قد نجدُ في بعض الأحيان تداخلاً هارمونياً بين الأنواع الأدبيّة في منجزٍ إبداعي على سبيل المثال لا الحصر نجدُ نفثاتٍ شعريّة أو لنقل جملة شعرية في عمل روائي أو قصّة قصيرة أو نجد حواراً قي قصيدة وجدانية، لكنّ هذا التداخلَ لا يكون عامّاً، بل في بعض الفقرات أو المقاطع غيرَ أنّ ما يثير الدهشة والانبهار هو أنْ تجدَ كلَّ كلمة تنتمي إلى النوع الأدبي الذي كُتِبتْ فيه وفي ذاتِ الوقت تكون مشحونةً بشعريّةٍ هائلة وباختزالٍ لفظي لآفاق من المعاني المترامية ..،هذا ما يتجلّى لنا من القراءة الأولى لقصّة ( شباكٌ ممزّقة ) فنكون بين عقلانية العمل القصصي ووجدانية الشعر كأنّنا نتأرجح بين حقلين ممغنطين بالكهروإبداعية دون أن نشعرَ ؛لأنّ الكاتبَ المبدع يشدنا إلى عوالم قصّته الرائعة من الجملة الأولى التي تجذبنا نحو أعماق النصّ المشحون المكثّف (الصمتُ في غرفتي رهيبٌ ، قاتل ، الريحُ تراقص الستائرَ عبر النافذة المفتوحة ، …) هذه اللوحةُ اللفظية رسم فيها الكاتبُ المبدع أياد خضير لنا المكان وترك لنا حرية الغوص في الخيال لتكوين المكان الملائم والذي جاء متطابقا مع أحداث القصّة التي تليه ،ومدخلاً للولوج في أقاصي النصّ من خلال هذه البنية اللفظية والتي كان للجملة الاسمية دور أسلوبي في ترسيخ هذا المكان الموحش المعتم والمتناغم مع الذات المتعبة التي نسمع نفثات حزنها في البنية الثانية من المقطع الأوّل لهذه القصة بجملة حركية فعلية تدل على الحاضر ( أتقلّبُ على سريري أشمُّ رائحةَ الوسادة ، قبل لحظاتٍ كانت معي ، أتنفّسُ عطرها ، أنفاسها ، فتحتُ عينيَّ في الهزيع الأخير من الليل فلم أجدها !!!) في هذه البنية أو التكوين اللغوي يحدّد الكاتب الزمان الذي من نقطته الحاضرة سنعود أدراجنا نحو أعماق الماضي لنتعرف على خبايا هذه الذات الجريحة المثقلة بالخيبة والأسى من خلال نوافذ البوح المشرعة وما سنجده في المقطع الثاني من القصّة هو انطلاقة ونكوص نحو ماضٍ وتحديداً في البنية الأولى من المقطع لمّا فيها من تشريح ووصف غاية في الإبداع حتّى إنّنا نبدأ باستبصار المكان وكأنه صورةٌ تعرض أمامنا ونبصرها بتمعنٍ واهتمام ( لقد عرفتها … ) لايفوتنا هذا التكنيك الإملائي فهذه النقاط الثلاثة هي بما يعرف بالمتن المتخيّل لأنّ الكاتب اختصر كلّ مراحل معرفة العاشق في القصّة بحبيبته لينتقل بنا إلى المرحلة المفصلية المركزية بأسلوب عطف ٍ متميز ليبدأ بسردٍ شعريٍّ أخّاذ ( وعرفتها وكانت الشوارع تحتضننا مع خطواتنا المتلاصقة ، المتعانقة ، ) وهنا نلاحظ توالد المعنى من خلال الموصوفات المتناغمة التي نرى فيها الشعرية تتولّد منها من أوّل جملة في هذه القصّة ( رهيبٌ ،قاتل / أتنفّس عطرها ، أنفاسها / المتلاصقة ، المتعانقة ) وينتقل القاصّ المبدع بوصف دقيق ورسم بليغ للشوارع وحصاها وما فيها من منغصات ؛ ليبهرنا أياد خضير بلمسة إبداعية قد لا ننتبه إليها من القراءة الأولى هو أنَّ كلَّ لوحات قصته كانت معتمة ليلية ولم يكن للنهار من وجود في قصته حتّى عندما يحملنا مع العاشقين إلى الكورنيش الذي كان بمثابة مكان مقدّس لهما يستطيعان من خلاله اللقاء في العتمة بعيداً عن الأعين في البنية الثانية من المقطع الثاني ( تحملنا أقدامنا إلى الكورنيش الذي يحملنا روّاداً أمناءَ على مواعيدنا والمساطب تمسحُ أخشابها بملابسنا ،ونمسحها بأحاديثنا وضحكنا ، عرفتنا ندماء وعرفناها مأوىً بعيدا عن العالم… ) بعد هذا الفيض السردي المفعم بالشعرية يمهّد لنا الكاتب لانتقالةٍ من المقطع الثاني إلى المقطع الثالث ولكن يقوم بخلق رابط حواري مهم يربط بين البنى السردية ويكون مقدمة لظهور رمز متفجّر بالمعاني ألا وهو (النهر ) بعد هذا الرابط الحواري تتلاشى نهاية الحوار المقتضب والذي هو سؤال كبير في بداية البنيّة النصِّيّة الثالثة التي تبدأ بسردٍ شعريٍّ مكثّفٍ في لوحةٍ تحيطها العتمة والرعب ويشوبها الأسى والخيبة ( وكان الظلام يطوّقني وأمسياتي تبعث الرعب والفراقُ في كؤوسي ، كانت أقدامي تحدوها الآمالُ ، فإنّني لم أكن نشيطَ الهمّة بقدر ما كنتُ في تلك اللقاءات نشيط القلبِ ، رقيقَ الشغفاف ، أمّا الآن لا أدري ينتابني هذه الأيّام إحساسٌ غريب لا أفهم له مغزىً ولا سبباً أنا وهي غرق منّا النصفُ وبقي لنا نصفُنا الآخرُ وهو يكاد يبتسمُ لذكريات الليالي ) من ثنايا هذه البنية السردية يبدأ رمز (الماء والنهر ويلوح الضوء الخافت من القمر وتهب الريح من رحم العاصفة ) ليكون منطلقاً لانبعاث بنيةٍ سرديّة مكثفة وشعرية تكون هي نهاية البنية النصية السردية الثالثة والتي تنقلنا إلى (ذروة القصة ) ( ليالينا المقمرة والنهر الذي ما برحناه يوماً، وقد دهشتُ ذات يومٍ عندما وجدتُ نهر الفرات يوشكُ على الجفاف ، فهربنا مرغمين وقد أبطلت السحبُ دعواتنا أو دعواتي أنا بالذات لأنني كنت أقف في نفس الضفّة وهي تهرب إلى الضفّة الأخرى ، وعند هبوب العاصفة دفعت الريح كلانا بعيداً ، لأنّ أحدنا لم يفهم تمام الفهم )هنا يتلاشى السرد بعد أن أدّى وظيفته على أتمّ وجه وكان شبكة دلالية ولغوية نسجت بإبداع من قبل القاص أياد خضير ؛ لتنتقل أحداث القصّة إلى ذروتها في بانوراما حوارية يختلط الحوار النثري بالبوح الشعري في انسجامٍ هارموني متقن وتكون البنية الحوارية الرابعة بما فيها من بنى جزيئة ختام هذا الملحمة الوجودية المشحونة بالعاطفة الشعريّة والمحاطة بعمق الرؤية وعقلانية النثر ( قالت بسخرية : تزوج إن شأت وانهي عملك ، حقّق رغبتك ، وأثبت شرقيتك ) نرى من خلال هذه الفقرة الحوارية جزء مهم من شخصية المرأة في القصّة بما تحمله من عناد وقسوة ؛لينكشف من خلال رد الرجل العاشق خيط مهم لمعرفة شخصيته التي بدت مثخنة بطعنات ومكلومة بفاجعة قد تتجلّى لنا في نهاية القصّة ( قلتُ بعصبيّة واضحة : أيّة أعمالٍ أنا لا آخذُ من الناس سوى مظاهرهم…) لينبثق حوارٌ شعري موجّه إلى حبيبته تتكثّف فيه ومضات الشعر الممزوجة بنثيث الأسى ( كانت أقدامنا تدوسُ مع الوهم إسفلت الشارع ونجتازه كما يجتازنا الزمن وكان الليلُ بهيماً وغائماً وقلت لك أنّني سأجتاز هذه الخطوة في هذه اللحظة لمرّةٍ واحدة في عمري … ) هنا في هذه البنية الحواريّة المنسوجة والمحكمة البناء اللغوي والدلالي تكمن (حبكة القصّة ) ونقطة التحوّل وبرأي هذه البنية الحوارية هي ( الخلية المركزية ) في النصّ والتي ترتبط بها كلُّ خيوط القصّة وبها عادت العتمة ومن هذه الصدمة المدويّة سيتغير موقف البطلة من العنجهية والمكابرة إلى التوسّل والرجاء وتعيد رمزية (النهر ) بما يدل على الحياة والاستمرارية مقابل رمز (الليل ) الذي كان في حديث البطل وبما يعنيه من النهاية والعدمية ( قالت بتوسّل: أ نسيت ليالي النهر الذي مازلنا نجهل حدوده رغم سيرنا على ضفتيه لعدّة سنوات ، اللاجدوى من الحياة – كما تقول – كلمة معقولة ، أظنّها كذلك ، لم يولد عندك صداع حاد لتعرفَ ما أشعر به، ما أعانيه ولو للحظات) لقد رسم أياد خضير في هذه البنية الحوارية ملامح مهمّة لشخصية البطلة بما تحمله من مكرٍ ودهاء وقدرة على استثارة عطف حبيبها وثنيه من اتّخاذ قراره المهم الذي شعرت بدهائها ما يدور في ذات حبيبها المثقلة بالخيبة والدامية الطعنات وبحديث مقتضب يكشف لنا أياد خضير عن ثيمة مهمة في شخصية العاشق الصادق المفعمة كلماته بالصدق (قلتُ موضّحاً : حدث ذلك منذ أن بدأت نفوسنا تهوى الكلمة الصادقة ،ونحن مازلنا نزرع بذور الصداقة في ديجور ليالي تمّوز وآب) في هذه الحوارية العميقة قد كشف البطل عن جزء من الحقيقة لحبيبته ومن خلال شعرية الكلمات وكثافتها الدلالية يقترب الحدث القصصي من الإنفجار ونبدأ بسماع تململ بركان الغضب في صدر البطل واقتراب ثورانه من خلال إرتباك البطلة وتشظي كبريائها وعجرفتها وتريد أن ترمي بآخر أوراقها الخاسرة وهو بلعب دور الضحية والمضحية في سبيل حبّهما ( قالت بارتباكٍ شديد : أنا التي تسعى لكسب عطفك وذاتك ، لكنّك أنت الذي تفرُّ وكأنّكَ تفرُّ من حرّيتكَ، ربّما لا يستطيع قلبكَ أن يرقَ ، صحيحٌ أنّكَ لستَ بجبانٍ ،لكنّك تعيشُ في دوّامة ، وستنتهي …ولم تستطع دوامتك أن ترسوا بك إلى الأمان ) لقد كانت هذه البنية الحوارية بما فيها من تشريح لأبعاد شخصيّة البطلة غاية في الأهمية فكشف لنا القاص المبدع أياد خضير أبعاد جديدة لشخصية البطلة المركّبة وغير البسيطة لأنّها ليست إمرأة سهلة وهي واعية ومثقفة وأرادت أن تلعب بقرار حبيبها تارةً بمغازلة رجولته وتارةً بإخافته وتحذيره من المستقبل بدونها لكنّها لم تكن تدرك بإنّ ما قالته سيكون الشرارة التي ستفجر بركان الحقيقة والغضب ليعلو بعدها الحدث القصصي كموجة مدمّرة تجرف معها كل قصور الرمال التي بناها البطل عل شاطئ الوهم ، ويتغير إيقاع شخصية البطل ويخرج من مغارة هدوئه إلى عرين غضبه وتقزّزه من خيانة من عشق وأحبَّ ، حديث البطل حممٌ شعرية وصورٌ شعريّة في إطارٍ قصصي رسمت بألوان الحريق ( صرختُ في وجهها مرتعشاً : أنتِ ملعونةٌ ، خائنة ، خنزيرةٌ لا تؤتمنُ، وضجيجكِ الداخلي يكادُ يمزقني ويحيلني شباك ممزّقة لا تقوى على الإمساك ، فكيف بكِ أنتِ ، أيتّها النحلةُ العنيدةُ التي مصصتْ رحيقي ،وتركتني دون عطرٍ، أو نسمةٍ ، ممّا تغدقين به على أغطيتكِ ،وفراشك الوثير) يستوقفنا في هذه البنية الحوارية الهادرة والمشحونة بالعواطف والعواصف والممتلئة شعريّةً متفجّرةً التوظيف العميق للجملة الاسمية التي كما ذكرنا سابقاً تدلّ على الثبوت والرسوخ وروعة توظيف فعل المقاربة (يكاد) لنقل صورة التحوّل إضافةً إلى فعل الصيرورة والتحويل ( يحيلني ) والذي ينقل الحالة للمفعول به الأول إلى حالةٍ أخرى مغايرة في المفعول به الثاني واللافت في هذه البنية الحوارية هو استخدام الفواصل الإملائية (الفارزة) في جمل مشحونة ممّا يعكس تقطع صوت البطل وتوتره العالي وما ينقل في حديثه الملتاع من صور واستعاراتٍ تشبيهيّة رائعة نسجها الكاتب المبدع أياد خضير بحسه الشعري الرائع كما يتجلّى في الصور التالية :(يحيلني شباك ممزّقة / أيتها النحلة العنيدة / مصصت رحيقي / وتركتني دون عطرٍ أو نسمةٍ) هنا ستدق أجراس النهاية وتكون السقطّة المدوية والانفجار الحدثي الهائل وإطلاق رصاصة الفراق على الحبيبة الخائنة وتنفيذ حكم القلب الصادق الذي طعن بخنجر الخيانة المسموم برؤية العقل الواعي لجميع الحقائق والأدلّة والبراهين القطعية وليؤدي الفعل المضارع المقترن بـ( لام الأمر) دوره في نطق الحكم ( فلتصمتي ولتصمتي ولِتصبّ عليكِ لعنتي فقد تقزّزتُ كثيراً عندما شاهدتكِ مع عشيقكِ الجديد كنتما تسيران في الأزقّة الملتوية الفرعية التي كنّا نسير فيها متماسكين وبين فترة وأخرى تتعانقان ، ربّما تدندنانِ بنفسِ دندنتنا التي حفظنــــــــاها ، لقد تعلمت كلمةً معنــــــاها “اللّا أباليَ ” وها أنتِ تطبيقيها ، يا للنفوس الميّتةِ التي تصنع ألحانها على أنغامِ أوتارٍ من نسيج العنكبوت ) كانت رصاصة الحقيقة مدوّية وعمّ الصمتُ الذي يشي بالكثير ويفتح آفاقاً تمتدُّ ما وراء الكلمات ليبدأ المتنُ المتخيل بالاتساع وتتزاحم الأسئلة الكثيرة ماذا حصل بعد هذه المواجهة المريرة لم نسمع صوتاً لمن خانت ولعبت بحبيبها بعد هذه البنية الحوارية التي ختمت بصورة بلاغية غاية في الروعة والبراعة وما كان يمثله (نسيج العنكبوت ) من معادلٍ موضوعي لقصّة حبٍّ وئدت واندرست تحت رمال الخيانة ، لقد كانت هذه القراءة النقدية مجرّد استكشاف أولي لخارطة هذه القصّة المتكاملة من حيث الشكل والمضمون وإضاءة لما حمله نصُّ الكاتب المبدع أياد خضير من فرادة إبداعية وتكاملية شكليةٍ ومضمونية وهو بمثابة جبلٍ من الجليد ما يكون تحت سطح الماء أكثر ممّا يكون فوق سطح الماء .