23 ديسمبر، 2024 9:54 ص

قراءة وتأويل لقصيدة (من …… ؟ ) للشاعر علي أبو عراق – السؤال عن هوية الفاعل

قراءة وتأويل لقصيدة (من …… ؟ ) للشاعر علي أبو عراق – السؤال عن هوية الفاعل

الزمن
غراب منتوف الريش
برجله الوحيدة
يقلب محارق لا تخمد

بهذه الصورة السوداوية القاتمة تتعرى الحقيقة وتتجلى أمام أعيننا ونحن كمن يعلك الهواء بأيد فارغة مقلوبة , ويحرث البحر ويركض خلف أشياء واقفة وهذا هو ديدن الشعر الذي يتفحص الواقع برؤى ثاقبة تستجلي المستور قبل الظاهر , وتعالج الظاهر بروح  إنسانية لا تريد إلا الخلاص مما علق بها من أدران الزمان المقيت الذي لم يخلف غير المزابل والمحارق والغربان الناعبة . وأمام هذا الخراب كله لابد أن تشرئب أسئلة , هي في حقيقتها أسئلة الوجود حيال المغيوب  وغير القابلة بالمقسوم , الباحثة عمن يقوم بأية قفزة خارج وجوده المحاط بالخيبة , ( والباحث عما يملأ عدمه وهو يضيع أكثر فأكثر ضياعا كاملا في عالم الشيئية اليومية إستراتيجية التسمية مطاع صفدي ص83 .

النص
من يبكي مدنا رحلت
وأخرى تتأهب للرحيل؟
من ينكثُ عنها
غبار جيوش هاربة
وعطن بساطيل غازية ؟
من يبشرها بسماء
تمطرُ
أسراب حمام
لا يبصق فمها المزرق
بشارات اللعنة
من يعينها
على حزم ما تبقى
من نارها
ورمادها
ويسند كتفها
لتمضي
بقليل من الهلع
إلى ظلماتها المنتظرة

من يخنقه النحيب
ويسحب شرشفا باردا
على عينين ككوتي جحيم
ويتلو صلاة الوحشة
على روحها ؟
التي علقت دهورا
على حبل من جثث أطفال
يتأرجح
في مواسم أزهار اللحم الوردي

ينبغي الإشارة أولا  إلى إن  اضطلاع هذه القصيدة بهذا التوجه لا يعد سلبا بل هو استثمار لحس شعري يتوسم دورا إنسانيا ذا قيمة فنية تعزى إلى واقعية تبلورت في جمالية شعرية . تنبي القصيدة على محور الاستفهام  المشتعل بداية والخابي نهاية , فالقصيدة تتوزع على مجموعة من الإشارات المهمة تتمثل بالاتي :

1- إشارة الخراب التي يلخصها السطر الأول والثاني في القصيدة
2- إشارة الانكسار التي تلخصها الاسطر3 , 4 و5
3- إشارة الأمل التي تلخصها الاسطر6,7 و8
4- إشارة الإدراك الحسي بالفجيعة التي تلخصها الأسطر من 19 –
 27
إن بنية الخطاب – هنا – وعلى الرغم من انبهامها عبر بنية الأسئلة إلا إنها غير ممتنعة عن المكاشفة في ضوء الإشارات آنفا , إذ إنها توحي بنحو واف بحقيقة تتبلور بواسطة الدلالات المنبثقة منها , فالأسئلة هي البؤرة المولدة والمختفية وراء حجاب المغيوب مقصديا , ومن هنا تتأتى المتعة في استكناه وملاحقة مترشحات تلك الأسئلة التي قوضت الذات السائلة واستحوذت على جل اهتمامه , فكأن فحوى الأسئلة ينشد خلاصا لا يتأتى من معطيات ما هو رؤيوي  بل مما يترشح من الواقع , لأن طرح الأسئلة لا فائدة منه إلا بمقدار ما تقوم به من عملية عصف روحي  يتوخى حلحلة الوضع القائم باتجاه تغييره جذريا بواسطة استنهاض الآخر بمجموعة من المعطيات السالبة لإرادته والقائمة بقتل كل ما هو مضيء

كما يمكن أن نجسد البنية التصويرية  بالجدول الآتي :

الصورة                              وظيفتها في النص
مدنا تتأهب للرحيل                                تهويل الخطر القادم
أسراب حمام لا يبصق فمها                     ثبات روح المحبة والسلام
المزرق بشارات اللعنة
من يعينها على حزم ما تبقى                      التهديد بالزوال
من نارها ورمادها
يتأرجح في مواسم أزهار اللحم                التذبذب والزوال
الوردي

 

لاحظ إن الوظائف تشتغل بنحو تأثير الموجهات الخارجية التي تأخذ أبعادها من البؤرة الأساسية  الاستفهام الذي تعزى له بواعث التأثير المتمثلة بمجموعة من الاستخلاصات القيمية , إضافة إلى انطوائها على قصد مبيت يرمي إلى اضفاء الوظيفة الوصفية لتوكيد تأثير البنية الخارجية ومحاولة خلخلة الحالة النفسية للأخر  بواسطة تعزيز احتمالات حدوث الخراب الاكبر بدءا من عملية | التأهب للرحيل | حتى عملية التأرجح الدالة على القلق واللاثبات . وتنبؤنا النهاية عن اتساع بنية التوتر الخالية من أي سؤال , فلكل عنصر من عناصر الجملة موقع في ترتيب بناء الجملة , كما إن لترتيب عناصرها دورا في اختلاف المعنى وتعدده من اجل إضافة دلالات جديدة توسع مديات التأويل , والاستنتاج . فعملية التقديم والتأخير التي مارسها الشاعر في القصيدة أبرزت موقفا انفعاليا حيال المتحصل , وما يحدث , وما يمكن أن يحدث في ظل حاضر رقراق ومتسارع لا يتسم بالاستقرار , النقاء والصدق . فالأسلوب الخبري المستعمل ذو مقصدية بوحية مما يعتمل في ذات الشاعر ,  مما أوحى بقيمة سردية اتسمت معالمها في المضمون المحكي المؤطر بالخوف من القادم , والمستنتج مما تقدم من الأيام .
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا التحليل , إن قصيدة النثر لا تتبنى كيان وزني معين  كمظهر خارجي  لأنها تعتمد على الإيقاع الداخلي الذي تولده البنى الشعرية المتكثرة في أكثر من مجال . يتجلى في هذه القصيدة الإيقاع الداخلي عبر المنظومة الحروفية المستعملة , إذ يشكل الحرف مستوى صوتيا لا يستهان به في رفع منسوب البنية الإيقاعية , إذ هيمنت بعض أصوات الحروف على القصيدة وكالاتي :

حرف الميم : 22مرة
حرف النون : 10 مرة
حرف العين :9 مرة
حرف الغين : 3 مرة
حرف الراء :23 مرة
حرف الشين:  6 مرة
حرف السين : 6 مرة
حرف الكاف : 5 مرة
حرف التاء :15 مرة
حرف الفاء:3 مرة
حرف الحاء :11 مرة

إن حروف الراء , العين والميم من الحروف المجهورة , بينما الكاف والحاء والفاء من الحروف المهموسة , وعملية المزاوجة بين الجهر والهمس تضفي تنويعا إيقاعيا  بواسطة الجرس الداخلي وتنغيمه الموسيقي وتأثيره على إذن المتلقي واستجابته له في ترطيب وطراوة البعد الاستفهامي المكتنز حيرة إزاء الآتي . هذا على المستوى الصوتي ,أما على مستوى بنية الكلمات فقد تكرر الآتي :
 
1- من + فعل ( 5 ) مرة
2- من + اسم ( 1 ) مرة
3-  تكرير بنية التقابل في الكلمة مثل ( رحلت , رحيل )

إن هذا النوع من التكرير يزيد من سعة التناغم الإيقاعي وإظهار الجانب الانفعالي الذي يوسع من مساحة التوتر ويبرز السمة الشعورية الداخلية من اجل أن تكون على السطح لاستكمال دائرة التأثير . إضافة إلى ما تقدم فأن تنوع الجملة ما بين فعلية واسمية يساعد على تنمية الجانب ألحدثي ويعزز الفضاء الزمني مع ما تقوم به الجملة الاسمية من إبراز الجانب التقريري والإخباري الذي يكتنف لغة السارد . وتلعب مهيمنة الأفعال وتنوعها في هذا النص دورا لا يستهان به وكالاتي :

1- تكرير الفعل المضارع ( 13 ) مرة
2- تكرير الفعل الماضي (1 ) مرة
3- لم يرد ذكر لفعل الأمر

إن ما سبق يعطينا استنتاجا بأن مقام النص ينحى منحى استجلائيا لموقف شعوري إزاء مؤثرات خارجية متغيرة ومستمرة بواسطة التركيز على الجانب الحدثي المتحقق , أو القابل للتحقق والذي ترد إليه كل أسباب الخيبة واليأس . كما إن عملية التقديم والتأخير في البنية النحوية قد ابرز موقفا انفعاليا حيال ما يحدث , وما يمكن أن يحدث في ظل مصدات لا تتسم بالثبات والاستقرار والنقاء والصدق . وتتجلى أهمية التعامل مع الضمائر وخاصة ضميري الغائب بالإيحاء إلى  القيمة السردية التي تجلت معالمها في المضمون المحكي .

بنية الاستفهام

يستمد الاستفهام بعده القيمي في القصيدة مما يعرش عليه من بعد إنساني نازف , وروح مكدودة , باحثة في أفق الحقيقة من اجل فتح كوة لدفقات شعرية تلبس لبوس الخلاص , وتستحضر وهج الحقيقة بواسطة فحص الوجود الإنساني المتآكل , وتغذية روح السؤال في مواجهة الواقع .  إن ما سبق دفع الشاعر إلى الاستعانة بالمكان المطلق وذاكرته لأنه غير متحول , وغير زائل , على العكس من الإنسان المتحول دائما عن ثوابته لظروف ذاتية وموضوعية . ولعل استعمال البنية الاستفهامية يزيد من اتساع رقعة العامل النفسي الضاغط على الآخر من اجل دفعه للبحث عن أجوبة معقولة لأسئلة ظلت من دون جواب منذ صيرورة البشرية .إذن لقد نجح أسلوب الاستفهام – هنا – في تضخيم روح المواجهة من دون أن يدع مجالا بوجود ثغرة تراخ إنساني بجوارها لأن المشهد يخبئ علة سيكولوجية أكثر منها اتفاقية في مواجهة الدمار والخراب الحاصل في بنية المجتمع وآثاره اللاحقة .

القصيدة من المجموعة الشعرية ( من …؟ ) الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة 2012