18 نوفمبر، 2024 12:40 ص
Search
Close this search box.

قراءة نقدية لمسرحية الصراع

قراءة نقدية لمسرحية الصراع

شهدت محافظة ميسان وعلى قاعة النشاط المدرسي خلال ايام العزاء الحسيني وحلول اربعينية الامام ابي عبدالله الحسين (عليه السلام) العرض المسرحي (الصراع) تاليف علي حسين الخباز واخراح الفنان خالد علوان وتمثيل نخبة متميزة من فناني ميسان حيث لمس المتابعون للعرض حالة ايجابية تصب في مجرى الحداثة في معالجة معركة الطف بصورة مغايرة لما هو متعارف عليه وما عرض من اعمال مسرحية في هذه المحافظة على مدى تاريخ المسرح وذلك لما توفر من خطاب مسرحي اتجه الى فلسفة معينة تعامل بها مع الواقعة من خلال شخصية عمر بن سعد احد الاقطاب الرئيسية للفاجعة وقد استثمر الكاتب فكرة صراع الانسان وذاته المتواجدة بقوة في شخصية عمر بن سعد المشبعة بالافعال الحركية والانفعالية لتكسب النص خطا دراميا اعطى نكهة خاصة للعمل بشكل عام وهذا الصراع المتمثل بين الرجل وذاته وموروثاته الدينية والانسانية وبين تطلعاته واحلامه وتقلبات الزمان بين الخيال والواقع .. صراع ِبين حصان الرغائب المهرول بسرعة البرق والذي يخطف معه ويطأ تحت قدميه كل ثوابت الانسان الشرفية وبين عوائق الضمير والتاريخ الذي لا يرحم في هكذا مواقف .. صراع بين خير مؤجل دائم وبين نعيم معجل زائل … لم يغفل الكاتب عن النصيحة المزجاة لابن سعد من قبل الاخرين وهم اهله واصحابه والتي لم تمنعه من الاستماع لشيطان الرغائب وحده والاستماع لصوته المتردد في فضاء الروح الجانحة للشر في سليقتها مستحثا بقايا انسانيته نحو تفجير الطاقات بالاتجاه السلبي ومحاربة سبط الرسول الذي يعرفه اتم المعرفة بانه احد مقاديم سفينة النجاة التي من ركبها نجى ومن تخلف عنها هلك وهوى كما ان للمنافسة الاستحواذية والتربع على رقاب المساكين وفيمن يكون تحت امرة من .. هذه المنافسة المتمثلة بصراع المناصب مع الشمر بن ذي الجوشن وكما يقال تصارع الاشرار فيما بينهم جعله يتمسك بقرار محاربة الحسين وقتل ضميره بسيف اعمى ممنيا النفس بملك الري ليرمي سهمه طالبا من الجميع الشهادة له عند ابن زياد بانه اول من رمى الحسين بسهم الحقد والكره والغيرة وهي في حقيقتها الشهادة له عند مليك مقتدر بانه اول من عارض وعصى امام مفترض الطاعة واول من الهب الصدور على ريحانة الرسول (ص) لتتوالى السهام وتتوالى الانتهاكات ثم تكون نهايته مذبوحا على فراشه سريعا وقد خاب سعيه ومناه ليتحقق قول الحسين عليه السلام وهو يخاطب ربه (ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك)..اي نعم فقد الحسين نعيم الدنيا لكنه وجد ربا كريما ومقعد صدق عند مليك مقتدر وعمر بن سعد فقد الله ووجد غضبا ولعنة تلحق به العار الى يوم يبعثون .
احتوى النص على انتشار مكثف للغة شعرية درامية ذات طابع موسيقي ملهم تكتنفه كل شمائل الجمال وهي لغة عالية المضامين … ربما ثقافة اكثر الحضور لا تتناسب معها وهنا اريد ان اقول ان اللغة وطريقة الطرح والفعل الدرامي لهذه المسرحية مؤكد انها تخاطب جمهور النخبة وهذا ليس عيبا بل انه نجاح كبير في عملية بناء فكري ناضج وبناء طبقي معين لجمهور يبحث عمن يشذب ويهذب ذائقته المسرحية والادبية أي عملية صناعة جمهور لا ان تتحكم اذواق وثقافات الجمهور بما يعرض وشيوع العبارة الشعبية المصرية وهي تتردد في فضاء المنتج المسرحي (الجمهور عاوز كده) ولو استمر هذا النسق الرائع في تقديم اعمال بهذا المستوى فانه وبلا شك سيتشكل امامنا جمهور ذكي لماح صاحب رؤية نقدية ستصب حتما في نضج الفكر المســــــــرحي بشكل عام .
بنية النص ذات حبكة متراصة مترابطة الطبقات بشكل افقي وعمودي وطولي لكافة انتقالات النص الدرامية وموظفة لتنحى بالمشاهد والتجول به حقيقة ملموسة في فضاء الطف بالبدن والروح كما لا ننسى عملية البناء المتصاعدة للشخصيات بشكل لم يبعث أي نوع من الترهل مع تواجد حوارات قصيرة اثرت الايقاع المتسارع للعمل.
اما الاخراج والذي تمثل بالمخرج الكبير خالد علوان استطاع ونتيجة لتراكم قممي لخبرة فنية جمالية ان يحقق طفرة في تناول قضية الحسين وان يزيل النظرة المتقولبة لمسرح التعزية بكون اعمال هذا المسرح هي اعمال موسمية لا يجوز عرضها خارج نطاق الزمان والمكان لهذا الموسم وهذه الخشبة بل اكد لنا المخرج ان زمن العرض مفتوح واي خشبة في العالم يهمها ان تكون منصة عرض لهكذا عمل كبير.
 يعرف الكثيرون ان من اساسيات المخرج ان يكون ملما بالكتابة المسرحية أي لديه القابلية على التاليف حتى يتعامل بحرفية مع النص لا ان يستدعي الممثل كل لحظة وحين يستفسر منه عن شيء غامض فلو اراد احدهم اخراج هاملت هل ينبش قبر شكسبير ويتابع معه النص اذن لابد ان يكون المخرج على قدر كبير من المقدرة الكتابية وهو في المجمل كاتب ثان للنص وهذا ما لمسناه عند المخرج الكبير خالد علوان وتوضحت لمساته الكتابية من خلال تعامله مع النص الشعري للمسرحية وتوظيفه بشكل درامي ملفت للنظر وكذلك يجب ان يكون المخرج ملما بالموسيقى والعمارة المسرحية وفن الرسم اذن المخرج فنان شامل والا كان العمل مقطع الاوصال يتحكم به الاخرون ولا نجد روح المخرج فيه والذي ارى حسب وجهة نظري القاصرة ان المخرج دكتاتور العمل وهو المسؤول الاول والاخير عن نجاح او فشل العمل وهنا ايضا كان للارث الفني للفنان خالد علوان القول الفصل في نجاح هذه التفاصيل المهمة من العمل.
الان ندخل في تفاصيل الاخراج … اختيار المنظر المتمثل بخلفية لستارة سوداء ذات شقوق طولية تمثل شرايين القلوب الحزينة لمحبي الحسين اعطىت جمالية فائقة للعمل استثمرها المخرج كاداة فاعلة في انتقالات النص وحركة الممثلين والتي كانت مدروسة بشكل متميز وفق حاجة وغاية معينتين لا تخرج عن الخط العام أي لم تكن عشوائية .. والمنظر المقتصر على هذه الستارة السوداء يجعل المتلقي يتوهم بفقر المسرح انما الحقيقة هي ان المخرج ذو رؤية خاصة في التعامل مع المنظر بان يجعله بسيطا لكن له من المعاني الشيء الكثير وحسب مبدا خير المناظر ما قل ودل وقد نجح المخرج كثيرا بهذا الخصوص وهي من العلامات الفارقة في كل اعماله كمسرحية (الهشيم) و(الدخيل) . كما شاهدنا في المنظر الاخير قطعة القماش الحمراء المتموجة وهي تحمل الام الشعوب الثكلى او هي نهر العلقمي وقد فار وغلى دما بعد ان رمى عمر بن سعد سهمه باتجاه الحسين ورفعه لسيف الحقد يقتص به من الحسين لثارات بدرية وحنينية وكان المخرج يريد ان يؤكد مقولة ان ثورة الحسين هي انتصار الدم على السيف.
اما الازياء فكانت هي الاخرى بسيطة فقد ارتدى جميع الممثلين تيشيرت وسروال ابيضين وعباءة سوداء اما الشمر وعمر بن سعد وعبيدالله ابن زياد فقد ارتدوا تيشيرت اصفر يعطي صورة عن خبث سعيهم وكان للعباءة فعل جمالي اخاذ دعم المضمون ودعم افكار المخرج في استثمارها كادوات تعكس بعض التفسير لجوانب عديدة من العمل .
الموسيقى والمثرات كانت مثيرة وتبعث على الاسترسال بشكل عفوي نحو متابعة المسرحية وانت تقبض على دفتي كرسيك في القاعة مشدودا بالكلية لما ستؤول الاحداث اليه كما لا ننسى التنفيذ لهذه المثرات والموسيقى فكانت مواكبة للحدث بشكل جيد.
اما الاضاءة فكنت متخوفا منها ان لاتناسب قيمة العرض وطريقة الاخراج وذلك للانطباع المسبق عن تواضع القاعة تكنيكيا لضعف الامكانيات الا انني تفاجئت بالطرق المستحدثة من قبل المخرج في تناول هذا الشق المهم من العرض حيث تواجد المصباح اليدوي واعطى ابعادا لطيفة مؤثرة تصب في صالح العمل بشكل عام وكان تنفيذ الانارة هو الاخر متميز ومتقن بشكل يدعو للفخر.
اما الادوات الاجرائية وهي قلب العمل والمعبر الحقيقي عنه الا وهي الممثلون فهنا لي قول وارجو ان لا يزعل مني احد فرغم الاداء المتطور لهم الا اننا لا زلنا نبتعد كثيرا عن الاداء الحرفي الاداء الذي يكون لوحده كتلة من اشعاع يمكن ان يغني عن السينوغرافيا والموسيقى والمؤثرات وحتى الجهد الاخراجي نحن نفتقر الى هكذا ممثلين مؤثرين ومع ذلك فاني اعتبر من مثل في مسرحية الصراع هم نخبة التمثيل في ميسان ويقف في مقدمتهم الفنان الكبير مكي عواد والفنانون جبار مشجل وزياد طارق وشهاب احمد وعلي دواي وكريم صدام وحازم الدراجي ومحمد الدراجي .
واخيرا ارى ان مسرحية الصراع افضل عمل مسرحي متكامل على مدى تاريخ المسرح الميساني وهو مدعاة فخر واعتزاز لكل مهتم بالفن والمسرح والى مزيد من النجاحات وحتى ذلك الحين اقول لكم انتظروني.
[email protected]

أحدث المقالات