2 يونيو، 2024 2:20 ص
Search
Close this search box.

قراءة وتأويل لقصيدة ( صور شمسية ) للشاعر موفق محمد – براعة التصوير في الظل

Facebook
Twitter
LinkedIn

تعد تجربة الشاعر المبدع – موفق محمد – تجربة إنسانية مشحونة بالأسى الجميل ‘والفواجع المتسلسلة ‘فالفرح ( ليس مهنته ) ‘ والحزن مقيم فيه إقامة تبدو وكأنها إجبارية ‘ لهذا تتسم تجربته بالإحساس المتواصل بالفجيعة ‘ وتتشح تبعا لذلك مفرداته ‘ ورؤاه وصوره بالسواد الناطق في أفق التجربة الأوسع . وعلى الرغم من ذلك كله ‘ لا تتسم نصوصه بالانكسار مع إن الحزن الذي يغلفها يقترب من ( حزن المعدان ) ‘ وهي كذلك لا تستغني عن(الضحك الأسود) الذي نجد معطياته في بعض الصور الكاريكاتيرية المبثوثة هنا وهناك .هذا الحزن ليس مفتعلا ,أو متصنعا بل هو الواقع وما يترشح منه من دون ماكياج,أو تزويقات لفظية طالما تحتاجها العملية الشعرية, لهذا تمكن هذا المبدع إن (يجوهر جمرته ويتقد بها حتى لو كان وسط الرماد الكثيف, إذ يصبح المعنى ,في مآل واقعيته مآلا ينفتح على ابعد,ويمتلك إحالاته في العمق في ثراء تواشج وأنسجة أبنية ,شعرا يعتمد على فائض القيمة للأذى والأسى والعذاب والقهر الاجتماعي).يشتغل النصيص على بنية التكثيف الصوري ألتشبيهي المستند على ماهو حسي عياني بواسطة مشهدية ملتقطة مما هو ذاكراتي بغية إحداث بؤرة أولية أساسية يمكن النظر من خلالها وبها على معالم الطريق السردي اللاحق:/بعينيك المتعبتين/ هكذا هي البداية خلل الرؤية مرده تعب العينين مما يستتبع وضع علامات دالة لترقيق النظر .هذه العلامة هي/الجمر/ والإلحاق بفعل الرؤية كان إلحاقا ذكيا بسبب العينين المتعبتين,ثم إلحاق العرفان بالهمز الصادر عن الجمر هو من باب إدراك الشيء المعروف وبذلك تتحقق عملية المعرفة لأنها ,أي المعرفة,(حال من أحوال النفس تتحد فيها الذات المدركة والموضوع المدرك) .ثم يتحول السرد تدريجيا من كونه سردا ذا بنية خارجية إلى سرد ذي بنية داخلية تعتمد الاستفهام المتكئ على البؤرة الأولية الرئيسة مما أضفى على القصيدة بعدا جماليا وأعطاها دفقا من خلال تكثيف الصور وطراوة اللغة. إن السؤال الوارد على لسان السارد نيابة عن المخاطب /الغائب لم يكن سؤالا يحتاج إلى فك رموز, بيد انه  ينبئ من خلال الجمرة الأولى التي ألهبت يد السارد واستطاعت أن ترسم ألسنة على راحته اليدوية والنفسية معا وبهذا يحدث النص مفارقات دلالية بواسطة خرق سيرورتها الأصلية ويتضح هذا الخرق المقصود في هذا المقطع

هل وضعنا حليب جهنم وتنشقنا بجحيمها
فاستأسد الجمر فينا ..
ليأكل ما تبقى من لحمنا الذي
أخطأته الهاونات والانوات التي هبطت
علينا من وراء الحدود لابسة جبة
السماء وهي تعبد الصراط المستقيم
بالجحيم.

نلاحظ هنا مجموعة من المعاكسات :

حليب ×جهنم
استأسد ْ×الجمر
جبة × السماء
تعبد الصراط المستقيم × جهنم

إن تطور الحدث مرتبط بتطور الزمن,هذا التطور الزمني اثر في خلق تضادات دلالية تحاول أن تتجه لما هو رمزي, فإضافة الحليب إلى جهنم يمثل تناقضا إذ إن(الحليب) في تكوينه ولونه يمثل سيرورة مرادفة لـ/جهنم/ بكل تأويلاته , وينسحب الأمر على بقية المفردات آنفا وهذا ماجعل الدلالات تذهب باتجاهين:أولهما الإفصاح عن التغيرات الحاصلة في بنية الزمن وثانيهما خلق استجوابات استباقية لرسم معاني اللوحة التي يجري فيها السرد ومترشحاته  بنحو عام وبهذا تحقق الصور الشعرية فعلا شفافا على الرغم من حدة المفردة وخشونتها ,وبهذا تصبح قيمة هذه المفردات ذاتية بمعنى إنها نتاج فاعليتها . وعلى الرغم من هذا التضاد الدلالي المتراكم إلا إن منتج هذه الدلالات متعادل دلاليا مع طرف المعادلة الآخر ‘فالجبة تعادل السماء دلاليا كونها الغطاء , والصراط المستقيم غير المعبد يساوي الجحيم لأن الصراط في الأصل معبد وسالك وسليم لذلك اقترن في الدلالة القرآنية على الرضا الإلهي ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ‘ فالنعمة متحققة في جزء منها بسهولة ذلك الصراط و المسلك المعبد . هذا التضاد يخلق توترا لكنه سرعان ما ينكمش ‘ إذ أن الجبة بما ليس فيها من جهة الدلالة يخرجها عن كنهها الدلالي الذي وجدت من اجله . هذه التبادلية الدلالية وإسباغ موصوفات خارجية على ذات الشيء تقود إلى ما يعرف بـ ( مخالفة قيود الاختيار ) بحسب نظرية ( كاتز وفودور ) ونتيجة لذلك تتعطل ( قواعد الإسقاط ) عن العمل إلا إن ذلك لا يمنع من إضفاء وصفية آنية على الدلالة ‘ أي وصفية يمكن أن تزول بزوال المؤثر لأنها غير متحققة في كينونة الشيء في الأصل . إذن اللحظوية – هنا – لم تنجز فعلها على أتم وجه مما يجعل البنية النسقية بنية متخلحلة معبر عنها بهذا التضاد الدلالي الذي هو من مواصفات القصيدة الحديثة ومهاراتها التجريبية .إن عروة هذا التضاد الدلالي مرتبطة بعروة التراكم ‘ فما وراء شخصية ( محمد علي بربن ) مجموعة من التوصيفات التراكمية التي تبرز مكامن الشعرية في هذه الشخصية عبر مجموعة من العلامات التي تزيد من فاعلية الشخصية المروي عنها بواسطة التصوير في الظل ‘ أي التصاق الصور من زوايا كثيرة ومتعددة وبذلك تظهر براعة المصور وصدق العدسة . هذه البنية السينمية متسمة بحركة ما هو ساكن / الجسد المسجى / ‘ وبهذا يحقق الشاعر نموذجه الشعري خارج حدود الكلمة حتى لا يصل إلى صورة ذهنية تحققها السياقات الدلالية فقط بل يعمل على استغلال كل المادة الدلالية للقصيدة لأكمل هيكلها المتماسك الذي قد يبدو من الخارج متناقضا بيد انه في واقع التأويل متكامل أيما تكامل لأن الشاعر قد حقق كسر الرتابة والميكانزمية إذ انه ينبغي على القصيدة ( أن لا تعني إنما تكون ) بحسب ماكيلش . هذه التكوينية تعمل ضمن مادتها الأولى لكي تجعل المتلقي يكتشف ويختبر بنفسه حدود هذه التكوينية

أما الدلالات السيميائية فتتضح في هذه القصيدة بالمقطع الثاني ‘ غير إن  هذه السيميائيات لا تخرج عن التوصيفة المتمثلة في البؤرة الرئيسة / محمد علي بربن / فالدلالة السيميائية تشير إلى المكان الذي يتحرك بواسطته الشاعر ليحيله من مكان / حاضنة / جسد ميت / راحل / متمثل بشخصية / محمد علي بربن / إلى عالم مرمز من خلال التمثيل السيميائي الذي يشير بواسطة توصيفات دالة عليه ‘ وبهذا ينتقل النص من خانة المنتج العقلي إلى خانة ما هو حياتي / حركي / ‘ لأن موت الشخصية موت جسدي فحسب ‘ إنما روحه باقية في أثرها الموزع على كل مفردات الحياة / أشجار ‘ طيور ‘ حيوانات / بشر ‘ بل الكلمة نفسها ‘ لهذا أكثر الشاعر من استعمال الأفعال والجمل الفعلية للتعبير عن الحركية واللاثبات / يغرز ‘ تصرخ ‘ يعرف ‘ تشرب ‘ يغني ‘ تفترش ‘ يرفض ‘ أما على مستوى الجملة فيتضح ذلك في نهاية المقطع الثاني
وأنت تمسد ساق عشبة
داسها هر يبحث عن أنثاه
بمواء يختصر الحب كله
وأنت تمزح
أو
الطائر الذي يفرش
جناحيه لتغرد
البلابل في أغصانها
وهي تشرب من تينة
قلبك

إن الطائر هو المعادل السيميائي لنقاوة وطهر وعفة / محمد علي بربن / ضمن بعد متضايف يتحول فيه الإنسان إلى طائر . هذه العلامة السيميائية ليست غريبة فهي حاضنة في بعدها الاشاري لما يساوي الإنسان وغيره في ضوء المعطى القرآني ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) / الإنعام 38 / . هكذا تتجاوز اللقطة المدى المخصص لها فهي ( تحاول احتضان المشهد المرئي بالنفاذ إلى بعض أبعاده الاشارية )
ويستثمر الشاعر البعد الكولاجي ليلم  بواسطته مجموعة من الصور والمرئيات المختلفة من اجل استكمال اللوحة

أتذكر الفواخت التي بنت
أعشاشها فوق
كتفيك وأنت تغني
لها بالماء الزلال
فتشرب من راحتيك
آمنة مطمئنة وتطير

إن الشاعر لا يريد أن يقطع صلته بما هو خارجي ‘ فيحاول عن طريق الصور السمعية أن يديم الاتصال لأنه الطريقة الوحيدة للاتصال بالآخر / غير الموجود في الحضور العياني  لكنه موجود في الحضور السمعي والوجداني .

إن الحواس كلها تتناهى في حضرتك
وترقص في مزنة من
الضحك المتواصل

 فثنائية الحياة / الموت / هي الثنائية المسيطرة على المقطع الثالث والرابع على الرغم من استحضار شخصيات أسطورية / تاريخية / لا تخرج عن كنه هذه
الثنائية نوح / جلجامش / انكيدو / .

وجاء الطوفان
وها نحن نتذابح
مستبسلين في قهرها
فمن اجل من نتقاتل
بين الخرائب تاركين
رؤوسنا المقطوعة
في صناديق القمامة
التي غطت وجه البلاد
أنحيا من اجل المراثي

المقطعان الأخيران يعتمدان على تقنية الفعل الدرامي بواسطة العودة إلى الماضي عن طريق التداعي الصوري المرسوم في الذاكرة لتفعيله في الزمن الحاضر لمضاعفة القدرة الاستكشافية لفعل الذكريات

كنت ترسم من قلبك وتنقط اللوحة
بكريات دمك الحمراء إذ لا ابيض في حياتنا
سوى أسمائنا المكتوبة على
اللافتات السود المعلقة في الشوارع ..وما أكثرها

إن الإشكال والألوان والأفكار ترتبط جميعا من اجل تكوين هيكل لفظي بصري تتحرك بينه الكلمات ( كما تفعل ضربات الإفريقي على الطبل. هناك مسافة دائمة بين المعنى الحيوي الذي تؤدي إليه الضربات لدى ضارب الطبل وبين وقعها السحري الذي يخلق تأثيرها لدى المتلقي ) . إن اشتغال الشاعر على بنيات مختلفة ما هو إلا اقتدار فاعل ‘ فموفق محمد من الشعراء العراقيين القلائل الذين يجيدون تنمية البنيات المختلفة في تجربته الشعرية وصولا إلى نص مؤثر في المتلقي والاهم من هذا وذلك انه يمتلك فضيلة الصدق ‘ صدق الروح الشفيفة الولهى  والتواقة إلى كل ما هو أنساني وهذه سمته المتفردة وما أغناها

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب