هناك جملة ملاحظات غاية في الأهمية يمكن أن تكون نقاطا محورية ، لما أسفر عنه الحوار الستراتيجي العراقي الأمريكي في جولته الرابعة والأخيرة ، من نتائج مثيرة للإهتمام ، إيجابية وسلبية على مستقبل العراق، ندرجها على الشكل التالي:
1. حاولت الولايات المتحدة في كل جولات الحوار ، وبخاصة الرابعة والأخيرة ، أن تضمن لها شكلا من أشكال الوجود العسكري والسياسي والاقتصادي في العراق، كان التعبير عنه هذه المرة بطرق أخرى مغايرة ، أي من خلال عملية “تلاعب بالألفاظ والمصطلحات” من ” وجود عسكري دائم ” الى “دور إستشاري وتقديم الخدمة” ، على أن يتم تقليص الأعداد لحجم هذا التواجد من 2500 عسكري الى نصف هذا العدد أو أقل منه بكثير.
2. إن ما جرى من تخفيض لحجم التواجد العسكري الامريكي بشكل تدريجي في السنوات المقبلة ، ليس مهما بالنسبة للولايات المتحدة، فالمهم أن تضمن الولايات المتحدة بقاء شكل من أشكال الوجود في هذا البلد ، الذي تنظر اليه على أنه سيبقى ساحة إنطلاقتها لمواجهة تحديات كل من روسيا والصين وايران وسعيها لأن يكون العراق مرتكزا يبعد شبح تمدد محور الشرق بإتجاه العراق ودول الخليج.
3. إن تخفيض عدد القوات العسكرية الأمريكية في العراق خفف عنها بالنتيجة بعض تبعات الإنفاق وتكاليفه الباهضة، التي هي بأمس الحاجة لتقليص حجمه في عموم دول العالم، وليس في العراق فقط، بسبب مترتبات جائحة كورونا، وما واجهته أمريكا من خسائر إقتصادية كبيرة في مشاريعها الاستثمارية وفرصها الإقتصادية لشركاتها الاحتكارية التي راحت تفضل إستخدام مبدأ ” التأجير” بدل التواجد، وهو ما يعود عليها بمنافع اقتصادية، وشركة بي.بي البريطانية وإكسون موبيل”، و”أوكسيدنتال بتروليوم”، و”شلتفكر الامريكية ، بدأت تفكر في الإنسحاب من العراق ، وإن شركة لوك أويل الروسية أرسلت إشعارا رسميا يفيد بأنها تريد بيع حصتها في حقل غرب القرنة-2 لشركات صينية، كما أكد ذلك وزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار.
4. يعد ” مكسب ” الكاظمي الوحيد أنه قد نجح في إستدراج أوتغفيل عقول القوى الرافضة للوجود الأمريكي ، بإنه تعهد لها بحدوث عمليات “إنسحاب أمريكية” من العراق بحلول كانون اول المقبل، وتحويل المهمة من تواجد عسكري و”مهام قتالية” الى مهام “إستشارية وتدريب”، وعدت كثير من تلك القوى أن الحصول على ” مكسب” كهذا يقلل عليها ضغوط ” الفصائل المسلحة” التي تدعمها هي أو تدعمها إيران من وراء ظهرها، وهي تجد في هذا” الإنسحاب ” المزعوم نصرا لها، خلصها من ورطة أمام تلك الفصائل بأنها غير قادرة على مواجهة الخروج عن شرنقتها، وراحت بعض تلك الفصائل تتحكم في القرار ” الشيعي” بطريقة أربكت قواهم ، وأشعرتهم بخطر داهم، إن بقيت توجهات تلك الفصائل خارج إرادتها، وهي أصبحت تاخذ من جرفها خسارات أكثر مما تحقق لها من وسائل دعم، لهذا فأن جميع القوى السياسية ” الشيعية” أبدت ترحيبها بالإتفاق ، على طريقة ” جفيان شر ملا عليوي” للخلاص من تبعات تأييدها المستمر لتوجهات تلك الفصائل التي راحت تخرج عن عبائتها وتريد أن تكون هي ” البديل” عنها!!
5. إن إيران شعرت أن تحريك قضية الأحواز ، وبهذا الشكل الدعائي المثير من التهييج والرفض الجماهيري والخروج بتظاهرات تندد بسياسات خامنئي وأجهزته الأمنية ، والاهتمام بتظاهرات الإيرانيين داخل ايران وفي مدن مهمة ومنها طهران، أظهرها أمام العالم بأنها أصبحت مهددة وضعيفة، وليس بمقدورها تحقيق مكاسب مهمة في الإتفاق النووي مع الغرب والولايات المتحدة في مفاوضات فيينا، وسعت ايران لإمتصاص الغضب الجماهيري بأية طريقة، فقد تسبب لها بإحراج كبير أمام دول الجوار وبخاصة العراق ودول الخليج التي تجد في تأجيج تلك الاضطرابات فرصتها للإنتقام من إيران ، وأظهار أنهم بمقدورهم تحرك أوضاعها الداخلية إن بقيت مصدر تهديد دائم لدول وشعوب منطقة الخليج ، وهو ما خفض من مستوى دعمها للفصائل لكي تنصحها باتجاهات التهدئة مرة وفي التصعيد مرة أخرى حسب حاجة ايران لأن تهديء أو تصعد!!
6. إن الفصائل المسلحة التي ترفع شعار ” المقاومة” شعرت هي الأخرى أنها أمام ” تهديد ” لوجودها إن تخلت إيران عنها فعلا في أي اتفاق نووي قادم مع الغرب، كما أن دعوة مقتدى الصدر لإلقاء سلاحها شكل لها عنصر تهديد، ولهذا أرادت أن تثبت وجودها بأنها ” مقاومة عراقية” ، تدعي أنها خرجت طوعا عن توجهات طهران، وهي ليس رغبة منها ، ولكن لأن المشهد يبدو أمامها ” مأساويا” والمستقبل في علاقاتها مع طهران لن يكون ” مضمونا” في كل الأحوال!!
7. هناك فقرة مهمة أدرجتها الولايات المتحدة لصالحها في الإتفاق الستراتيجي وضمن لها ” مكاسب مستقبلية” كبيرة، وهي أن أي ” تهديد” يأتيها من الفصائل المسلحة سترد عليه مباشرة ودون إشعار للحكومة العراقية، لأنه لم يعد هناك وجود لـ ” قوات إحتلال امريكي، بعد الاتفاق وتحول دورها الى ” “إستشاري” وليس ” قتاليا” ، ما منح الأمريكان ” مكاسب إضافية” أن بمقدرهم تصفية تلك الفصائل متى شاءوا إن هددوا أمنها في العراق، وشكل هذا الامر مصدر قلق للفصائل المسلحة ، بأنها اصبحت ” كبش فداء” للإستهداف في أية لحظة!!
8. ربما يكون الإتفاق قد منح الكاظمي نجاحات بولاية ثانية من خلال إعلانه عن تلك ” المكاسب” المزعومة، أو على الأقل أصبحت الكتل السياسية في موقف الداعم له، بدلا من أن تناصب بعضها العداء له، وتوجه له الإتهامات متى شاءت، وهو يريد التخلص من شرورها بأية طريقة!!
9. ان “المكون السني” ، وان تنفس الصعداء من خلال الإتفاق الأخير، لكنه لم يحقق له ” مكاسب ” ذات معنى، تشعرهم أن بإمكانهم أن يكون لهم “وجود مؤثر” كما يتمنونه، أما الأكراد فهم المستفيد الأكبر من هذا الإتفاق، وضمنوا دعما امريكيا لهم بلا حدود، وقللوا من خطر هجمات الفصائل ضد أقليمهم ، بعد أن كانوا يعانون الأمرين من ضربات توجه لهم قرب أربيل والقاعدة العسكرية الأمريكية ، وقد شعروا اليوم بأنهم ربما أصبحوا أكثر أمانا!!
10. ويبقى الموقف العراقي في كل الأحوال” متشككا” بنتائج هذا الحوار، ويشعر كل من ساسة الشيعة والسنة ، أنهم خسروا كثيرا من مكانتهم ودورهم، ولم يبق لوجودهم دور فاعل، كما كان في الماضي القريب، والدور الآن الذي يشجعه الغرب هو في توجهات لجيل جديد من الشباب، يمكن أن يكون له مستقبل في زمن منظور، ليدير دفة المشهد السياسي، وإن الولايات المتحدة ستتفاعل مع هذا الدور الشبابي الجديد بجدية، بعد إن شعرت ان أغلب الزعامات السياسية العراقية قد إحترقت أوراقها، ولم يعد لديها هذا الثقل المؤثر في ساحة عملها السياسي، حتى أنها راحت تبحث عن تبديل أثوابها، بكسب شباب جدد، ليكونوا هم واجهتها في مستقبل قريب، لكن ” سطوتها” لم يعد لها وجود في هذا البلد!!
11. قد تجرى إنتخابات في الشهر العاشر، وقد تتأجل ، وهو الإحتمال المرجح، لكنها لن تكون ذا تأثير كبير على مستقبل العراق ، في كل الأحوال، وسيبقى الدور العراقي مشلولا ويعاني من عقبات وتحديات داخلية وخارجية ، تحول دون عودة مؤثرة لمستقبله المنشود، لسنوات مقبلة !!