف لأن الشاعر استطاع  حشد,  وتجييش  مجموعة من الموتيفات الصغيرة لتعضيد تأثير الصورة الكلية

وهذه المحمرة الأم
قد وهن العظم منها
وحط على رأسها الشيب
تخرج كل غروب
إلى غابة النخل
تنظر في نقطة في الفراغ البعيد …
وتمضي تحدق
تمضي تحدق
حتى يسود الظلام
يعتمد الشاعر – هنا – على عبارات ذات سمة زمكانية تحاول إجرائيا ترسيخ  بنية الغائب بواسطة عرض الحال المنكفئ للأم والمتمثل في النظر في الفراغ البعيد حيث تقع منطقة اللاوعي الذي تنبثق منه رؤى غير منظورة بيد إنها ماكثة بل ومترسبة في قعر ألذاكراتي , لهذا استمر فعل التحديق لكي لا تنقطع الرؤية عن الاتصال بعالم الوعي .

فحص الشخصيات التراثية

أروح إليه
كما الماء يتبع مجراه
قلبي دليلي
ويسألني عوسج البر
عما أريد
فأهمس : قلبي دليلي
وان كان في الحب أعمى
فأعمى المحبة
أصدق من مبصر

هذا المقطع من قصيدة بأسم : علي بن أبي طالب , وهي تستحضر هذه الشخصية الفذة وتضعنا القصيدة أمام معطيين : أولهما إن هذه الشخصية رمز لكل القيم الفاضلة التي استطاعت أن تتمدد على الأزمنة كلها من دون أن تفقد بريقها الإنساني بواسطة سعيها الحثيث لتثبيت تلك القيم وثانيهما : هذا الانجذاب الروحي والعقلي  الذي يصل مرتبة إلى درجة الوله  , لهذا لم يضع الشاعر حبه للشخصية في خانة الحب المبصر . إذ لو وضعه في هذه الخانة لما استطاع أن يتوخى عمق حبه  ولتوقف الحب عند النظر لكنه الحب الأعمى الاستثناء , ولولاه لهجر المحب حبيبه وتعلق بغيره .

دوي الصوت البراني
فكيف يفوتك
أنت الذي يقرأ الغيب
أن قطارك
مازال رهن سقيفته
جاثما في المكان الظليل
يراوح فوق حديدته
في الفراغ
وان الوصول إلى عدن
حلمك المستحيل

إن الصوت البرانى يحاول أن يعطل حواس الآخر بدليل القرينة النصية , يحاول أن يحيد فعلها في تدفق تيار الوعي بما يحيطها من ذاتي وموضوعي من اجل دفع عملية تمثل اللغة بنحو وصفي والاصطفاف مع ما يمكن سرده داخل بنية المحكي الشعري , أما الصوت الجواني فيحاول الاستتار بالصمت من اجل الصعود إلى السطح لتأسيس بنيات لغوية قادرة على استكناه الوجود البرانى بكل محمولاته . هكذا يحاول الشاعر أن يجعل من الصمت مثابة لمجموعة من الانبثاقات الاستفهامية الثاوية في المجال الرؤيوي والتي تعمل على كشف الذات ثم انكشاف وعيها إزاء المتحصلات المترشحة من تلك الرؤى . إن البدء بجملة استفهامية يجعلنا على يقين من وجود شخص آخر  يحمل جوابا , إضافة إلى إن السؤال بقى من دون علامة استفهام مما يستتبع ذلك عملية خرق للمنتوج الدلالي لأن المتحصل النهائي يشي بخيبة أمل في تحقيق المبتغى وهذا ما قاد إلى حرف البنية الاستفهامية عنة مقصدها الرئيس بواسطة السطر الثاني الذي يسوغ مثل هذا الانحراف السيروري المساق بقصد محاولة إسباغ الوعي ألاستباقي للأشياء بواسطة امتلاك ناصية القراءة لما هو بعدي .