بطريقة الاحتيال المعرفي نفذ نفرٌ قليلٌ من اصحاب العقل المنطلق , في المساحة العربية الاسلامية محاولين تشكيل وعي مختلف و مغاير , همُّ هذا الوعي ان يكون حداثوياً جديداً , يسير وفق المعايير العلمية للنهضة التي يواكبها العصر . هذا النفاذ السائر بخوف و ترقب من بطش المجتمع شكل عائقاً حقيقياً أمام النمو الطبيعي للبحث العلمي في المجتمعات العربية و الاسلامية المنكوبة , بغلظة النصوص و الفتاوى و الكثير من رجال الدين .
كل العلماء و الفلاسفة الذين ينتمون الى تلك البيئة المنكوبة , كانوا يملكون وعياً لم يصرّحوا عنه , إختنق ذلك الوعي و مات مع موتهم .
مع كل هذا الحذر و الخوف ترشح لنا من وعيهم ما نستطيع ان نستنج منه علمانية قديمة بلباس ديني ( كابن رشد و عبدالله بن المقفع )
السابقون و اللاحقون من الفلاسفة و المفكرين العرب أرادوا ان يوصلوا رسالة كبيرة وعظيمة , مفادها و استدلالتها قرانية عصرية حديثة , و هي ان لكل زمان معرفته و نصوصه و استنتاجاته الخاصة به , يجب ان يعيش الناس في زمنهم و مرحلتهم , و يتركوا فيه أحراراً لا ان يقمعوا او يقتلوا . يقول جون ستوارت إننا اذا اسكتنا صوتاً نكون قد اسكتنا الحقيقة .
محال جداً ان تعود بنا الى الزمن الماضي لأنه سيُعد نكسة كالتي نعيشها الان , الرجوع الى أي حقبة تأريخية من تأريخ المسلمين من بداية الدعوة الى اخر صحابي , سنجد السيف و الدم , فتشوا في تأريخ أي شخص ترونه جليلاً مؤمناً تقياً لا يأتيه الباطل و لا يروم عمل المنكر , ستكتشفون انه تزوج سبية وربما بعد قتل زوجها , ستجدونهم ملطخين بالدم من الرؤوس و الاقدام و الاعقاب .
سألني احد الذين كانوا مقيدين بالنصوص الدينية بقوة قال : ما رأيك في عمل رسولك عندما تزوج صفية بنت حييّ بعدما قتل زوجها و أهلها و الاسرى من قومها ؟
فأجبته على الفور قلت له هل تعلم كيف تزوجها ؟
انها بمشورة احد اصحابه ولو كنت مع الرسول لأشرت عليه بعكس ذلك الصحابي ان لا يتزوجها و يتركها في قومها و ان يحتجز الاسرى في مكان ما او يعتقهم . اقتنع الرجل بجوابي لكنه بقي مصراً على استهجان فعل الرسول .
على الرغم من ان هذه الاسئلة كانت غير قابلة للعرض و لا للبحث و لا للتفكير فتموت حبيسة مقهورة بدواخل اصحابها ,هذه الاسئلة و غيرها باتت تؤرق الكثيرين من العقول الباحثة المتسائلة , و رجال الدين عاجزون كسالى في البحث و المسايرة مع عمق الاسئلة و جديتها .
ما عادت الاجوبة الماورائية تقنع العقل المتحرك الذي يبحث عن الدلائل العلمية ولم تجدي تلك التبريرات التي تحيل العقل لمشهد غير مرئي و تطلب منك الايمان و التصديق .
في كتابه الفكر الاصولي و استحالة التأصيل يقول الدكتور محمد اركون : كل المسلمات المدعوة ميتافيزيقية يستحيل البت فيها , ولذلك ينبغي ازاحتها من الخط التأريخي الذي يجبرنا العقل الأدواتي على إتباعه .
إصرار الاسلاميين على جر المجتمع الاسلامي للانقياد خلف قيادة (السلف) يستدعي , إصرار عقل اخر مختلف للتنقيب في تأريخ السلف وعندما يُبحث في تأريخ السلف بحثاً علمياً (إبستملوجياً) كما في الدراسة التي قدمها المفكر المغربي محمد عابد الجابري , سيجد الباحث أننا أمام مهزلة حقيقية و سيطلب منا إزاء هذه المهزلة التصديق و الايمان و الاذعان , و إلا ستكون نصوص الفقيه حادة و قاتلة .
نصوص الفقية التي عجزت عن الاجابة و تغيبت عن الحوار العلمي و تهربت من البحث الجاد , سنجدها شاخصة بقوة رافعة رايتها بعدما احاطها الجهال و المخدرون و المنتفعون بصيحاتهم , لدحر كل من يسأل او يفكر .
الاصرار على البحث في ذلك التأريخ الذي تلطخت بالدماء ايدي الجميع من الذين قادوه و صاغوا ثقافته , أكانوا مبشرين بالجنة او لم يكونوا, يستدعي نتيجة مفادها الكفر بذلك التأريخ و الانعتاق حيث اللارجعة .
الذين يريدون إزاحتنا نحو تأريخ ميت هل راجعوا ذلك التأريخ و ما حمله من قسوة و شدة و قهر لعباد الله من المختلفين و المأتلفين معه ؟
في الدراسة التي قدمها ناقد العقل العربي ,محمد عابد الجابري,
يقول : الجاهلية مصطلح اسلامي يقصد به ليس فقط الجهل بمعنى عدم العلم و انتفاء المعرفة بل … ايضاً ما يرافق الجهل و ينتج عنه , أعني به الفوضى و انعدام الوازع الجماعي سياسياً كان ( الدولة ) او اخلاقياً ( الدين ) من هنا تشبيه الجاهلية بالظلماء و الاسلام بالنور فالظلمة تعني هنا الفوضى و التطاحن و غياب افق مستقبلي كما تعني الجهل و عدم تقدير المسؤولية , في حين ان النور يعني الوضوح في العلاقات و المسؤوليات و أيضاً و ضوح الافاق , هذا فضلاً عن حلول النظام محل الفوضى و التضامن محل التطاحن , السؤال المهم , هل حقق الاسلام بالفعل هذا التحول الجذري في حياة عرب الجاهلية ؟
و نستطيع ان نشطر هذا السؤال على عدة اسئلة مشابهة, أسئلة تعمق الجرح لكنها ستدمله بدون مضاعفات سلبية . سنتحفظ عليها الان لكنها ستبزغ ان شاء لها ذلك .
عندما نراجع نصوصنا الدينية و التأريخية سنجد ان الانموذج الاقرب لها في هذا العصر هي ( داعش) لا مناص في ذلك و لا تردد , داعش التي تتقن قراءة القران و حفظ الاحاديث الصحيحة المرسل منها و الآحاد و الضعيف , داعش التي اتبعت منهجية العنف و التفنن عند السلف الصالح ! عندما قام احدهُم بقتل احدهِم ثم قطع رأسه و وضعه منصبة للقدر بعدها اضرم النار لتختلط رائحة الاكل بدم البشر مع نكهة العمل الصالح و غبار الشعر المحترق , ثم يضاجع سيف الله زوجة المقتول لتكون زوجة له في نفس الليلة التي قطعت اوداج الرأس لينفصل عن الجسد بمباركة المسلمين !
لم يكن المسلمون على قدر من المسؤولية البحثية العلمية او الجرأة التي تمكنهم من ادانة المنتمي للدين الاسلامي , بل هناك الكثير من التبريرات المنهالة بقوة لكي تقلب المنكر الى صالح و كذلك العكس .
وجه داعش القبيح ما هو الا توأم لذلك الوجه القبيح الاخر . الوجه التأريخي الذي يتقاتل عليه الداعشيون من سنة و شيعة لأعادتنا له بالقوة . داعش حركت المناخ العربي و الاسلامي بقوة و اضحت الاسئلة و التساؤلات المضمرة و المعلنة شاخصة بقوة أيضاً , أعمال داعش الاجرامية سرعت في مركبة البحث لاكتشاف زيف المقدسات او المحذورات المركونة في اذهاننا بالقوة و الخوف .
لست هنا للمقارنة بين داعش و السلف فهذا أمر ساتركه للقارئ , لكن الذي اريد البوح به , هو أننا بحاجة الى منهجية مختلفة تماماً عما كانوا (السلف ) و كنّا , منهج :
1_ يرحم بعقولنا من التسخيف و المصادرة الى حيث الحرية فيما أفكر او أؤمن به.
كما يرى ابن حزم الاندلسي : لا يحل لأحد ان يقلد أحداً حياً ولا ميتاً و كل أحد له من الاجتهاد حسب طاقته .
2- الاستعانة بالعقل الغربي المتقدم , لم يتخلى العقل العربي من طلب المساعدة من العقل الغربي من زمن بعيد جداً فالمأمون صاحب العقل المتحايل المنطلق استنجد بالثقافة الغربية و لولاها لم يكن المأمون شيئاً .
التصور الشائع ان التقدم يتحقق تلقائياً بواسطة التراكم .. و لكن مسيرة تاريخ الحضارة و واقع المجتمعات المتخلفة يؤكد العكس تماماً فالتخلف هو الاصل أما الخروج من هذا الاصل فيتطلب طاقات استثنائية كافية و أفكاراً تقدمية خارقة و جهوداً واعية كثيفة , كما يقول المفكر السعودي ابراهيم البليهي .
و الحق أني طلّقتُ التأريخ و مزابله وسيرة السلف و نصوص الدين التي كتبت بعد مئتين سنة و أحاديث التلفيق و التصفيق للحاكم لأتركه لداعش و من يشابهها في الرأي و القمع بالسيف او الكلمة . وركنت الى انسانيتي التي تدفعني الى حب الاخر مهما كان لونه او دينه او قوميته .
مصطفى العمري
( من كتابي القادم قراءات معاصرة(