23 ديسمبر، 2024 3:53 م

قراءة وتأويل لقصيدة ( مغيب اخضر ) للشاعر طالب عبد العزيز

قراءة وتأويل لقصيدة ( مغيب اخضر ) للشاعر طالب عبد العزيز

المكان زهرة الروح ومتنفسها

يشكل المكان عند الكثير من الشعراء والسرديين بعدا تنبعث منه رائحة الماضي بكل انثيالاته وبعطره الندي الذي يطرز ياقة الايام والذي يظل ملتصقا بهم التصاق القميص بالجسد .فمن حيث يكف فعل المكان عن انزياحه البعدوي يبدأ الحلم الواعي بالرحيل صوبه قاطعا مفازات واشواطا بعيدة ونائية من اجل الوصول الى مقتربات ذلك المكان الثر والاثير الذي لا يمكن محوه من الروح والقلب انى كانت عذاباته . وعلى الرغم من ان الامكنة تبقى عصية على الفهم من الجانب النفسي الاعمق اذ انها تكون للبعض معادلا موضوعيا لذواتهم التي عرش عليها ذلك المكان في حين تمر مرور الكرام عند البعض الاخر لأنها لا تشكل نواة في حيواتهم ومن ليس له نواة قادرة على ان تكون قطب الرحى على استكناه الماضي والان والمستقبل فهو كمن يسير من دون بوصلة  .نعم المكان هو تاريخ الشخصية بكل ابعادها . ان لجوء الشاعر او السارد الى التشبث بالمكان ومحاكاته له في ضوء المتحصل الاني ما هو الا عودة للنبع حيث تختلط الازمنة وقد تمتد الى الخلف بغية انعاش ما يمكن انعاشه مما قد تحصل من لذة لا تساويها لذة في هذا المكان او ذاك . ان طالب عبد العزيز من الشعراء البصريين القلائل الذين يشكل المكان عندهم هاجسا رؤيويا بل ان امكنته امتداد لروحه حتى انه يتخذ عنده بعدا فلسفيا اذ ان امكنته امكنة اشتمالية , بمعنى انها تمتد في ازمنة مختلفة .انها امكنة لا تحدها الحهات الاربع والاطوال المعروفة ولا يضمها زمن , اي ان زمنها زمن سيال لأنها – في الاصل – امكنة مفتوحة على  الحياة .ان ابا الخصيب ليست مجرد ارض بل هي ( ارم ) اخرى حيث يمتد النهر وتضرب موجاته الساحل دهرا بلا حدود , وتطوق سعفات النخيل النسيمات الباردة الخارجة على حياء من بين السعفات لتثير حداء النوتية واصوات الشدات . الخصيبي سفر نفس فياضة بالحب الطاهر والنقي للارض والانسان حتى ان هذه البقعة اللازمنية واللامكانية  تحتضن بين دفتيها اجساد ابنائها الطيبين , لهذا كان وسيبقى طالب عبد العزيز عاشقها الاول والاخير لأنه متيقن ان ( مغيب عبد العزيز ) لا يزال طريا لأنه رضع من اديم ارض مقمرة .
تبدأ قصيدة ( مغيب اخضر ) بعنوان يحمل بنية متناقضة ظاهريا لكنها متعاضدة داخليا . التعاضد الداخلي متأت من استمرار الاخضرار الروحي للمغيب ولهذا لم تخنه الارض بل كان وديعة ثمينة لديها مما جعلها تبقي عليه حيا في ذكراه , في رائحته , في وجوده الممتد في ازمنة لاحقة . الاستهلال الابتدائي يكمن في السطر الاول المشحون بمجموعة من الدلالات المهمة :

على ساحل الآمك قف

ان كلمة الساحل لوحدها ذات دلالات متعددة وتناقضة فهي الامتداد والعمق , الحياة والموت , القهر والقوة , الامل واليأس , الاغواء والخوف . اما ثيمة الوقوف المتحصلة من الدال اللساني الفعلي الامري قف   فهي ثيمة اعتبارية وان كانت تحمل الصفة الامرية , بمعنى ان السارد يريد من الغائب ان يأخذ  من عملية الوقوف عبرة لأمتدادات ظاهرة وعميقة في الوقت نفسه . فالوقوف على الساحل ما هو الا  مجموعة من الانثيالات لأزمنة مرت اضافة لأنه وقوف متصل بمشيمة الارض التي ارضعت المروي له انسانية ونبلا وطهارة . ولو تمعنا قليلا بهذا الاستهلال لوجدنا ان عملية الوقوف تعد النواة لأستقراء المغيبمما هو غير منظور لأنه منفتح – في الاصل – على الابعاد الزمنية المعروفة .فالوقوف الاني يشكل ما تحت الاقدام من نظرة وهو في الوقت نفسه يندفع الى اوقات خلت ثم يقارن ذلك كله مع ما يمكن ان يخصل في المستقبل , لهذا جاءت العنونة في مدار هذه التواة مغيب اخضر . فالمغيب دائما يميال الى الحمرة المشفوعة بالسواد بيد ان اسباغ الاخضرار عليه ما هو الا دليل طراوته ويناعته وامتداده الزمني ولا وقوفه عند نقطة معينة بمراوحة كليلة . انه حياة كاملة , حياة مليئة بالازمنة والامكنة التي ارتيدت والتي لم ترتاد , لهذا احتوت بنية العنونة على الزمان والمكان , الزمان الذي  يمثله الغياب والمكان المتشح بالاخضرار بكل ما يحمل من ديمومة الحياة ونضجها وطراوتها .والعنوان – بعد ذلك –  ينفتح على مكانين احدهما سفلي وهو القبر الذي ترقد فيه الشخصية والمغيب فيه الجسد فقط والمكان العلوي الذي تسبح فيه الروح وهي مخضوضرة , زاهية بتاريخها وارضها المعطاء وما عليها من مباهج الحياة .

تشير بعصاك على الظل فيورق
وعلى السعف فيميل
وعلى الانهار فتنثني
وهذه الشمس تزاحفت اليك
حتى غمرت الدار .

نواة المكان
تدور حول نواة المكان مجموعة من الافعال الموزعة على الزمن الفلكي بصيغه الثلاث : الامر والمضارع والماضي وعلى النحو الاتي :
1- قف
2- انتظر
3- تشير
4- اولمت
5- اطعمت
6- كوفت

ان الوقوف يمثل : قضية اعتبارية
الانتظار يمثل  : قضية تدقيقية
الاشارة تمثل : قضية ترميزية
الاولمة تمثل : قضية العطاء
الاطعام يمثل : قضية الايثار
كوفت يمثل : قضية المكان
اذن النواة وما يدور حولها  تؤلف حثا استمراريا للان المغروس في ارض الماضي وامتدادهما فيما هو آت . هذه المنهجية قائمة في عناصرها على مرجعيات اخلاقية وقيمية لا غنى عنها في ضمير الشاعر ووجدانه .انها الحياة الطاهرة التي تغني ولا غنى عنها في الوقت نفسه . ولم يقف الامر فيما يخص المغيَب على هذا التشبث الواعي بالارض والكيفية التي تكون فيها تلك الارض طوع يديه وانامله  با تخطى ذلك الى عملية تحطيم ما يمكن ان يستند اليه في اوقات الشدة وهو يمخر عباب الماء

انتظر ريثما تتحطم المرساة
نشيدك ان تعصف الريح بصواريك .

ان الانتظار لا يتحقق بالطرق الاعتيادية المتعارف عليها عند المتعاملين مع الماء في ان يلقوا بمرساتهم عند مواجهة الصعاب الا ان هذا المرهون بالسفر الدائم والمواجهة الصعبة يسلك طرقا اخرى غير معهودة بواسطة تحطيم المرساة وما يؤيد ما ذهبنا اليه القرينة المتحققة في السطر الثالث

نشيدك ان تعصف الريح بصواريك

هذا النشيد ما هو الا عملية اختبار الماء للماخر فيه , اختبار الطبيعة له من اجل ان يثبت ساقا في الوجود الحياتي الذي يمثل لحمته وسداه الماء   وفي الوجود الحياتي الذي تمثله الارض وانساغها الصاعدة والنازلة في اديمها وفي ذات ذلك الانسان الخصيبي بوجهيه القديم الاصيل , والجديد المتدرع بأصالة ابيه وارضه وقيمه .

المكان بوصفه فضاء حيا
المكان والحلم تؤامان بسبب ان الحلم لا ينفصل عن الذاكرة بل يعيش في رحابها وارفة الظل فينفتح على وعي الشاعر , حقيقته , طفولته من اجل ان يتبؤر شتات الروح والايام والجسد في لغة حميمة واليفة . هكذا هو الترابط الموضوعي بين المكان – الحلم والشعر, به وفيه يتحقق الامل وتولد صرخة الرفض المشروع وتندمل الجراح . والحلم عند طالب عبد العزيز يشكل وجها اخر للحقيقة المتسمة بسمات دلالية فاعلة بواسطة ذلك السرد التوثيقي العفوي بواسطة اثبات الزمن كشاهد عيان على ازمنة انسانية النزوع لا يمكن المرور عليها من دون تجسيدها تجسيدا واعيا

طولك الذي سقط ظله في الماء
تلقفت الريح هوادجه
واشتجر الافق على صمته الغض الحزين
كأنك حد الغيم , حد الشجن والامنيات
تتوغل بالاخضر فتسود
وهناك , في البعيد , اقصى الالم
تُفضي للقناطر ببعض ما تجدُ في قدميك

لاحظ ان الصورة فيها خيال واقعي وواقع خيالي معا تختزله بنية التباين المتمثلة في ثنائيات : الغموض – الوضوح المتجسد في تلقف الريح للهوادج , او للسائد الانساني الواضح في عملية التغيير الحاصلة للاخضرار. اذن عملية الحلمهي العملية السائدة بيد انها لا تلغي ما هو واقعي بل تلتقط منه مجموعة من السمات التي تدفع به الى مصاف الاشياء الحية التي تكتسب روحا جديدة .
تشير بعصاك على الظل فيورق
وعلى السعف فيميل
وعلى الانهار فتنتشي
وهذه الشمس تزاحفت اليك
حتى غمرت الدار

اذا تأملنا المقطع انفا نرى ان البنية السردية واضحة فيه بواسطة تكثيف التتابع الفعلي ( من الفعل ) تشير , يميل , تزاحف , غمر اضافة التى تكرير واو العطف ثلاث مرات لأدامة زخم الحركة اللولبية المتشحة بما هو حسي رؤيوي والذي يسهم في انتقال بنية الافعال بنحو متداخل . هذا التداخل الذكي يراد منه تفعيل المشاركة الوجدانية ومقارنة بعدين زمنيين متمثلين بواقع آن متشكل عبر نقاط محسوسة ومرئية وماض ينتمي الى عالم الرؤيا بلغة شفيفة .اذن الشاعر يحاول ان يدفعنا لمشاركته في تصور الماضي الذي لا نعرفه كما هو يعرفه بعيون الحاضر وبواسطة مدرك غير حسي هو الشم .

اني ليوحشني ان ادنو من فسيل
لا أشم رائحتك فيه

لاحظ هذا الايحاء بشقاء الذات حيال الذكرى , الايحاء الذي يساعدنا على اكتشاف الافق المفتقد للانسان الذي وضع روحه بكل ما تحمل في ارضه , زرعه ,نهره , بيته وقريته . لهذا نرى ان الحزن متأت مما يحصل من قتل متعمد لكل هذه القيم وهي توأد يوميا امام عيون الشاعر . فالكتابة عن ابي الخصيب تنسج امتداداتها الروحية من علاقات الانسان بالمكان , انها مجموعة من الحفريات التي يتجاوز فيها الجسد ابعاده ليحلق في سماوات الروح الهائمة المنفتحة على صداقة حميمة مع الارض

كان الوقت طائرا ابيض
في السعف البارد الندي
تفتنه رائحة الماء
والشمس ظامئة سكرى
تنزل عريانة بين يدي الله

في المقطع انفا يلتحف المكان بزمنه , اذ ان تفاصيله تبقى ساكنة لتتيح لزمنها ان يقول ما يريد . هذا المنحة الذكي اجاده الشاعر ايما اجادة حتى لا يبتلع المكان الكتابة الشعرية برمتها وينخرط الشعر في دوامة المكان الكبيرة مما لا يتيح له اظها جماليته وما يحمل من مكتنزات حالمة  من اجل ان تتحقق – ايضا – حلمية الشاعر في ملاذها الامن . انها الذاكرة الاسترجاعية التي تتبدى كفعل كتابة شعرية منفتحة على الزمان والمكان .

الحواس وطيف الامس
أي ألم , ان اتيقن بأن السعف اليابس
والظل الذي دسته ,
ونثرته الرياح …. هو صوتك ,
قميصك الذي تخرقه الريح
ويندحر على الشبابيك
يحرك الشاعر – هنا – الشغف بالذكريات , انه مسكون بهاجس الذهاب , تائق لأعادة الماضي بكل تفاصيله الندية بيد ان يده تنفتح على مجهول ويكاد ان يوحي لنا بأن كل شيء اصبح قبض ريح مرت على عجل , انها يد الزمن الصارمة التي تدق على صدغ الحقيقة وتجرف بسيلها العرم تلك الذوات الحنونة البيضاء السريرة التي لا يعرف الظلام الروحي طريقا اليها  . ان هذا النشيج الذي يربض بداخل طالب عبد العزيز هو نشيج اوجاع مدفونة في حاضر الوقت وفي اعماق ذات لا يبلسم جرحها الا ان تأخذ الارض زخرفها من جديد ليدخل اليها ضوء الطيبة والصدق والنقاء الروحي  … انه صوت الانسان المنتمي الى الارض كتوق روحي يسمو به فوق مادياته وينفتح على ابواب عالم لا يحكمه الدجل والخديعة .